سلطنة عمان... حياد دبلوماسي ووساطة الاستقرار الإقليمي

مصادر أكدت أن الباب لا يزال مفتوحا لمحادثات "النووي"

"المجلة"
"المجلة"

سلطنة عمان... حياد دبلوماسي ووساطة الاستقرار الإقليمي

تطرح دول عدة نفسها كراعٍ محايدٍ للمفاوضات المتوقعة بين الولايات المتحدة وإيران. عرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان استضافة المفاوضات بعد الاشتباك الكبير الذي استمر نحو 12 يوما بين إسرائيل وإيران في يونيو/حزيران الماضي. لكن أبرز المستعدين لاستقبال هذه المحادثات هي سلطنة عُمان، لما لها من دور حديث وسابق في عمليات التفاوض المرتبطة بملفات عديدة تتعلق بإيران، من "المشروع النووي" وإطلاق المعتقلين الغربيين لدى طهران وصولا إلى الأزمة اليمنية.

لم يتم الإعلان بشكل رسمي عن نهاية للمفاوضات الأخيرة المعقودة في العاصمة العُمانية، مسقط، بين واشنطن وطهران. فخلال الغارات وعمليات القصف المتبادل الإسرائيلي-الإيراني، دعا الأميركيون إلى اللقاء، لكن طهران رفضت إرسال وفد يمثلها احتجاجا على الهجمات الإسرائيلية.

انتهت الحرب وبقيت الدعوات للجلوس إلى طاولة التفاوض، مصادر عُمانية أكدت أن الباب لا يزال مفتوحا لإجراء المحادثات حول الملف النووي، وأن أي خطوات تخفض التصعيد في المنطقة هي ضرورة. وترى أنه رغم الحرب السريعة، يبدو أن لدى الأطراف المعنية "عدم رفض حاد" تجاه عقد سلسلة جديدة من اللقاءات بعيدا عن الإعلام، بعدما تغيرت الظروف الميدانية إثر الضربات الإسرائيلية والأميركية للمواقع النووية، بالإضافة إلى استهداف المشروع الباليستي والقيادة العسكرية والأمنية الإيرانية.

التاريخ للتفاوض

عُمان اعتمدت منذ عقود على سياسة خارجية قائمة على الحياد وعدم التدخل، وهو نهج دبلوماسي جعل منها وسيطا موثوقا به في العديد من النزاعات الإقليمية والدولية وخصوصا مع الولايات المتحدة. هذا الدور لم يقتصر على عهد معين، بل امتد عبر إدارات أميركية متعاقبة وبلغ ذروته في عهد باراك أوباما، ويستمر حتى اليوم. ويعود نجاح الدبلوماسية العُمانية إلى عوامل جوهرية عدة، أبرزها علاقاتها المتوازنة مع القوى الإقليمية والدولية كافة، ومصالحها الوطنية التي تسعى إلى تجنيب المنطقة النزاعات العسكرية.

تستند السياسة الخارجية لسلطنة عُمان إلى إرث تاريخي عريق، حيث تربطها علاقات قديمة ومتميزة مع دول العالم

تستند السياسة الخارجية لسلطنة عُمان إلى إرث تاريخي عريق، حيث تربطها علاقات قديمة ومتميزة مع دول العالم، كما أكد الصحافي والباحث العُماني في الشؤون الدولية سالم الجهوَري. هذا النهج الدبلوماسي الثابت يرتكز على مبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، مما مكّن السلطنة من الحفاظ على علاقاتها مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، حتى في أوقات التحولات والصراعات الإقليمية الكبرى. ويشير إلى أن "هذا الحياد لم يتغير واستمرت عُمان على هذا النهج، خاصة مع الولايات المتحدة، رغم أنهما أحيانا لا يتفقان في الرؤى حول بعض المسائل، ولكن استمرار العلاقات هو مصلحة مشروعة، تدفع إلى عدم توقف مسيرة المصالح بين البلدين".

تحديات عدة واجهتها عُمان في موضوع التحولات الإقليمية، ومن خلال علاقاتها المتعددة مع الأطراف في الإقليم كإيران مثلا، وكذلك الدول المؤثرة في المنطقة كالمملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون، استطاعت أن توجد زخما لهذه العلاقة من خلال فتح باب الحوار الذي بقي مشرعا. ويؤكد الجهوَري أن ذلك برز في "ملف الأزمة اليمنية الذي بُذلت فيه جهود من قبل السلطنة مع الأطراف كافة".

لعبت سلطنة عُمان دورا حاسما في استضافة المحادثات السرية التي مهدت للاتفاق النووي الإيراني عام 2015

دور محوري في مفاوضات سبقت الاتفاق النووي 2015

استطاعت عُمان أن تطرح دورها المستقل في ملف العلاقة بين واشنطن وطهران، إثر القبض على ثلاثة سائحين أميركيين عبروا الحدود العراقية إلى إيران عام 2009. ونجحت كوسيط في الإفراج عنهم خلال العامين التاليين، مما دفع المسؤولين الأميركيين إلى التساؤل عما إذا كانت الفرصة الدبلوماسية التي أطلقتها مسقط تستحق مزيدا من المحاولات أم لا.

أ ف ب
وزير الخارجية الايراني عباس عراقجي ونظيره العماني سيد بدر البوسعيدي في مسقط في 12 ابريل

بعدها لعبت سلطنة عُمان دورا حاسما في استضافة المحادثات السرية التي مهدت للاتفاق النووي الإيراني عام 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة). ففي عام 2011 بدأت اجتماعات سرية رفيعة المستوى في مسقط بين مسؤولين أميركيين وإيرانيين، في عهد محمود أحمدي نجاد وقبل وصول حسن روحاني إلى السلطة. هذه الاجتماعات وضعت الأساس للمفاوضات الرسمية التي أدت إلى الاتفاق.

كان من أبرز الشخصيات المشاركة في الوفود الأميركية وكيل وزارة الخارجية وليام بيرنز وجيك سوليفان. أما الوفد الإيراني، فكان يضم مسؤولين لديهم صلاحيات للتفاوض من المرشد الأعلى علي خامنئي. اتسمت المحادثات بأنها غير مباشرة في كثير من الأحيان، حيث كان المسؤولون العُمانيون يتنقلون بين الوفدين، وركزت على جوانب فنية وسياسية حساسة، مثل تخصيب اليورانيوم ورفع العقوبات وإطلاق المعتقلين الغربيين.

ورغم تبدل الإدارات الأميركية، فإن عُمان تستمر في لعب دور الوسيط بين الولايات المتحدة وإيران التي يقودها "المرشد"، خاصة بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في العهدة الأولى للرئيس دونالد ترمب، حيث سعت لاحتواء التوتر ومنع التصعيد، فيما يتعلق ببرنامج إيران النووي وهجمات الحوثيين في البحر الأحمر.

يختلف النهج العماني عن أساليب الوساطة الأخرى في المنطقة في عوامل عدة تميزه، مثل الحياد البنّاء

فرص رئيسة ومساع حميدة

تتمتع سلطنة عُمان بمصداقية عالية لدى جميع الأطراف، مما يمكنها من الحفاظ على قنوات اتصال مفتوحة حتى في أصعب الظروف. ومن المتوقع أن تستمر عُمان في لعب دور الوساطة، وعلى الرغم من عدم نجاحها بشكل كامل حتى الآن، فإن المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف قدّر دور مسقط. ويرى الجهوَري أن سبب هذا التقدير يعود إلى "الموثوقية التي وُسِمت بها الدبلوماسية العمانية ورغبتها في إحلال الأمن والاستقرار، ونظرتها للازدهار الاقتصادي والسياسي في المنطقة مع الدول التي تتقاسم معها الجغرافيا، وخصوصا في دول مجلس التعاون الخليجي ودول الإقليم والعالم التي تربطها معها مصالح متعددة".

ويرى ديفيد شينكر، مدير برنامج السياسة العربية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وهو مساعد سابق لوزير الخارجية الأميركي الأسبق مايك بومبيو، أن "الإدارة الثانية لترمب اعتمدت في الأشهر الستة الأولى لها على كل من عُمان وقطر للوساطة مع إيران ووكلائها الإقليميين". ويشير شينكر في ردّ على أسئلة "المجلة" إلى أنه "على الرغم من أن الوساطة العُمانية الجديدة مع إيران لم تنجح حتى الآن، فإنني لن أتفاجأ إذا استؤنفت المفاوضات الأميركية مع إيران- أو عند استئنافها- بأن تكون عُمان مشاركة فيها بشكل ما"، لافتا إلى أن "مسقط لا يمكنها تقديم سوى مساعيها الحميدة".

 أ ف ب
الاميركيان شاين بوير وجوش فتال اثناء مؤتمر صحافي في مسقط بعد افراج السلطات الايرانية عنهما في 21 سبتمبر 2011

ويؤمن الجهوَري بأن تجارب عُمان الناجحة في حل قضايا معقدة، مثل تبادل المعتقلين الغربيين بالسجناء الإيرانيين وملف الأزمة اليمنية، أكسبتها ثقة المجتمع الدولي، مشيرا إلى أن سلطنة عُمان تحظى بتقدير كبير من عواصم القرار في العالم، مما يعزز قدرتها على إيجاد حلول جادة للمشاكل الإقليمية.

عقبات خلف الباب

في المقابل، يلفت شينكر إلى وجود عقبات عديدة تواجه أي مفاوضات متوقعة، رغم أنه خلال المفاوضات التي سبقت الحرب لم يُسمع أي شيء من الإيرانيين حتى الآن يؤكد وجهة نظر ويتكوف بأن المحادثات "واعدة". ويقول إنه "إذا كانت المواقع النووية الإيرانية قد تضررت بالفعل بشكل كبير خلال الحرب الأخيرة، فمن المحتمل أن تفكر طهران في التخلي عن قدرة لم تعد تمتلكها، أي التخصيب". ويشير إلى التخوف من "فقدان" نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم عالي التخصيب، حيث إن إيران ما زال لديها بعض أجهزة الطرد المركزي، ما يمكنها أن تختار محاولة الاستمرار في برنامجها وإعادة بناء قدراتها. وينبه شينكر إلى أنه "من غير المرجح أن تختار إيران إنهاء مشروعها للتخصيب من خلال المفاوضات، ومناقشة التخلي عن برنامجها الصاروخي، أو إنهاء دعمها لوكلائها الإقليميين". معتبرا أن النظام تضرر، ولكنه لا يزال ملتزما بأيديولوجيته.

بعد التصعيد المباشر بين إيران وإسرائيل، أصبحت الأجواء أكثر تعقيدا. ولهذا، قد تتركز المحادثات المستقبلية بشكل أكبر على آليات خفض التصعيد الإقليمي ومنع الانزلاق إلى حرب أوسع، بدلا من السعي لاتفاق نووي شامل، وفق ما ترى مصادر متابعة. وتشير إلى أن أي خطوات تخفض التصعيد في المنطقة هي ضرورة أكثر مما هي مجرد وساطات.

ويختلف النهج العماني عن أساليب الوساطة الأخرى في المنطقة في عوامل عدة تميزه، مثل الحياد البنّاء، فمسقط لا تصطف مع أي طرف، مما يمنحها مصداقية وثقة، على عكس بعض الدول التي قد تكون طرفا في النزاع أو متحيزة. كما تُعرف الدبلوماسية العمانية بالسرية التامة، وتجنب الأضواء الإعلامية، مما يوفر بيئة آمنة للمفاوضات الحساسة. ويضاف إلى ذلك أن هناك قبولا متزايدا بأن تلعب عمان دور "المبعوث الخليجي غير المعلن" لخفض المخاطر والتصعيد.

المرحلة المقبلة لإعادة انطلاق التفاوض تحتاج إلى "نية" للتنازلات الصعبة مع هدوء سياسي يرافق وقف الحرب، يضاف إليها حركة دبلوماسية تستطيع عُمان تقديمها

تحديات أمام الدبلوماسية العُمانية

تواجه الجهود الدبلوماسية العُمانية تحديات كبيرة في سعيها لتحقيق السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. أولها التصعيد الإقليمي، حيث تؤدي المواجهات العسكرية المباشرة، مثل الهجوم الإسرائيلي على إيران، إلى إلغاء جولات المحادثات وتصعيب الأجواء التفاوضية.

ويؤكد الجهوَري أن الجهود التي تبذلها مسقط لا تتوقف، فهي "تسعى لعودة الأطراف مرة أخرى إلى طاولة المفاوضات من أجل إنهاء هذا الملف"، فالحرب لها تأثيرات على كافة الأطراف ومنها دول المنطقة، لتعمل مسقط على استكمال الحوار الذي يؤدي إلى تفاهمات واتفاقيات.

ويتخوف المتابعون من أن يؤدي تعدد مراكز القرار في طهران إلى تأخير سلبي في المفاوضات، فالحكم في إيران ذو رؤوس متعدة، هناك "المرشد" ومعه "مجلس تشخيص مصلحة النظام" الذي له دور رئيس في رسم السياسات الداخلية والخارجية، وبعده "الحرس الثوري" الذي يدير جزءا من الأعمال الخارجية عبر "الأذرع"، وتليه بالترتيب رئاسة الجمهورية والحكومة التي تمارس الدور العلني للسياسات والمفاوضات ولكنها كما العادة ليس لها دور حقيقي في القرار وتستخدم كواجهة تنفذ سياسات "المرشد". ويشير هبوط الطائرة الإيرانية في مسقط خلال الحرب الأخيرة، والتي نفت الحكومة الإيرانية علاقتها بها، إلى أن الحرس الثوري أو مكتب المرشد الأعلى له الدور الأكبر في فتح خطوط وفي الزيارات غير المعلنة، مما يعقد أو يسهل عملية التفاوض. وأبرز مثال على عدم وجود دور تقريري للحكومة هو نشوب الحرب المباشرة الأولى بين إيران وإسرائيل في عهد الإصلاحي مسعود بزشكيان الذي كان برنامجه الانتخابي يعتمد على التفاوض مع الغرب وتخفيف العقوبات التي تكبل اقتصاد بلاده.

المرحلة المقبلة لإعادة انطلاق التفاوض تحتاج إلى "نية" للتنازلات الصعبة مع هدوء سياسي يرافق وقف الحرب، يضاف إليها حركة دبلوماسية تستطيع عُمان تقديمها. ولكن من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت إيران جادة بشأن المفاوضات، وفق ما يقول شينكر. أما المؤكد في هذه الحالة فهو أن ترمب يريد السلام والتكامل الإقليمي، والتوصل إلى اتفاق مع الإيرانيين، يتنازل فيه عبر دعم مالي اقتصادي بدأ الحديث عنه مقابل تطبيع العلاقات من طهران إلى واشنطن وما بينهما من دول "عدوة" وصديقة.

font change

مقالات ذات صلة