الجيش اللبناني و"حزب الله" في أطلال بلاد منكوبة... حوار مع باحث فرنسي

"المجلة" حاورت جوناثان حاسين حول كتابه "الجيش والدولة في لبنان الحروب"

جندي من الجيش اللبناني يحرس برجًا أعلى ناقلة جنود مدرعة متمركزة في مخيم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين في الضاحية الجنوبية لبيروت في 21 أغسطس 2025

الجيش اللبناني و"حزب الله" في أطلال بلاد منكوبة... حوار مع باحث فرنسي

في بلاد اقترب كل شيء فيها- عمرانُها وقوانينها ومؤسساتها السياسة والإدارية والعسكرية- من أن يصير أطلالا، يعيش لبنان وأهله اليوم انسدادا متجددا بين قرار حكومي (لا يزال حبرا على ورق) بحصر بقايا سلاح "حزب الله" والمنظمات الفلسطينية في يد سلطات دولة منهكة مفككة، وبين تهديد أمين عام "الحزب" المذكور نعيم قاسم بـ"كربلاء جديدة" استدعى صورتها من زمن يعود إلى 1500 سنة. وهذا إذا أصرت الحكومة على تنفيذ قرارها الذي كلفت الجيش اللبناني بوضع خطة لتنفيذه، تتضمن جدولا زمنيا لجمع السلاح في مدة لا تتجاوز نهاية السنة الحالية. على أن يقدّم الجيش خطته للحكومة قبل نهاية هذا الشهر، أغسطس/آب 2025، فتناقشها وتعمل على إقرارها.

ويترد في الإعلام أن الجيش اللبناني شرع بوضع خطته، فيما مسيّرات إسرائيل الحربية تواصل غاراتها اليومية تقريبا، فتقتل أو تغتال من تعتبرهم مقاتلي "حزب الله" الصامت صمتا عسكريا شاملا، منذ موافقته على وقف إطلاق النار على إسرائيل في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

بلى يخرق "الحزب المقاوم" التزامه الصمت العسكري أو الحربي، فيبث شرائط فيديو يصور فيها مقاتليه يؤدون مشاهد قتالية دعائية. وهذا في سياق رفضه قرار الحكومة، ولتعبئة جمهوره وتحريضه، إلى جانب إطلاقه مظاهرات فتياته على دراجاتهم النارية في الشوارع.

أما الجيش اللبناني فليست هذه المرة الأولى التي يُعهد إليه القيام بمهمة تتصل بتبعات الحروب الأهلية والإقليمية في لبنان منذ عام 1975. وكان آخر تلك المهام انتشاره على حدود لبنان الجنوبية، بعد حرب يوليو/تموز 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل. ومنذ ذاك التاريخ ساد هدوء حذر على تلك الحدود، وانصرف "حزب الله" إلى مضاعفة قوته وترسانته العسكرية وخطاباته الانتصارية، والسيطرة على الحكومة والحكم ومفاصل الدولة اللبنانية وعزلها عن العالم. ثم سرعان ما هبَّ "حزب مقاومة إسرائيل" إلى التورط بحماسة شديدة في الحرب الأهلية السورية. وعندما انهار لبنان ماليا واقتصاديا وسياسيا، ولم تعد المؤسسة العسكرية قادرة على إطعام جنودها، لم تكترث بذلك أوليغارشيات السلطة والنهب. أما "حزب الحروب الدائمة" فبادر إلى حرب "إسناد غزة" ضد إسرائيل، التي أدت في شهريها الأخيرين من العام 2024 إلى أن تشلّ إسرائيل قدراته العسكرية والقتالية والقيادية وتدمير معظمها.

الجيش اللبناني كان في مساره وتاريخه مرآة تعكس هشاشة الدولة اللبنانية المهددة بشقاق جماعاتها الأهلية الطائفية، وبعدم قدرة جيشها على البقاء متماسكا

أما الجيش اللبناني فيعاني من ضعف بنيوي مديد في العتاد والتجهيز والتدريب. فلا يسدُّ عجزَه دعمٌ دولي وعربي ضئيل، قياسا إلى حاجاته الضرورية، وسط الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي الماحق، وبينما كانت سطوة "حزب الله" وخطب أمينه العام السابق حسن نصرالله، تتعملقان في الكلام على "وحدة الساحات و"توازن الرعب" و"تدمير" إسرائيل، "الأوهن من بيت العنكبوت".

غيتي
الرئيس اللبناني سليمان فرنجية يستعرض القوات العسكرية خلال احتفال عيد الجيش في بيروت

والحق أن الجيش اللبناني طوال تاريخه، كان مؤسسة عسكرية على قدر ما هي منزوعة القوة والفاعلية والدور في المجالين العسكري والسياسي رسميا وفي المعلن. وكان يعبّر عن ذلك ويختصره في زمن ما قبل الحروب، ذاك الشعار الشهير: "قوة لبنان في ضعفه". وهو شعار صاغه وراح يردده بيار الجميل (1905-1984) زعيم حزب "الكتائب اللبنانية" المسيحي ومؤسسه في أواخر ثلاثينات القرن العشرين.

والجيش اللبناني في هذا على خلاف جيوش الجمهوريات العربية السلطوية والعسكرية بعدما استولت على سلطاتها نخب من ضباط، تسلطوا على بلدانهم بإطلاقهم شعارات خطابية شعبوية عن التحرر من الاستعمار وتحرير فلسطين السليبة، فلم تفض شعاراتهم إلا إلى هزائم مدوية وحروب أهلية داخلية.

 

لكن الجيش اللبناني كان في مساره وتاريخه مرآة تعكس هشاشة الدولة اللبنانية المهددة بشقاق جماعاتها الأهلية الطائفية، وبعدم قدرة جيشها على البقاء متماسكا، بل ينقسم ويتشظى كلما دبَّ نزاع بين الجماعات. وقد يُعتبر استثناء عدم انشقاق هذا الجيش في أثناء الاحتراب الأهلي المصغر عام 1958. ويكثر الحديث عن دور قائده آنذاك، فؤاد شهاب (1902-1973)، في عدم توريط الجيش بذاك الاحتراب الصغير. لكن بعد "اتفاق القاهرة" بين السلطة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969، بدأ الجيش اللبناني يعيش حالا من الاضطراب والانقسام الداخليين المكتومين أو الملجومين حتى انفجار الحرب الأهلية في عام 1975، وانقسامه وتشتته ومشاركته في الحرب وإعادة بنائه لمرتين أو ثلاث.

كان صغار الضباط المسلمين يعيشون إحباطا حيال السياسات العليا للدولة اللبنانية، وسكوتها عن اعتداءات إسرائيل على الجنوب

الجيش والتجاذب السياسي

الباحث الفرنسي من أصل لبناني جوناثان حاسين نشر قبل نحو شهرين كتابا يؤرخ فيه لحال الجيش اللبناني ودوره في الحروب الأهلية. عنوان الكتاب الصادر بالفرنسية "الجيش والدولة في لبنان الحروب". وقد التقت "المجلة" مؤلف الكتاب وحادثته في بيروت حول أوضاع الجيش اللبناني، انقساماته ومشاركته في الحرب في سنواتها الطويلة. وقد خَلُص الباحث إلى صعوبة خروج مجتمع مزقته حروب أهلية، كالمجتمع اللبناني، من انقساماته، وصعوبة بناء جيش وطني متماسك في هذه الحال.

ويرى حاسين أن الأزمة التي عصفت بالمؤسسة العسكرية غداة "اتفاق القاهرة" كانت لها سوابقها المتمثلة بانتقاد فئة واسعة من المسلمين واليساريين اللبنانيين الجيش اللبناني انتقاداتٍ عنيفة، لأنه لم يشارك في حرب يونيو/حزيران 1967 العربية ضد إسرائيل. وقد تواصلت هذه الحملة على الجيش في خضم الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية فيه، وسكوته وعدم رده عليها. هذا فيما راح المجتمع اللبناني ينقسم عموديا وطائفيا للأسباب عينها. وفيما كانت جماعات مسلمة ويسارية تتظاهر وتتدرب وتتسلح لمساندة الفلسطينيين ضد تقاعس الجيش، كان الشارع المسيحي يتظاهر بدوره دعما للجيش وموقفه، والتحاما به.

وكانت مخابرات الجيش المهيمنة في تلك الحقبة- أي "المكتب الثاني" الشهابي، نسبة إلى فؤاد شهاب (قائد الجيش ومؤسسه ورئيس الجمهوربة بعد حرب 1958 الأهلية الصغيرة- قد نظمت، حسب الباحث حاسين، حملة إعلامية (بروباغندا) لنفي وقائع الاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب، وحمل بعض الصحف على تجاهلها. وفي تقصّيه بيّن الباحث أن الجيش كان "مؤسسة سلطوية يمينية محافظة" تغلب عليها الاستجابة لمشاعر الكتلة المسيحية ووطنيتها اللبنانوية الخاصة، وصاحبة الأرجحية في الحكم والسلطة. لكن ازدواجية الأوامر والمعايير وفوضاها في المؤسسات، كانت- بشهادة ملحق عسكري فرنسي في لبنان- حاضرة وقائمة في الجيش وحول دوره. وفيما كان الرأي العام في الشارع منقسما حول دوره، كانت السلطة السياسية اللبنانية تصدر أوامرها لقيادته بعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، بينما يدرّب ضباطٌ منظمات أهلية مسيحية لمجابهة المسلحين الفلسطينيين الذين ينفذون عمليات عسكرية من جنوب لبنان ضد إسرائيل.

عندما كان الضابط مرتبة اجتماعية أكثر منها عسكرية

استنادا إلى شهادات ضباط متقاعدين جمعها حاسين، كان صغار الضباط المسلمين يعيشون إحباطا حيال السياسات العليا للدولة اللبنانية، وسكوتها عن اعتداءات إسرائيل على الجنوب. لكن إحباطهم ذاك كان ينطوي على بعد اجتماعي لم يكن ظاهرا قبل الإصلاحات الشهابية بعد حرب 1958 الأهلية الصغيرة.

المدرسة الحربية كرست لدى من يدخلونها ويصيرون ضباطا، التصرف والسلوك كأنهم حازوا مرتبة اجتماعية سلطوية، تكاد تخلو تقريبا من متانة الخبرات المهنية العسكرية

ومن تلك الإصلاحات: فتح أبواب المدرسة الحربية ليدخلها ضباط من بيئات اجتماعية مسلمة متواضعة، تحت شعار المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في مؤسسات القطاع العام. لكن قانون المناصفة في المدرسة الحربية تأخر تطبيقه حتى منتصف الستينات، بسبب عدم توافر عدد كافٍ من المسلمين يحوزون الشهادة الثانوية، مؤهلين للدخول إلى المدرسة الحربية وراغبين في ذلك. هذا في مقابل وفرة المسيحيين المستوفين شروط دخولها، وهم في الغالب من خريجي المدارس الإرسالية والرهبانية.

وقد أتاح المشروع الشهابي- وهو وسّع قاعدة التعليم الرسمي لتستوعب أبناء فئات مسلمة متواضعة- لأبناء هذه الفئة التقدم إلى المدرسة الحربية ودخولها. لكن هذا لم يواكبه تغيير في أساليب التربية والتنشئة العسكريتين والأخلاقيتين، القائمتين تقليديا على التمييز والتمايز الاجتماعيين.

ذلك أن المدرسة الحربية كرست لدى من يدخلونها ويصيرون ضباطا، التصرف والسلوك كأنهم حازوا مرتبة اجتماعية سلطوية، تكاد تخلو تقريبا من متانة الخبرات المهنية العسكرية. أو أن المدرسة الحربية لم تكن تضع تلك الخبرات في أولوياتها المكرسة لولاءٍ خطابي للجيش والوطن، ينطوي على تشاوف مرتبي، يتصدّره المسيحيون على المسلمين في الحياة والعلاقات اليومية داخل المؤسسة العسكرية وخارجها.

تفشي الريبة والشك والضياع

في شهادات سجلها جوناثان حاسين لضباط مسلمين متقاعدين، ودخلوا المدرسة الحربية في النصف الثاني من الستينات، تحدثوا عن شعورهم القديم بنفورهم منها جراء التراتب والتمايز الاجتماعيين فيها لصالح المسيحيين. وهم تحدثوا أيضا عن رغبتهم الدفينة آنذاك في العمل على تغيير  سياسات المؤسسة العسكرية وأنظمتها وتركيبها. وكان هؤلاء من المشاركين في المظاهرات الطلابية الاحتجاجية على سياسات الحكم والجيش في لبنان، بعدما سمح "المكتب الثاني" بفوزهم وأمثالهم في الدخول إلى المدرسة الحربية التي لم يكن يتساهل قط من قبل مع من كانت لديهم ميول تشبه ميولهم.

وكانت دورة دخول المدرسة الحربية لسنة 1973- وهي السنة التي حدثت فيها اشتباكات واسعة النطاق بين الجيش اللبناني والمنظمات الفلسطينية- دورة مشهورة بأعلى رقم تلاميذ ضباط دخلوا المدرسة تلك في تاريخها: 250 ضابطا مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وكان عدد كبير من مسلميهم خريجي مدارس رسمية في المناطق، وشاركوا في مظاهرات "نصرة العمل الفدائي الفلسطيني في لبنان"، والاحتجاج على تضييق السلطات اللبنانية (والجيش تحديدا) حرية تحرك المنظمات الفلسطينية المسلحة، وقيامها بعمليات عسكرية ضد إسرائيل. وحسب الباحث حاسين فإن كثرة من هؤلاء الضباط التحقوا بـ"جيش لبنان العربي" الذي انشق عن المؤسسة العسكرية بقيادة الملازم أحمد الخطيب في أثناء حرب السنتين الأهلية (1975-1976).

إعادة بناء الجيش الموحد في بدايات عهد أمين الجميل الرئاسي (1982-1988) استنزفت مقدرات مالية ضخمة من موازنات الدولة. وهي سرعان ما ذهبت هباء بانشقاق الجيش سنة 1984

وقد تحدث بعض أولئك الضباط في شهاداتهم عن التمييز الطائفي الاجتماعي والمرتبي داخل المؤسسة العسكرية. وخصوصا في السنوات الأخيرة من الستينات والنصف الأول من السبعينات: شعورهم بأنهم مراقبون وموضع ريبة ومشكوك في ولائهم للجيش والدولة. وفي مقابل السماح للضابط المسيحي بأن يدخل الكنيسة ويحضر قداديس الآحاد بلباسه العسكري، كان يُمنع الضابط المسلم من دخول المسجد إلا بلباس مدني. وكان العسكريون المسلمون الذين يصومون ويصلون مثارا لدهشة وريبة زملائهم المسيحيين. وكان هذا يشمل استماع المسلمين إلى إذاعة "صوت العرب" القاهرية الناصرية، وإلى الأغاني المصرية.

وخلص الباحث حاسين إلى أن الجيش اللبناني في النصف الأول من السبعينات، أي في خضم مجابهاته وصداماته الأوسع والمحدودة مع المنظمات الفلسطينية المسلحة، فَقَدَ وحدة العقيدة ومعايير التصرف والسلوك العملاني في مواقعه على الأرض، لتحل محلها- حسب شهادة ملحق عسكري فرنسي في لبنان- ازدواجية في الأوامر والأحكام والتصرفات الميدانية. فلا توجيهات واضحة ومحددة للجنود والضباط، بل تُرك لهم اختيار التصرف المناسب حسب كل وضع وحالة وظرف في مواقعهم. ثم تفشت الريبة بين العسكريين. فبعض المسلمين منهم متحمسون لـ"الفدائيين" الفلسطينيين، فيما المسيحيون عموما يكنون لهم الكراهية والعداوة.

حتى إن أحد الضباط المسيحيين الكارهين لـ"الفدائيين" أوقف مرة على حاجز عسكري شحنة أسلحة لهم، فجرى بعد ذلك نقله من موقعه، إما خوفا عليه وإما لأن فعلته أثارت لغطا وانقساما بين الجنود.

انشقاقات وإفلاس وولاء لسوريا الأسد

تعرضت المؤسسة العسكرية اللبنانية إلى انشقاقات عدة في سنوات الحروب الأهلية الإقليمية (1975-1990)، وفي كل من منعطفاتها الكبرى:

- انشقاق "جيش لبنان العربي"، وهو الأكبر في حرب السنتين (75-76)، وشمل الثكنات والمواقع العسكرية كلها في مناطق الأكثرية المسلمة.

- انشقاق "جيش لبنان الجنوبي" في الشريط الحدودي الذي احتلته إسرائيل ما بعد عام 1973، ودخول "قوات الردع العربية" إلى لبنان، والتي سرعان ما صارت سورية صافية.

- انشقاق "اللواء السادس" في بيروت الغربية ما بعد "انتفاضة 6 فبراير/شباط 1984. وذلك بعد توحيد الجيش وإعادة بنائه في عهد إلياس سركيس الرئاسي (1976-1982).

أ ف ب
يلوح أحد أنصار حزب الله بعلم الجماعة أمام قوات الجيش اللبناني، بينما يحرق المتظاهرون الإطارات لإغلاق الطريق المؤدي إلى مطار بيروت الدولي، في 7 فبراير 2025

وكانت إعادة بناء الجيش الموحد في بدايات عهد أمين الجميل الرئاسي (1982-1988) قد استنزفت مقدرات مالية ضخمة من موازنات الدولة. وهي سرعان ما ذهبت هباء بانشقاق الجيش سنة 1984. ولما تولى قائد الجيش ميشال عون رئاسة الحكومة في عام 1988، بعد تعذر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كانت العملة اللبنانية قد شرعت تنهار قيمتها، فلم يعد في وسع الشطر الذي يقوده عون من الجيش في حروبه الدفاعية عن وزارة الدفاع والقصر الجمهوري في الفياضية وبعبدا، تمويل حاجات ذاك الجيش. لذا شرعت وحداته العسكرية- حسب شهادات سجلها الباحث جوناثان حاسين في كتابه- التصرف كالميليشيات في سد بعض احتياجاتها من نهب ما تبقى من تجهيز البيوت المهجورة والمتصدّعة (ألومنيوم، حديد، نوافذ، وأدوات صحية) وبيعها في السوق السوداء.

حال الجيش اللبناني اليوم ليست بأفضل من حال لبنان الذي تعرض، أقله منذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، إلى أزمة مديدة بلغت ذروتها في عهد ميشال عون الرئاسي

أما حين جرى توحيد الجيش بعد "اتفاق الطائف" وتوقف الحرب في عام 1990، فقامت عملية التوحيد وفق عقيدة أيديولوجية جديدة أساسها الولاء لسوريا الأسد. وقد نص "الطائف" على "شرعية سلاح حزب الله" من دون سائر الميليشيات المسلحة، بصفته سلاحا لـ"مقاومة إسرائيل"، وحتى تحرير المناطق الجنوبية من الاحتلال الإسرائيلي.

أُحيل الجيش اللبناني إلى ما يشبه التقاعد ما بعد "اتفاق الطائف"، واقتصر دوره على تسهيل أعمال "المقاومة" التي يقوم بها "حزب الله". وقد تكون وضعية الجيش هذه من بواعث اختيار قادته ما بعد "الطائف" رؤساء للجمهورية: إميل لحود وعهده (1998-2007). ميشال سليمان (2008-2014). ميشال عون (2016-2022) الذي انقلب من عداءٍ حربي لـ"حزب الله" وسوريا الأسد إلى أقوى حليف لهما في البيئة المسيحية.

أ ف ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون أثناء اجتماع مع نظيره القبرصي نيكوس خريستودوليديس في القصر الرئاسي في نيقوسيا خلال زيارته الرسمية الأولى إلى الجزيرة الواقعة في شرق البحر الأبيض المتوسط ​​في 9 يوليو 2025

أما انتخاب قائد الجيش جوزيف عون رئيسا للجمهورية في مطالع عام 2025، فكرس القاعدة التي رست ما بعد "الطائف"، لكنه انقلب عليها بفعل حرب "إسناد غزة" التي قوّضت سلطان "حزب الله" على الدولة ومؤسساتها في لبنان، بل دمرت قوته وقدرته العسكريتين، وتركته عاجزا عن الرد على عدوان إسرائيل اليومي على بقايا مواقعه العسكرية، واغتيالها محازبيه وعناصره فور خروجهم من بيوتهم ومخابئهم.

لكن حال الجيش اللبناني اليوم ليست بأفضل من حال لبنان الذي تعرض، أقله منذ اغتيال رفيق الحريري في عام 2005، إلى أزمة مديدة بلغت ذروتها في عهد ميشال عون الرئاسي: انهيار مالي واقتصادي وسياسي ماحق. عزلة عربية ودولية شديدة. انفجار مرفأ بيروت الصاعق والمدمر. تحوّل "حزب الله" إلى تنظيم عسكري يتولى مهمات عسكرية كبرى، إقليمية ودولية في خدمة السياسات الإيرانية، من سوريا الأسد إلى عراق "الحشد الشعبي" وصولا إلى يمن "أنصار الله" الحوثيين... وهذا قبل أن تقوض قوة إسرائيل العدوانية المدمرة أوهام "محور الممانعة" ووحدة ساحاتها من بيروت إلى صنعاء، مرورا بدمشق وبغداد.

شعار الأمنيات والخطيئة

على الرغم من قرار الحكومة اللبنانية الأخير "حصر السلاح في يد سلطات الدولة الدستورية الرسمية"، وطلبها من الجيش وضع خطة لتنفيذه، قد يظل القرار شعارا ترتجيه فئات واسعة وغالبة من اللبنانيين، فيما ترى فئة أخرى غالبيتها الساحقة من شيعة لبنان، أنه مظلمة لها ما بعدها مظلمة، واعتداء على كينونتها وشرفها وحقها الذي تعدّه مقدسا.

لا الجيش ولا الحكومة يسعهما تغيير مثل هذا الواقع الذي تلابس أشكالا وألوانا تماثله وتشبهه تاريخ لبنان كله، فتتحكم بمصيره ومصير جماعاته التي لا يجمعها سوى إصرارها شبه القدري على التنافر والتنازع والاقتتال كلما دعتها حاجة داخلية تنعقد على حاجات قوى إقليمية ودولية.

font change

مقالات ذات صلة