الصين تحلّق بالطاقة وتبني أول مزرعة شمسية فضائية

تهدف لإنتاج 100 مليار كيلوواط/ساعة سنويا ودعم الحياد الكربوني في 2060

غيتي
غيتي
الطاقة الشمسية من الفضاء تستمر دون توقف في خارج اوقات النهار

الصين تحلّق بالطاقة وتبني أول مزرعة شمسية فضائية

تشهد الصين طفرة ملحوظة في مجالي الطاقة المتجددة وتكنولوجيا الفضاء، حيث تسعى إلى تحقيق إنجاز غير مسبوق من خلال بناء محطة طاقة شمسية ضخمة في مدار الأرض (Space‑Based Solar Power – SBSP). يهدف هذا المشروع إلى توفير طاقة نظيفة ومستدامة بشكل شبه دائم، مستغلة الإمكانات الهائلة لأشعة الشمس في الفضاء الخارجي.

هذه الخطة، التي تُعرف باسم "مشروع الطاقة الشمسية الفضائية الصيني" الذي بدأ العمل عليه منذ عام 2019، تمثل قفزة نوعية في مجال الطاقة المتجددة وتحديا هندسيا هائلا.

مفهوم المشروع وأهدافه

يعتمد المشروع على إنشاء محطة طاقة شمسية في المدار الأرضي الثابت (36,000 كيلومتر)، حيث تتوفر أشعة الشمس بشكل مستمر دون عوائق الطقس أو تعاقب الليل والنهار. تجمع ألواح شمسية عملاقة الطاقة، تحولها إلى موجات ميكروويف أو ليزر، ثم ترسلها إلى محطات استقبال أرضية لتغذية الشبكات الكهربائية.

تعمل الصين على انتاج طاقة نظيفة بكفاءة تفوق المحطات الأرضية بعشر مرات، مع هدف إنتاج 100 مليار كيلوواط/ساعة سنويا، أي ما يعادل طاقة النفط المستخرج عالميا في عام واحد

وتهدف الصين من وراء هذا المشروع إلى تحقيق أهداف استراتيجية عدة، أبرزها توفير انتاج طاقة نظيفة بكفاءة تفوق المحطات الأرضية بعشر مرات، مع هدف إنتاج 100 مليار كيلوواط/ساعة سنويا، أي ما يعادل طاقة النفط المستخرج عالميا في عام واحد. كذلك، تسعى الصين إلى تلبية الطلب المحلي المتزايد على الطاقة مع دعم هدف الحياد الكربوني في 2060، والتخلص من الاعتماد على الوقود الأحفوري من خلال التحول إلى مصادر طاقة متجددة، وهو ما يتوافق مع التزاماتها الدولية في مجال تغير المناخ.

يمكن المشروع أيضا الصين من تعزيز الريادة التكنولوجية في مجالي الفضاء والطاقة المتجددة. عام 2022، بدأت الصين اختبارات أولية في منشأة بيشان بتشونغتشينغ (جنوب غرب الصين)، التي تُعد مركزا رئيسا لتطوير تقنيات المشروع، مستخدمة محطة "تيان جونغ" الفضائية لتجربة تقنيات التجميع ونقل الطاقة.

الجمعية الوطنية للفضاء
نموذج لتصميم أولي للمشروع طاقة كهربائية في الفضاء تم تصنيعه بواسطه علماء صنيين في كوريا الجنوبية

ويعد المشروع بتوفير آلاف فرص العمل في قطاعات الفضاء والطاقة، ويعزز صادرات الصين من التقنيات المتقدمة، مثل الألواح الشمسية الفضائية، مما يدعم النمو الاقتصادي.

تصميم خزان الطاقة الفضائية

من خلال ألواح شمسية عملاقة بعرض كيلومتر مثبتة على قمر اصطناعي، سوف تتموضع المحطة الشمسية الفضائية في المدار الثابت، مما يعني أنها ستبقى دائما فوق النقطة نفسها على سطح الأرض، مما يضمن استمرارية التغطية الشمسية دون انقطاع.

تتخذ المحطة شكلا يشبه "سدّ خزان للطاقة" في الفضاء، في إشارة إلى مشروع سد الممرات الثلاثة (Three Gorges Dam) وهو أكبر سد مائي هيدروليكي في العالم، يقع على نهر اليانغتسي في الصين، ويشتهر بقدرته على توليد الطاقة الكهرومائية، وتنظيم الفيضانات، وتحسين الملاحة، ويفوق سد هوفر الأميركي بأكثر من عشرين ضعفا. وقد عبر أحد العلماء الصينيين الكبار، لونغ لهاؤ (Long Lehao) عن ذلك الوصف بقوله "كأنّك تنقل سدَّ الممرات الثلاثة إلى ارتفاع 36,000 كيلومتر فوق الأرض".

يواجه المشروع تحديات تقنية ومالية كبيرة، إذ يثير نقل الطاقة عبر الميكروويف أو الليزر مخاوف بيئية وصحية، خصوصا تأثير الأشعة الكهرومغناطيسية على الاتصالات والحياة البرية

لهاؤ، وهو كبير مصممي سلسلة صواريخ الإطلاق، صرّح في شهر يونيو/حزيران الماضي، بأن صاروخ الإطلاق "لونغ مارش 9" (Long March 9) الذي هو قيد التطوير، سيُستخدم في المراحل المتقدمة من المشروع لحمل أجزاء من محطة طاقة شمسية فضائية سيتم تجميعها في مدار حول الأرض. ويستطيع الصاروخ حمل ما يصل إلى 150 طنا لكل إطلاق، ومن المتوقع أن يكون جاهزا في 2030، بحسب تقارير وكالة الفضاء الصينية.  

غيتي
ألواح على جانبي محطة فضائية دولية في الفضاء

ووفقا للعالم لهاؤ، إذا أثبت النموذج الأولي للمحطة جدواه، فستبني الصين في عام 2050 محطة طاقة شمسية ستوفر طاقة بحجم غيغاواطات عدة (الغيغاواط الواحد يساوي 1000 ميغاواط).

الجدول الزمني للمراحل التنفيذية المتوقعة

اعتمدت الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا الفضاء (CAST) ، خطة مكونة من مراحل عدة. وقد بدأت المرحلة الأولى عام 2022 وتمتد حتى عام 2028، وهي مرحلة مخصصة لإجراء اختبارات أولية في مدار منخفض لنقل الطاقة باستخدام أقمار صغيرة بقدرة 10 كيلوواط. وقد نجحت الصين في اختبار نموذج أولي عام 2022 في منشأة بيشان، وستواصل اختبارات المرحلة الأولى حتى 2028، مع توسيع نطاق التجارب لاحقا.

وفي عام 2030، من المخطط إطلاق محطة تجريبية بقدرة 1 ميغاواط في المدار الثابت، للتحقق من نقل الطاقة عبر 36,000 كيلومتر، ليصار بعدها، في عام 2035، إلى تطوير محطة بقدرة 10 ميغاواط مع تحسين تقنيات التجميع والنقل، وصولا إلى عام 2050، موعد إنشاء محطة تجارية بقدرة تصل إلى غيغاواطات عدة (تقدر بـ2-10 غيغاواط بحسب التطورات التكنولوجية)، تتطلب نقل أكثر من 10,000 طن من المعدات عبر مئات الإطلاقات بصواريخ "لونغ مارش".

التحديات التقنية والمالية

يواجه المشروع تحديات تقنية ومالية كبيرة، إذ تُقدر تكاليف الإطلاق والتجميع بمليارات الدولارات، مما يتطلب صواريخ قابلة لإعادة الاستخدام لتقليل النفقات.

كما يثير نقل الطاقة عبر الميكروويف أو الليزر مخاوف بيئية وصحية، خصوصا تأثير الأشعة الكهرومغناطيسية على الاتصالات والحياة البرية. وتستثمر الصين 28,4 مليون دولار في منشأة بيشان لدراسة هذه الآثار. وتشمل بروتوكولات الأمان تصميم أشعة ميكروويف منخفضة الكثافة لتجنب التأثير على الطيران أو الحياة البرية، مع اختبارات مستمرة لتقليل التداخل مع أنظمة الاتصالات. وتسعى الصين إلى التعاون مع منظمات دولية مثل لجنة الأمم المتحدة لاستخدام الفضاء الخارجي لأغراض سلمية (COPUOS) لتطوير معايير أمان عالمية لنقل الطاقة الفضائية.

فكرة الطاقة الشمسية الفضائية ليست جديدة، إذ استلهمها العالم من قصص الخيال العلمي لإيزاك أسيموف عام 1941، وطرحها مهندس أميركي عام 1968. وأجرت وكالة "ناسا" دراسات جدوى في السبعينات، بينما طورت اليابان تقنيات نقل الطاقة اللاسلكي

يواجه المشروع أيضا تحديات تكنولوجية، حيث يوفر نقل الطاقة عبر الميكروويف كفاءة عالية لمسافات طويلة، لكن هوائيات الاستقبال الأرضية للميكروويف تتطلب مساحات شاسعة (قطرها 2-3 كيلومتر)، مما يستلزم تخطيطا دقيقا لاختيار مواقع بعيدة عن المناطق المأهولة، بينما يوفر الليزر دقة أعلى لكنه حساس للغيوم والظروف الجوية. كما يتطلب المشروع تطوير ألواح شمسية خفيفة الوزن، وروبوتات للتجميع في الفضاء، وتقنيات نقل طاقة دقيقة تقلل فقدان الطاقة (نحو 2 في المئة في الغلاف الجوي). ولا شك أن تحقيق هذه الأهداف في ثلاثة عقود يمثل تحديا تنظيميا وتقنيا هائلا.

السياق التاريخي للفكرة

فكرة الطاقة الشمسية الفضائية ليست جديدة، إذ استلهمها العالم من قصص الخيال العلمي لإيزاك أسيموف عام 1941، وطرحها رسميا المهندس الأميركي بيتر غلاسر عام 1968. وأجرت وكالة "ناسا" دراسات جدوى في السبعينات، بينما طورت اليابان تقنيات نقل الطاقة اللاسلكي في العقود الأخيرة.

.أ.ف.ب
لوحة في مركز جيوغان تحمل صورة لحظة إطلاق قمر صناعي في صحراء شمال غرب الصين 23 أبريل 2025

لكن الصين، بفضل استثماراتها الهائلة وقدراتها الفضائية المتقدمة، تسعى لتحويل هذه الفكرة إلى واقع عبر مشروعها الرائد، وتتنافس مع دول أخرى في هذا المجال، حيث أعلنت اليابان خططا مماثلة لإطلاق محطة في عام 2040، بينما أجرت "ناسا" تجارب عبر مشروع "القمر الصناعي للطاقة الشمسية" (Solar Power Satellite)، واختبرت جامعة "كالتك" (Caltech) الأميركية نقل الطاقة اللاسلكي بنجاح عام 2023. كما تخطط بريطانيا لمشروع بتكلفة 20 مليار دولار في 2035.

يمول المشروع من خلال استثمارات حكومية وتعاون مع القطاع الخاص، مثل شركة "لونغي" (Longi Green Energy Technology)، التي قد تستفيد اقتصاديا من تصدير تقنيات الألواح الشمسية الفضائية.

قد يحدث نجاح المشروع ثورة في الطاقة المتجددة، موفرا مصدرا شبه لا نهائي للطاقة النظيفة، مما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويعزز أمن الطاقة العالمي

يأتي المشروع ضمن سياق طموحات الصين الفضائية، حيث أكملت بناء محطة "تيان جونغ" الفضائية عام 2022، وتخطط لقاعدة قمرية في 2035. هذه الخطوات تثير قلق الولايات المتحدة، خصوصا مع رفض الصين توقيع اتفاقية أرتميس.

التأثير المستقبلي

قد يحدث نجاح المشروع ثورة في الطاقة المتجددة، موفرا مصدرا شبه لا نهائي للطاقة النظيفة، مما يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري ويعزز أمن الطاقة العالمي.

.أ.ب
قطيع من الأغنام يرعى بجانب مزرعة للألواح الشمسية لتوليد الطاقة، في مقاطعة تشينغهاي غرب الصين، الثلاثاء 1 يوليو 2025

كما يمكن أن يدعم تطبيقات أخرى، مثل تشغيل الطائرات بدون طيار أو المركبات الفضائية، وقد تُستخدم التقنية في تشغيل أنظمة عسكرية فضائية، مثل الأقمار الاصطناعية للمراقبة، مما يثير نقاشات حول الأمن الدولي. وقد تدعم التقنية تشغيل محطات فضائية أو أقمار اصطناعية، مما يقلل تكاليف الوقود الفضائي ويعزز استدامة المهمات الفضائية.

يمثل مشروع الطاقة الشمسية الفضائية الصيني رؤية مبتكرة لإعادة تعريف مستقبل الطاقة المستدامة. نجاحه قد يحدث ثورة في أمن الطاقة العالمي ويعزز مكانة الصين كقوة تكنولوجية، لكنه يتطلب استثمارات ضخمة، وتعاونا دوليا لضمان السلامة، وابتكارات للتغلب على التحديات، مما يجعله نموذجا لربط الفضاء بالاحتياجات الأرضية.

font change

مقالات ذات صلة