مؤسس "متحف سجون داعش" يتحدث لـ "المجلة" عن الرعب في "ديوان الحسبة"

تحاور "المجلة" الصحافي السوري عامر مطر، مؤسس ومدير متحف سجون التنظيم

IPM
IPM
إحدى الزنازين في سجون "الحسبة"

مؤسس "متحف سجون داعش" يتحدث لـ "المجلة" عن الرعب في "ديوان الحسبة"

بعد سنوات من العمل الأرشيفي والبحث والتحقيق، أطلق "متحف سجون داعش" الذي يعمل من برلين ملفا فريدا من نوعه يوثق أكثر أذرع تنظيم "داعش" تأثيرا وتوغلا في المجتمع: "ديوان الحِسبة". هذا الملف لا يسلط الضوء فقط على جهاز رقابي وأمني متطرف، بل يفتح بابا واسعا لفهم كيف استطاع التنظيم أن يحول "الرقابة الأخلاقية" إلى منظومة حكم متكاملة، تلامس أدق تفاصيل الحياة اليومية، وتخضع الأفراد، خصوصا النساء، لنظام عقوبات قاسٍ يدار من خلف ستار "الشرع".

يضم الملف الذي سيرفع الى شبكة الانترنت آلاف الوثائق الأصلية، منها أوامر تنفيذ، ومذكرات توقيف، وتعليمات داخلية، وبلاغات من الأهالي، وإفادات، ومحاضر تحقيق، إلى جانب عشرات الشهادات الصوتية والمكتوبة لمعتقلين ومعتقلات سابقين. وقد جمعت هذه المواد من مقار وسجون حسبة "داعش" في مناطق مختلفة من سوريا والعراق، بعد سقوط ما سمي "الخلافة"، ثم خضعت لعملية تصنيف دقيقة، وترجمة وتحقيق وتوثيق، ضمن مشروع أرشيفي ضخم يقوده فريق المتحف منذ سنوات.

اللافت في هذا الملف أنه لا يكتفي بتوثيق الانتهاك، بل يفكك المنطق المؤسساتي الذي حكم الناس باسم الدين. كيف تحولت العباءة إلى مِعيار للشرعية؟ كيف بات الصوت الأنثوي مخالفة؟ كيف تَحول اللقاء العاطفي أو مجرد ركوب سيارة تاكسي مع رجل إلى "جريمة أخلاقية" تستوجب الجلد أو الاعتقال أو النفي؟ الملف يقدم إجابات ملموسة عبر أوراق رسمية تحمل أسماء المحققين والتوقيعات والأختام.

أهمية هذا الملف تنبع من كونه يربط بين الممارسة اليومية للحسبة والفكرة التي تقف خلفها: فكرة "التحكم"، والتي لم تكن حكرا على "داعش"، بل تشكل امتدادا لثقافة واسعة ما زالت حاضرة في أجزاء كثيرة من الواقع في المنطقة.

في هذا السياق، تكتسب شهادات النساء المعتقلات أهمية خاصة، إذ تسرد بصراحة وجرأة نادرة تفاصيل ما عاشته المعتقلات داخل سجون "الحسبة": عنف بدني، تحقيقات مهينة، تهديد بالإعدام، جلد، حرمان من العلاج، مصادرة الحريات الجسدية، ووضع اجتماعي مروع يرسخ فكرة أن المرأة "موضوع أخلاقي" دائم المراقبة.

الملف نشر باللغتين العربية والإنكليزية، مرفقا بنسخ أصلية للوثائق، وتعليقات تحليلية، وروابط صوتية للشهادات.

وهو لا يأتي فقط ضمن مسؤولية التوثيق، بل كجزء من معركة الذاكرة، والعدالة، والتحذير من أن "الحسبة" لم تنتهِ تماما، بل تتجدد، بصيغ ومظاهر مختلفة.

لفهم أعمق لما تكشفه وثائق "ديوان الحسبة"، وما الذي تعنيه إعادة نشرها اليوم، نحاور الصحافي السوري عامر مطر، مؤسس ومدير "متحف سجون داعش"، والمحقق الرئيس في هذا الملف، والذي قاد عملية التوثيق منذ بدايتها. عمل مطر لسنوات على ملاحقة أرشيف "الحسبة"، متنقلا بين شهادات الناجين، والوثائق التي عثر عليها في سجون التنظيم، والخرائط الإدارية التي توضح كيف بنيت هذه المنظومة القمعية.

واحدة من أهم نقاط الدخول لفهم هذه المنظومة، كانت سجن مدرسة معاوية، أحد أكثر مراكز "الحسبة" انغلاقا وغموضا

من ذاكرة المدينة إلى توثيق "الحسبة"

عامر مطر صحافي ومخرج أفلام وثائقية سوري، وناشط في مجال حقوق الإنسان والعدالة الانتقالية، ولِد في مدينة الرقة عام 1987 ويقيم حاليا في برلين. درس الصحافة في جامعة دمشق وبدأ مسيرته الإعلامية مع عدة صحف وقنوات عربية ودولية، قبل أن يؤسس عام 2010 مؤسسة "الشارع للإعلام" التي تخصصت في إنتاج الأفلام الوثائقية وتنظيم الفعاليات الثقافية والفنية.

كرس عامر مطر عمله لتوثيق قصص السجون والاعتقال في سوريا منذ 2013، بعد اعتقاله لمرتين في سجون نظام الأسد، فكان من أوائل من جمعوا شهادات ومواد بصرية عن المعتقلات والانتهاكات، مما جعله مرجعا في هذا المجال. في عام 2017 بدأ مشروع "متحف سجون داعش" الذي جمع أكثر من 70 ألف وثيقة وصورة وشهادة عن منظومة الاعتقال لدى التنظيم، مستخدما تقنيات حديثة مثل التصوير ثلاثي الأبعاد والتجارب التفاعلية. 

يعمل مطر اليوم على تأسيس "متحف سجون سوريا"، وهو مشروع وطني يهدف إلى توثيق وإحياء الذاكرة الجمعية حول منظومة الاعتقال والتعذيب والاختفاء القسري التي مارسها النظام السوري على مدى خمسة عقود.

IPM
الصحافي السوري عامر مطر مؤسس ومدير "متحف سجون داعش"

يقول مطر عن "الحسبة": "هو الملف الرابع الذي ننشره في المتحف، ملف طويل وممتد، سننشره على مراحل، وبدأنا جزءه الأول بالتركيز على اثنين من أهم مراكز الاعتقال التابعة لـ"الحسبة": سجن الميدان في مدينة الموصل، والمركز الرئيس لـ"الحسبة" في مدينة الرقة (سجن معاوية)، وهذه المواقع كانت بمثابة القلب الإداري والعملي لمنظومة الرقابة الأخلاقية التي فرضها التنظيم على الناس".

ويضيف: "واحدة من أهم نقاط الدخول لفهم هذه المنظومة، كانت سجن مدرسة معاوية، أحد أكثر مراكز (الحسبة) انغلاقا وغموضا. في هذا السجن، كما تؤكد لنا الشهادات، كانت القرارات العقابية تصاغ وتنفذ بسرعة مروعة، وغالبا دون إجراءات واضحة، بينما فرض على المعتقلين أن يخضعوا لدورات تأديبية، لا هدف لها سوى إعادة إنتاج الخضوع الكامل لفكر التنظيم".

مطر من أبناء الرقة، المدينة التي تحولت ذات يوم إلى عاصمة لتنظيم "داعش". عاش مطر بدايات صعود التنظيم عن قرب، وشهد التحولات التي طرأت على المدينة، حين استبدلت الحياة الطبيعية بخوف يومي، وبسياج من التعليمات الصارمة والجلد العلني والاعتقالات الاعتباطية. كان شاهدا وضحية محتملة، قبل أن يصبح صاحب مشروع توثيق واسع النطاق، هدفه الأساسي إحياء الذاكرة ومواجهة النسيان.

بعد هزيمة التنظيم، قاد مطر جهودا حثيثة استمرت سنوات، لجمع أرشيف "ديوان الحسبة"، بمستوياته الإدارية والتنفيذية. عمل مع فريق متخصص على استعادة الوثائق، وتحليلها، وتصنيفها، وربطها بالشهادات التي سجلت من ناجين وناجيات. ولم يكتفِ بذلك، بل سعى من خلال المتحف إلى تفكيك الآلة التنظيمية لـ"الحسبة"، وتتبع كيف نشأت، ومن كان يشغلها، وكيف كانت تتوزع المهام بين مراكز المدن والمناطق الريفية.

لم يكن تنظيم "داعش" مرتجلا أو عشوائيا، بل أنشأ جهازا إداريا كاملا يضاهي في هيكليته بعض أنظمة الحكم القديمة والمعاصرة، ولكنه يسخر بالكامل لمراقبة الناس وقمعهم

دولة بسلطة الأمر والنهي

قدم الملف في تحقيقه عن "ديوان الحسبة"، وثيقة نادرة هي "اللائحة العامة لديوان الحسبة"، والتي تمكن فريق المتحف من الحصول عليها وتحليلها. هذا التحقيق لا يكتفي بتوثيق الممارسات القمعية اليومية، بل يتعمق في البنية المؤسسية التي أنشأها تنظيم "داعش" لإدارة جهاز "الحسبة"، وهي بنية إدارية معقدة تعكس سعي التنظيم إلى بناء دولة رقابية تستند إلى الشرعية الدينية الشكلية، لكنها قائمة على الهيمنة والإرهاب.

تأسس "ديوان الحسبة" في قلب المناطق التي سيطر "داعش" عليها وأعلنها دولة له، كواحد من أهم الأجهزة التنفيذية وأكثرها تأثيرا في حياة الناس. وعلى عكس الصورة الشائعة عن "الحسبة" بوصفها جهازا بدائيا يقوم على العنف العشوائي، تكشف الوثيقة المرجعية عن بيروقراطية صارمة وهيكل هرمي دقيق ينظم كل مستويات العمل، بدءا من القرية وانتهاء بالعاصمة المفترضة للدولة.

تشير الوثيقة إلى أن "ديوان الحِسبة" لدى "داعش" بني وفق تسلسل هرمي واضح، يبدأ من القاعدة ويصعد تدريجيا نحو المركزية. في المستوى الأول، تتوزع فروع "الحسبة" ضمن الأحياء أو القرى، يقودها مسؤول مباشر يتولى الإشراف اليومي ومتابعة تنفيذ التعليمات على مستوى السكان المحليين. أما في المستوى التالي، فتشكل المكاتب التي تدير "الحسبة" ضمن المدن أو المناطق، ويتولى قيادتها شخص يعرف بـ"ناظر الحسبة"، وهو بمثابة المدير التنفيذي للمهام الشرعية والرقابية في نطاق أوسع من الحي.

يتقدم هذا الهيكل نحو ما يعرف بـ"المراكز"، وهي الوحدات المسؤولة عن إدارة "الحسبة" على مستوى كل "ولاية" من ولايات التنظيم، ويقودها "أمير المركز"، الذي يتلقى التوجيهات من القيادة العليا ويشرف على تنفيذها عبر المكاتب والفروع التابعة له. أما على رأس هذا الهيكل، فيتموضع "ديوان الحسبة" المركزي، وهو الجهة العليا التي تشرف على جميع مستويات العمل، وتضع السياسات العامة وتصدر التعليمات والتعاميم. يتولى قيادته "أمير ديوان الحسبة"، الذي يعد المسؤول الأعلى عن فرض الرقابة الأخلاقية وتنفيذ القوانين الشرعية وفق رؤية التنظيم، ويشكل حلقة الوصل مع قيادة التنظيم المركزية.

هذا التنظيم يشبه إلى حد بعيد الهيكل الوزاري في الدول الحديثة، لكن مع اختلاف جذري في الوظيفة والغاية. فبينما تهدف الوزارات إلى إدارة شؤون المواطنين، يتولى "ديوان الحسبة" إدارة سلوكهم ومعاقبة أي خروج إلى "المنكرات" وفق فهم التنظيم الضيق والمتشدد.

اللافت في الوثيقة أن كل مستوى من هذه المستويات يتضمن تقسيما دقيقا للأدوار، مثل المسؤول الإداري، والمسؤول المالي، ومسؤول متابعة القضايا، ومسؤول السجن، ومسؤول فرق المراقبة، بل حتى مسؤول المرآب للسيارات والآليات.

ويقول عامر مطر: "ما يكشفه هذا التحقيق هو كيف حاول التنظيم بناء دولة قائمة على (الحسبة)، بمعناها القمعي المتطرف. لم يكن التنظيم مرتجلا أو عشوائيا، بل أنشأ جهازا إداريا كاملا يضاهي في هيكليته بعض أنظمة الحكم القديمة والمعاصرة، ولكنه يسخر بالكامل لمراقبة الناس وقمعهم".

واحدة من أكثر الملاحظات التي تكشفها الوثيقة، كما يشير عامر، هي مدى الهوس بالتوثيق والإجراءات الرسمية: كل طلب نقل بين الفروع يتطلب سلسلة طويلة من الموافقات والتوقيعات، ويحفظ بنسختين في أرشيف الوالي وأمير المركز. هذا النمط البيروقراطي، وفق مطر، "يشبه كثيرا ما عرفناه في مؤسسات الأنظمة الأمنية التي حكمت سوريا والعراق لعقود، لكنه هنا مشبع بلغة دينية تضفي عليه قدسية مزيفة".

في تجربة "متحف سجون داعش"، لا تنفصل المنهجية المستخدمة في التوثيق عن الغاية الأساسية: بناء سردية جنائية وصحافية دقيقة، تتيح للعدالة أن تتنفس

ولأن "الحسبة" تمثل أداة تنفيذية، فقد خصصت لها أجهزة فرعية متعددة تؤدي أدوارا مختلفة:

قسم المراقبة: يتولى تسيير الدوريات واعتقال المخالفين.

قسم الضبط والتحري: يشرف على التحقيق مع المعتقلين والتحقق من التهم الموجهة إليهم.

قسم التنفيذ: ينفذ الأحكام، بما في ذلك الجلد، والسجن، وربما الإعدام.

قسم الإدارة: مسؤول عن الشؤون المالية واللوجستية.

ويتكامل عمل هذه الأقسام مع أقسام أخرى في "الدولة الإسلامية"، مثل ديوان القضاء، وديوان التعليم، وديوان الصحة، حيث تنص الوثيقة على ضرورة التنسيق والتشاور بين هذه الأجهزة. على سبيل المثال، تتعاون "الحسبة" مع ديوان التعليم لتنظيم جلسات دعوية، ومع ديوان الصحة لملاحقة "المخالفات الشرعية" في العيادات الطبية، ومع ديوان المساجد لمراقبة المصلين وحتى الأئمة.

ومن أبرز ما جاء في التحقيق أيضا، وجود "فرقة النساء في الحسبة"، وهي وحدة مخصصة لفرض رقابة أخلاقية على النساء، تشمل التحقيق في لباسهن وتحركاتهن وحتى "شم" رائحة أنفاسهن للتحقق من شرب الكحول. يوضح مطر أن "هذا النوع من التفتيش المهين، القائم على التفتيش الجسدي والإذلال النفسي، يظهر إلى أي مدى كانت (الحسبة) أداة لإذلال النساء، وليس فقط لمراقبتهن".

ويضيف مطر: "اختراق التنظيم للحياة اليومية للناس، عبر هذا الجهاز، بلغ حد تنظيم آداب السوق، ومواعيد الحلاقة، وكيفية تحية الجار، وضبط نغمة صوت الباعة في الأسواق... كانت حياة الناس تدار كما لو أنهم في سجن مفتوح، وكل مخالفة تقابل بعقاب فوري".

IPM
مجسمات لسجناء وضعت في غرفة ضيقة لمحاكاة واقع سجون داعش

وبينما يدعي التنظيم أن "اللائحة العامة لديوان الحسبة" مستمدة من الشريعة، يتبين من التحقيق أن الكثير من أحكامها تحمل طابعا عقابيا انتقاميا أكثر مما تستند إلى اجتهادات فقهية معروفة. وهو ما يجعل هذا التحقيق، بحسب مطر، "وثيقة سياسية بقدر ما هي دينية، لأنها تكشف كيف بنى (داعش) سلطته عبر بيروقراطية العنف".

جهاز "الحسبة" لم يكن مجرد مجموعة من رجال الدين المسلحين يجوبون الشوارع، بل مؤسسة كاملة ذات هيكلية تفصيلية، تقوم على ضبط الناس، وفرض الخوف، وتوثيق كل شيء. وقد يكون هذا ما يجعل تحليل الوثيقة اليوم أمرا ضروريا لفهم آليات حكم "داعش"، وكيف يمكن لأفكار دينية متشددة أن تتحول إلى إدارة يومية للناس، تمارَس عبر جهاز بيروقراطي عنيف.

يذكرنا مطر: "من المهم اليوم أن نقرأ هذه الوثائق بعيون نقدية، لا للتاريخ فقط، بل للحاضر أيضا".

كيف يعمل المتحف؟

في تجربة "متحف سجون داعش"، لا تنفصل المنهجية المستخدمة في التوثيق عن الغاية الأساسية: بناء سردية جنائية وصحافية دقيقة، تتيح للعدالة أن تتنفس وتسمع في مواجهة واحدة من أكثر الحقبات ظلمة في تاريخ سوريا والعراق. ومن بين أبرز الأساليب التوثيقية التي اعتمدها المتحف، تبرز الجولات الافتراضية ثلاثية الأبعاد كأداة مبتكرة أعادت تشكيل العلاقة بين الشاهد، والمكان، والوثيقة، والمتلقي. هذه الجولات ليست مجرد تقنية عرض بصري متقدمة، بل نافذة تحقق شروط العدالة والذاكرة في آن واحد.

بحسب عامر مطر، فإن العمل على هذه الجولات بدأ مع إدراك فجوة كبيرة في تمثيل وتوثيق الأماكن التي احتجز فيها آلاف السوريين والعراقيين تحت سلطة تنظيم "داعش". "مع تطور التقنيات في العالم، أصبح بإمكاننا تقديم تحقيقات معمقة من خلال الجولات ثلاثية الأبعاد، والتي تسهل فَهم تعقيدات البنى الإدارية وعلاقات الأفراد والمنظمات داخل السجون"، يقول مطر. ومن خلال هذه الجولات، لا يكتفي المتحف بعرض السجون على المشاهد، بل يعيد بناء المكان كما كان عليه أثناء استخدامه، بما في ذلك تفاصيل الجدران، والأبواب، والمساحات المخصصة للتعذيب، والزنازين الجماعية، بل حتى روائح الخوف التي لا تراها العين، لكن تلمسها الشهادة المصورة.

الجولات ثلاثية الأبعاد سمحت لجمهور المتحف بالتفاعل المباشر مع الذاكرة المكانية، كأنهم يزورون السجن بأعينهم

يمتد أثر هذه الجولات إلى ما هو أبعد من التوثيق التقني. فهي تمثل أيضا وسيلة للتحقيق والتحليل، حيث يتم ربط المشاهد الموثقة بشهادات الناجين، وتحليل الوثائق الإدارية التي كانت تستخدمها "داعش" في إدارة سجونها. عامر مطر يوضح: "كل سجن نبنيه بصريا هو نتيجة أشهر من العمل على مطابقة شهادات السجناء والناجين، مع الصور، والمخططات التي حصلنا عليها من الأرشيف أو من مصادر محلية، بل حتى من شهود كانوا عناصر سابقين في التنظيم". ويشدد على أن المتحف "لا يعيد فقط بناء الجدران، بل يعيد رسم الجرائم داخلها".

وتخضع الجولات ثلاثية الأبعاد لتحقيقات دقيقة لتضمن دقة التمثيل وتجنب تحريف الحقيقة أو تحويلها إلى عرض مسرحي. لذلك، كان كل تفصيل يخضع لعمليات تحقق جماعي، وتدقيق بصري، وتحليل جنائي يراعي سلامة الشهود وكرامتهم. أحد المبادئ الأساسية هو أن تعرض هذه الجولات بشكل يحترم حساسية المحتوى دون أن يخفف من قسوته، حيث يرفق بعضها بتحذيرات مسبقة (Trigger Warnings) تحمي الناجين من إعادة الصدمة. "من المهم أن لا نحول الجريمة إلى مادة ترفيهية. كنا دائما نسأل: هل تظهر هذه الصورة الحقيقة؟ وهل تحترم كرامة الضحية فيها؟"، يقول مطر.

تكمن أهمية هذه الجولات أيضا في قدرتها على دعم العدالة الانتقالية. فهي تستخدم كمصدر موثوق للباحثين القانونيين، والصحافيين، والحقوقيين، وقد تساعد في رفع قضايا أمام المحاكم. "ليس لدينا فقط شهادات مكتوبة، بل لدينا نماذج بصرية لمكان الجريمة، وهذا يغير قواعد الإثبات"، يضيف مطر.

IPM
أحذية وملابس متراكمة لسجناء "داعش"، معروضة في "متحف سجون داعش"

وتمثل الجولات بذلك، مع الشهادات والتحقيقات النصية، أدوات متكاملة في بناء سردية موثوقة، لا تكتفي بإدانة الجريمة، بل تعيد تمثيلها أمام التاريخ.

أما على مستوى المتلقي العام، فإن الجولات ثلاثية الأبعاد سمحت لجمهور المتحف بالتفاعل المباشر مع الذاكرة المكانية، كأنهم يزورون السجن بأعينهم. "نريد أن يرى الناس الزنزانة التي كانت تضم عشرين امرأة، أن يشاهدوا الممرات التي كان يساق فيها المعتقلون إلى التعذيب، أن يشعروا بالمساحة الضيقة التي لا تتسع للجلوس"، يوضح مطر. هذا التفاعل لا يخلق فقط تجربة معرفية، بل وجدانية أيضا، تقرب بين الضحية والمشاهد، وتعيد تعريف ما يعنيه أن تكون "شاهدا".

في قلب هذه الجولات، ليس فقط سعي لإعادة بناء مشهد الجريمة، بل لإبقاء ذاكرة الضحايا حية. المتحف، بحسب مطر، لا يسعى فقط إلى توثيق ما جرى، بل "إلى أن لا ينسى". الجولات ثلاثية الأبعاد تتيح للضحايا أنفسهم أن يعودوا للمكان، ليروا أن صوتهم لم يمحَ، وأن الجرائم لم تدفن تحت الركام.

بهذا، يمكن القول إن الجولات ثلاثية الأبعاد التي يقدمها "متحف سجون داعش" لا تنتمي إلى فئة التقنيات الجديدة فقط، بل إلى فئة العدالة الجديدة. إنها أدوات تنقل القضية من سياقها المحلي إلى سياق إنساني وعالمي، وتبقي على الألم في الذاكرة كشرط ضروري للعدالة. وفي كل مشهد نعيد بناءه، وكل زنزانة نعيد رسمها، هناك صوت خفي يقول: هذه لم تكن فقط جدرانا، بل مقابر للكرامة، ويجب أن لا تتكرر.

لا نريد لهذه الوثائق أن تظل حبيسة الذاكرة الفردية أو الأرشيف المغلق".. نريد أن تصبح مادة للفهم، ومرآة للواقع، ومنصة للمحاسبة

مستقبل المنطقة… المتحف

في لحظة تبدو فيها الذاكرة السورية والعراقية مثقلة بالخراب والمنسيات، يحاول "متحف سجون داعش" أن يصوغ شكلا مختلفا للمستقبل. ليس بوصفه متحفا تقليديا لجمع القطع وحفظ الشهادات في أقبية الأرشفة، بل بوصفه مشروعا حيا مفتوحا، يعيد قراءة ما جرى بدقة، لا ليبكي عليه، بل ليستخرجه من الغبار، ويضعه في وجه الحاضر.

يقول عامر مطر، المدير المؤسس للمتحف: "نحن لا نلاحق الحكايات فقط، بل نلاحق منطق السلطة. هذا المتحف لا يتعامل مع "داعش" كحدث استثنائي، إنما كنتاج لمنظومة سياسية ودينية وأمنية أكبر سمحت له أن يوجد ويتجذر". بهذا التصور، لا تتوقف مهمة المتحف عند أرشفة الماضي، بل تمتد نحو المستقبل، بوصفه مساحة للمساءلة، والتعليم، وطرح الأسئلة الأخلاقية والسياسية حول ما حدث.

بعد هذا الملف الكبير عن "ديوان الحسبة"، يواصل المتحف الحفر في أرشيف التنظيم، عبر تحقيقات قادمة ستنشر تباعا، منها ما يخص بنية وسجون "الحسبة" في مدن سورية وعراقية أخرى. لكن الانعطافة القادمة في عمل المتحف، بحسب مطر، ستذهب أبعد من ذلك، نحو ملامسة قضايا تعد من أكثر الجرائم تنظيما ووحشية في تاريخ التنظيم.

IPM
الصحافي السوري عامر مطر (يسار) مؤسس ومدير "متحف سجون داعش"

في المرحلة المقبلة، يستعد المتحف لإطلاق سلسلة تحقيقات خاصة حول ما جرى للمجتمع المسيحي في الموصل، اعتمادا على وثائق دواوين مختلفة، وملفات المصادرات والطرد القسري. تليها مرحلة أكثر تعقيدا، حين يفتح المتحف أرشيف الجرائم ضد الإيزيديين في سنجار. ليس بوصفها سردية ضحايا فقط، بل كسلسلة قرارات وتوجيهات مكتوبة تظهر كيف خطط للاستعباد، والقتل، والاغتصاب، كأدوات رسمية لفرض العقيدة والسيطرة.

"لا نريد لهذه الوثائق أن تظل حبيسة الذاكرة الفردية أو الأرشيف المغلق"، يقول مطر. "نريد أن تصبح مادة للفهم، ومرآة للواقع، ومنصة للمحاسبة". في هذا المعنى، يقف المتحف على تخوم النضال الحقوقي والمعرفي، بوصفه مشروعا مقاوما للنسيان، ولمقاومة إعادة إنتاج الخطأ ذاته تحت تسميات جديدة.

في وقت تبدو فيه المنطقة معرضة مجددا لانهيارات أخلاقية وسياسية، يعيد المتحف طرح سؤال بسيط ومقلق في آن: ماذا لو لم نتعلم شيئا؟ هذه ليست فقط رواية عن "داعش". إنها محاولة لتفكيك النظام الذي سمح لـ"داعش" أن يكون. والمتحف، في مستقبله، ليس فقط مكانا للحفاظ على الورق، بل ساحة مفتوحة لجدال طويل، وضروري، حول كل ما أردنا ذات يوم أن ننساه.

font change

مقالات ذات صلة