بعد سنوات من العمل الأرشيفي والبحث والتحقيق، أطلق "متحف سجون داعش" الذي يعمل من برلين ملفا فريدا من نوعه يوثق أكثر أذرع تنظيم "داعش" تأثيرا وتوغلا في المجتمع: "ديوان الحِسبة". هذا الملف لا يسلط الضوء فقط على جهاز رقابي وأمني متطرف، بل يفتح بابا واسعا لفهم كيف استطاع التنظيم أن يحول "الرقابة الأخلاقية" إلى منظومة حكم متكاملة، تلامس أدق تفاصيل الحياة اليومية، وتخضع الأفراد، خصوصا النساء، لنظام عقوبات قاسٍ يدار من خلف ستار "الشرع".
يضم الملف الذي سيرفع الى شبكة الانترنت آلاف الوثائق الأصلية، منها أوامر تنفيذ، ومذكرات توقيف، وتعليمات داخلية، وبلاغات من الأهالي، وإفادات، ومحاضر تحقيق، إلى جانب عشرات الشهادات الصوتية والمكتوبة لمعتقلين ومعتقلات سابقين. وقد جمعت هذه المواد من مقار وسجون حسبة "داعش" في مناطق مختلفة من سوريا والعراق، بعد سقوط ما سمي "الخلافة"، ثم خضعت لعملية تصنيف دقيقة، وترجمة وتحقيق وتوثيق، ضمن مشروع أرشيفي ضخم يقوده فريق المتحف منذ سنوات.
اللافت في هذا الملف أنه لا يكتفي بتوثيق الانتهاك، بل يفكك المنطق المؤسساتي الذي حكم الناس باسم الدين. كيف تحولت العباءة إلى مِعيار للشرعية؟ كيف بات الصوت الأنثوي مخالفة؟ كيف تَحول اللقاء العاطفي أو مجرد ركوب سيارة تاكسي مع رجل إلى "جريمة أخلاقية" تستوجب الجلد أو الاعتقال أو النفي؟ الملف يقدم إجابات ملموسة عبر أوراق رسمية تحمل أسماء المحققين والتوقيعات والأختام.
أهمية هذا الملف تنبع من كونه يربط بين الممارسة اليومية للحسبة والفكرة التي تقف خلفها: فكرة "التحكم"، والتي لم تكن حكرا على "داعش"، بل تشكل امتدادا لثقافة واسعة ما زالت حاضرة في أجزاء كثيرة من الواقع في المنطقة.
في هذا السياق، تكتسب شهادات النساء المعتقلات أهمية خاصة، إذ تسرد بصراحة وجرأة نادرة تفاصيل ما عاشته المعتقلات داخل سجون "الحسبة": عنف بدني، تحقيقات مهينة، تهديد بالإعدام، جلد، حرمان من العلاج، مصادرة الحريات الجسدية، ووضع اجتماعي مروع يرسخ فكرة أن المرأة "موضوع أخلاقي" دائم المراقبة.
الملف نشر باللغتين العربية والإنكليزية، مرفقا بنسخ أصلية للوثائق، وتعليقات تحليلية، وروابط صوتية للشهادات.
وهو لا يأتي فقط ضمن مسؤولية التوثيق، بل كجزء من معركة الذاكرة، والعدالة، والتحذير من أن "الحسبة" لم تنتهِ تماما، بل تتجدد، بصيغ ومظاهر مختلفة.
لفهم أعمق لما تكشفه وثائق "ديوان الحسبة"، وما الذي تعنيه إعادة نشرها اليوم، نحاور الصحافي السوري عامر مطر، مؤسس ومدير "متحف سجون داعش"، والمحقق الرئيس في هذا الملف، والذي قاد عملية التوثيق منذ بدايتها. عمل مطر لسنوات على ملاحقة أرشيف "الحسبة"، متنقلا بين شهادات الناجين، والوثائق التي عثر عليها في سجون التنظيم، والخرائط الإدارية التي توضح كيف بنيت هذه المنظومة القمعية.