معركة نزع سلاح "حزب الله"

هل يغتنم لبنان الفرصة أم يهدرها؟

بيب بواتيلا
بيب بواتيلا

معركة نزع سلاح "حزب الله"

بعد نصف قرن من اندلاع حرب أهلية مروعة استمرت خمسة عشر عاما، ومهدت لاحتلال أجنبي ونزاعات مسلحة وانهيار اقتصادي، يجد لبنان نفسه في عام 2025 أمام فرصة ليغدو دولة مستقرة تقوم على أساس المواطنة.

ولعل هذه الفرصة هي الأولى من نوعها منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب بين عامي 1958 و1964. فهل سيوجد من يغتنم هذه الفرصة أم إنها ستضيع هباء؟ على الرغم من أن جهود اللبنانيين أنفسهم، حكومة وجيشا وشعبا، ستكون حاسمة في تحديد الإجابة، فلا يمكن تجاهل نوايا وتحركات الأطراف الخارجية التي ستلعب بلا شك دورا بالغ الأهمية. ومن هنا يطل السؤال: ما الذي يجب فعله لاستغلال فرصة قد لا تتكرر قبل خمسين عاما، إن تكررت أصلا؟

الرأي هنا هو أنه إذا أراد جميع اللبنانيين التوحد حول هوية وطنية بعيدا عن الطائفية ودعم نظام حكم يستمد سلطته من رضا المحكومين، فعلى الأطراف الخارجية أن تمنح جمهورية الأرز المساحة والمساندة الكافيتين لتسوية خلافاتها الداخلية بسلام. ومن بين هذه الأطراف إيران وسوريا وإسرائيل والسعودية والولايات المتحدة.

بعد يوم واحد من جرائم "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، فتح "حزب الله"، ذراع إيران في لبنان، النار على شمال إسرائيل دعما لـ"حماس". ومع مرور الوقت، جرى إخلاء نحو ثمانين ألف إسرائيلي من منازلهم، بينما فر عدد مماثل من اللبنانيين من جنوب لبنان وشاهدوا قراهم تدمر. ونتج عن ذلك تعرض "حزب الله" لهزيمة عسكرية ساحقة أودت بحياة زعيمه الكاريزمي.

تعد جهود الولايات المتحدة والغرب لتعزيز الجيش اللبناني ضرورية، ليس فقط استعدادا لمواجهة "حزب الله" إذا رفض نزع سلاحه، بل أيضا لحماية جميع اللبنانيين وقيادة إعادة إعمار الجنوب ذي الأغلبية الشيعية

ولكن على الرغم من جسامة هذه الخسارة غير المتوقعة، لا تزال ميليشيات "حزب الله" تحافظ على سلاحها وهي مستمرة في العمل وفقا  لأجندة إيرانية سبق أن دفعت بـ"الحزب" إلى أتون الحرب السورية خلافا للسياسة الرسمية اللبنانية، وأدخلت لبنان في حربين مدمرتين وغير مجديتين مع إسرائيل عامي 2006 و2023.

من المنطقي الافتراض أن فيلق "الحرس الثوري" الإيراني سيبذل ما في وسعه لإعادة بناء قدرات "حزب الله" العسكرية. وقد تدرك طهران أن زمن استخدام "الحزب" كرادع ضد إسرائيل من الأراضي اللبنانية قد ولى، لكنها قد تراه أداة مهمة للحفاظ على نفوذها في لبنان واستعادته في سوريا.

أ.ف.ب
لوحة إعلانية تحمل صورة علم لبناني وعبارة كُتب عليها باللغة العربية "لبنان عهدٌ جديد"، لتحلّ محل لوحة إعلانية لحزب الله، على الطريق المؤدية إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، في 10 أبريل 2025

"تحييد السم"

وبالنسبة للولايات المتحدة وشركائها العرب، فلا ريب في أن "تحييد السم" الذي تمثله سياسات العدوان الإيراني في العالم العربي هدف رئيس بالنسبة لهم. وسيكون تحقيق هذا الهدف في لبنان أيسر إذا قرر القادة الجدد لـ"حزب الله" تمثيل ناخبيهم سلميا وسياسيا بوصفهم لبنانيين، بدلا من التضحية بأتباعهم عسكريا في خدمة إيران. فالادعاء الزائف للحركة بأنها مقاومة لبنان ضد ما تسميه الاحتلال الإسرائيلي لأراض لبنانية مزعومة في الجولان، مزارع شبعا، انعكس سلبا وبشدة على "حزب الله" وأنصاره ولبنان بأسره.

ولعل تحول "الحزب" إلى العمل السياسي السلمي بدلا من "المقاومة" المسلحة سيكون أكثر فائدة للشيعة اللبنانيين، الذين ما زال أغلبهم يدعمون "الحزب" لما يوفره لهم من خدمات اجتماعية بدلا من الحكومة الغائبة. ولكن كثيرا من هؤلاء المؤيدين يرون في أسلحة "الحزب" درعا يحميهم، إن لم يكن من إسرائيل فمن الجماعات الجهادية في سوريا وحتى من اللبنانيين أنفسهم. لذا تعد جهود الولايات المتحدة والغرب لتعزيز الجيش اللبناني ضرورية، ليس فقط استعدادا لمواجهة "حزب الله" إذا رفض نزع سلاحه، بل أيضا لحماية جميع اللبنانيين وقيادة إعادة إعمار الجنوب ذي الأغلبية الشيعية.

قد تفكر إسرائيل، في سياق سعيها لتحقيق أهدافها الأمنية في لبنان، في اتخاذ خطوات إضافية أو بديلة

من جهتها، تستطيع سوريا ما بعد نظام الأسد، إذا أرادت، أن تؤدي دورا بالغ الأهمية في مساعدة لبنان على التحول نحو دولة كاملة السيادة وتمكينه من احتكار السلاح، كما يطالب الرئيس اللبناني ومجلس الوزراء بتحقيق ذلك مع نهاية العام. وصحيح أن تساؤلات عدة لا تزال قائمة حول نوايا الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع وقدراته، إلا أن قيامه بزيارة رسمية إلى بيروت يعلن خلالها التزام سوريا باستقلال لبنان واستعدادها لترسيم الحدود البرية بين البلدين للتصدي المشترك للجماعات الجهادية والمتطرفة وتهريب المخدرات، قد يسهم كثيرا في تهدئة مخاوف الطائفة الشيعية والهواجس اللبنانية العامة المرتبطة بسوريا.

ويمكن لإسرائيل أيضا أن تضطلع بدور مهم في دعم تطور لبنان كدولة تحتكر وحدها حق اتخاذ قرارات الحرب والسلم. فبعد ما يقارب ستة عقود من التعامل مع جهات مسلحة غير حكومية تنشط من الأراضي اللبنانية، ليس مستغربا أن ترى إسرائيل نزع سلاح "حزب الله" شرطا لا غنى عنه. والحقيقة أن نزع سلاح "الحزب" وإعادة المواطنين الإسرائيليين إلى منازلهم في شمال البلاد في ظل ظروف آمنة ومستقرة يشكلان أولوية قصوى لإسرائيل في ما يتعلق بلبنان. ولعل ذلك يفسر، جزئيا على الأقل، استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في مواقع عدة جنوب لبنان واستمرار الضربات الجوية على أهداف تابعة لـ"الحزب" رغم وقف إطلاق النار.

خطوات بديلة؟

ومع ذلك، قد تفكر إسرائيل، في سياق سعيها لتحقيق أهدافها الأمنية في لبنان، في اتخاذ خطوات إضافية أو بديلة. فالجيش اللبناني يقوم بعمل مشهود في تأمين المناطق جنوب نهر الليطاني، ما قد يدفع إسرائيل إلى إعلان استعدادها للتنسيق المباشر معه لإحلال القوات اللبنانية تدريجيا محل وحدات الجيش الإسرائيلي في الجنوب. كما يمكنها السماح لمهندسي الجيش اللبناني، بدعم محتمل من وحدات هندسية أردنية، بإعادة تأهيل البنية التحتية الحيوية في القرى اللبنانية المدمرة المحاذية للخط الأزرق الفاصل بين البلدين. والأهم من ذلك، يمكن لإسرائيل الموافقة على فتح مفاوضات مع لبنان في إطار اتفاقية الهدنة العامة لعام 1949، التي لا يزال لبنان الرسمي يعترف بها، بهدف تحديث بنودها بما يعكس التحديات الأمنية الراهنة أو حتى استبدالها باتفاق دائم ينهي حالة العداء بين البلدين.

يمكن لمساعدات سعودية تقنية ومالية متواضعة أن تحدث فرقا حاسما في تعزيز الدعم الشعبي لنزع سلاح "حزب الله" وثقة المواطنين بقدرة الدولة على الإصلاح والعمل بكفاءة

وفي هذا السياق، أعرب عدد من اللبنانيين الذين تحدثت إليهم مؤخرا، من مسؤولين سابقين وعسكريين متقاعدين يمثلون طوائف وتوجهات سياسية متنوعة، عن تأييدهم ليس فقط لإنهاء دائم للأعمال العدائية، بل أيضا لرفع الحظر القانوني على التواصل مع الإسرائيليين. غير أنهم أعربوا عن خشيتهم من أن تعتبر إسرائيل هذه الخطوات غير كافية، وتصر بدلا من ذلك على نزع فوري لسلاح "حزب الله" وانضمام لبنان السريع إلى "الاتفاقات الإبراهيمية". وإذا حدث ذلك، فسيكون أمرا مؤسفا في ظل هشاشة المشهد السياسي اللبناني. ومن المفهوم تماما أن إسرائيل، مثل معظم اللبنانيين، ترغب في رؤية "الحزب" منزوع السلاح بأسرع ما يمكن، لكن من الأفضل أن تشمل أدواتها الدبلوماسية وسائل أقل عنفا، وربما أكثر فاعلية، من الاحتلال والضربات الجوية.

أما معضلة البيضة والدجاجة، بشأن أيهما يجب أن يسبق الآخر، نزع السلاح أم الخطوات الدبلوماسية، والتي تبدو جلية في السياق الإسرائيلي، فهي تلقي أيضا بظلالها على السياسة السعودية تجاه لبنان. وليس مستغربا أن تطالب الرياض الحكومة اللبنانية بالتحرك بحزم لنزع سلاح "حزب الله" وتنفيذ إصلاحات حكومية شاملة. ومثلها مثل الولايات المتحدة، أوضحت المملكة العربية السعودية للقيادة اللبنانية أن تقديم مساعدات كبرى واستثمارات في إعادة الإعمار سيظل مستحيلا ما دامت إيران تحتفظ بذراع سياسية عسكرية مسلحة داخل لبنان.

احتكار السلاح... والاستثمار

من الناحية العملية، لن يقدم أحد على تحقيق استثمارات كبيرة في لبنان قبل أن تتمكن الدولة من فرض احتكارها للسلاح واتخاذ قرارات الحرب والسلم. يحاول الرئيس جوزيف عون وآخرون إقناع جميع اللبنانيين بأن الدولة، حتى بما هي عليه من محدودية، قادرة على حمايتهم وإصلاح ذاتها وقيادة عملية إعادة الإعمار. لكن هذه الدولة تفتقر إلى الموارد المالية، بل هي تعاني من بيروقراطية متصلبة عاجزة عن توظيف الأموال بكفاءة، حتى لو توفرت الأموال واختفى الفساد من المعادلة.

أ.ف.ب
شخص يحمل لافتة كُتب عليها "لن نترك السلاح" خلال إحياء حزب الله مراسم عاشوراء، في الضاحية الجنوبية لبيروت، في 6 يوليو

ومع ذلك، يبقى دعم الحكومة والجيش اللبنانيين في تنفيذ مشاريع مرئية للشعب اللبناني وتعزيز بناء الدولة أمرا بالغ الأهمية لتحقيق نزع سلاح "حزب الله" المطلوب. بالتأكيد هناك مشاريع إعادة إعمار محددة يمكن تحديدها وتمويلها، ربما بتحويل التمويل أحيانا مباشرة إلى شركات هندسية لبنانية مستعدة للعمل تحت العلم الوطني. ويمكن، كما ذكرت أعلاه، نشر وحدات هندسية عسكرية أردنية في الجنوب تحت القيادة التشغيلية للجيش اللبناني. في المحصلة النهائية، قد تتطلب إعادة إعمار لبنان بالكامل عشرات أو حتى مئات المليارات من الدولارات من المساعدات والاستثمارات. وللحصول على تلك المبالغ الهائلة، ينبغي تحقيق شروط سياسية يرى فيها مقدمو رؤوس الأموال بيئة آمنة. ولتحقيق هذه الشروط، يجب توجيه تمويل مستهدف لمشاريع تبرز نوايا الدولة اللبنانية الناشئة وقدرتها على إنجاز  المهام. يمكن لمساعدات سعودية تقنية ومالية متواضعة أن تحدث فرقا حاسما في تعزيز الدعم الشعبي لنزع سلاح "حزب الله" وثقة المواطنين بقدرة الدولة على الإصلاح والعمل بكفاءة.

ولا يمكن إنكار الأهمية البالغة للدور الأميركي في مساعدة لبنان على تحقيق الاستقرار الضروري لبناء دولة عصرية وإقامة سلام رسمي مع جميع جيرانه. فالضغط الأميركي من أجل نزع سلاح "حزب الله" بالكامل أمر حتمي وذو فوائد جمة، ولا سيما إذا اقترن بدبلوماسية أميركية أوسع نطاقا في المنطقة.

القوى الخارجية قادرة على تقويض مسار لبنان نحو الدولة القوية والحكم الرشيد، بيد أن الفرصة قد تهدر بنفس السهولة من الداخل إذا اكتفى المجتمع اللبناني بإلقاء المسؤولية على عاتق الخارج

رسالة واضحة إلى طهران

على واشنطن أن توصل إلى طهران رسالة واضحة لا لبس فيها، خلاصتها أن التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية اللبنانية أمر مرفوض جملة وتفصيلا وستتم مواجهته بكل حزم. كما ينبغي تشجيع سوريا على دعم سيادة لبنان علنا والتعاون في ترسيم الحدود وتعزيز الأمن، بل وحتى التنسيق الوثيق مع بيروت في الخطوات المؤدية إلى سلام دائم مع إسرائيل. ويجب حث إسرائيل على التعاون مع الجيش اللبناني لوضع حد للاحتلال الإسرائيلي للأراضي اللبنانية بطريقة تخدم السلام والأمن لكل من شمال إسرائيل وجنوب لبنان، ومن الأفضل أن يتم ذلك في إطار اتفاق رسمي، ربما على شكل هدنة معدلة، تنهي العداء بين البلدين إلى الأبد.

ولا بد من إشراك الرياض في مبادرة مستدامة لتحديد وتمويل مشاريع إعادة إعمار واضحة للعيان ومنخفضة التكلفة نسبيا في مختلف أنحاء لبنان. والأهم من ذلك، فإن تعزيز المساعدات الأمنية الأميركية للجيش اللبناني يبقى أمرا بالغ الأهمية. فبينما لا يرغب أحد في مواجهة مسلحة بين الجيش اللبناني و"حزب الله"، إلا أن الضرورة تقتضي أن يكون الجيش مجهزا ومستعدا للتحرك بحسم في حال استمرت إيران في استخدام الميليشيا كذراع تنفيذية لها، أو إذا فضلت قيادة "حزب الله" الولاء لطهران على واجباتها كمؤسسة لبنانية.

بيد أن أيا مما سبق لا ينبغي أن يقلل من أهمية الدور المحوري للبنانيين أنفسهم في بناء دولة عصرية تقوم على المواطنة وتحكمها سيادة القانون وإدارة كفؤة. ويمكن أن تكون نقطة الانطلاق المنطقية هي أن يتحمل جميع اللبنانيين المسؤولية الكاملة عن مستقبل بلدهم، ولا سيما أولئك الذين يتقلدون مناصب حكومية رفيعة.

صحيح أن القوى الخارجية قادرة على تقويض مسار لبنان نحو الدولة القوية والحكم الرشيد، بيد أن الفرصة قد تهدر بنفس السهولة من الداخل إذا اكتفى المجتمع اللبناني بإلقاء المسؤولية على عاتق الخارج، أو إذا واصل القادة السياسيون نهج العجز والفساد والتبعية المفرطة التي أنهكت البلاد منذ نهاية عهد الشهابية قبل عقود. صحيح أن القوى الخارجية قد تعيق قدرة لبنان على التحول إلى دولة فاعلة، غير أن هذه الفرصة التاريخية النادرة وسريعة الزوال لن تصان إلا إذا تشبث بها اللبنانيون أنفسهم قبل سواهم.

font change

مقالات ذات صلة