الكاتبة الفلببينية جينا أبوستول لـ"المجلة": ألعابنا اللغوية فعل مقاومة

ترى أن الفاشية لا تزال قائمة في عصرنا

الكاتبة الفلبينية جينا أبوستول

الكاتبة الفلببينية جينا أبوستول لـ"المجلة": ألعابنا اللغوية فعل مقاومة

تُعد الكاتبة الفلبينية جينا أبوستول من أبرز الأصوات الأدبية التي أعادت مساءلة التاريخ الفلبيني وإعادة كتابته من زوايا مغايرة، مستخدمة الرواية فضاء للتجريب والبحث عن الحقيقة خلف الروايات الرسمية للتاريخ. وُلدت أبوستول عام 1963 في الفلبين، ثم انتقلت لاحقا إلى الولايات الأميركية المتحدة حيث واصلت مسيرتها الأدبية والأكاديمية.

صدرت لها روايات عدة، وحصلت على العديد من الجوائز والتكريمات، من بينها جائزة روما الأدبية لعام 2022 والجائزة الوطنية للكتاب في الفلبين عن رواية "بيبيليوليبس"، ورواية "ابنة تاجر السلاح" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة "مان آسيا". لكن العمل الذي رسخ حضورها عالميا كان روايتها اللافتة "المتمرد"، التي نسجت فيها سردا متعدد الأصوات يعكس علاقة الفلبين الملتبسة بالاستعمار الأميركي.

يمزج أسلوب أبوستول السردي بين الجد والهزل، التاريخ والخيال، المحلية والعالمية. وتضع القارئ في مواجهة التاريخ كحكاية غير مكتملة، قابلة لإعادة القراءة والكتابة. مساهماتها جعلتها واحدة من أهم الروائيات الفلبينيات في العقود الأخيرة، حيث يرى كثيرون أن أعمالها تمثل جسرا بين الأدب الفلبيني المكتوب بالإنكليزية والأسئلة الكونية عن السلطة والذاكرة والهوية. "المجلة" التقت الكاتبة وأجرت معها هذا الحوار.

كيف بدأت علاقتك بالكتابة، ومتى شعرتِ أن الوقت حان لنشر عملك الأول؟

بدأت كتابة روايتي الأولى "بيبلولبسي" وأنا في التاسعة عشرة. كتبتها لأنها ممتعة وملحة بالنسبة لي. كنت كطفلة ألعب ألعاب تكوين العائلات والأحياء باستخدام زجاجات المطبخ. هذه الألعاب شبيهة بالكتابة: موجودة في العقل لكنها تتمدد خارجه. عند كتابة "بيبلولبسي" لم أفكر في النشر. أرسلت المخطوطة غير المكتملة إلى الكاتب الأميركي جون بارت، الذي أحببته. ثم التحقت ببرنامجه. عندها فقط بدأت أشعر أن هناك عالما خارجيا لكتابتي. كان ذلك مخيفا، شعرت أنني سأتقيأ حين قُرئ عملي لأول مرة. لكنني تجاوزت الأمر. في النهاية، من الجيد أن يُقرأ عملك.

التاريخي والشخصي

رواياتك مثل "ابنة تاجر السلاح" و"المتمردة" تنسج سرديات تاريخية وسياسية معقدة مع قصص شخصية. كيف توازنين بين ثقل البحث التاريخي والحميمية العاطفية اللازمة لصوغ شخصيات مقنعة؟

أنا مهتمة باللعب، وخصوصا في البنية واللغة. و"اللعب" هنا ليس بمعنى الكوميديا (رغم أن في الروايات شيئا من الدعابة)، بل اللعب بمعنى الخلق والمرح، والوعي بفعل الإبداع. هذا الوعي يسمح لي بأن أفكر في كيفية وجود شخصية ضمن إطار تاريخي، ولكن بطريقة غير مسطحة.

ما يهمني هو إنتاج الوعي، النفسي تحديدا، ولا تشغلني "الواقعية" التقليدية، أي تلك الاستنساخات الباردة للواقع، التي يُفترض أن تجعل الشخصيات "حقيقية"

أنا واعية جدا بأن شخصياتي متخيلة. والغريب أن وضوح كونها شخصيات متخيلة يسمح لي بالتواصل مع إنسانيتها بقوة أكبر. ما يهمني هو إنتاج الوعي، النفسي تحديدا، ولا تشغلني "الواقعية" التقليدية، أي تلك الاستنساخات الباردة للواقع، التي يُفترض أن تجعل الشخصيات "حقيقية" مع كبت حقيقة أنها مخترعة. في كتبي يصبح القارئ مدركا بوضوح أن الشخصية تُبنى (كما نحن جميعا نتشكل من خلال لحظاتنا التاريخية). إذن، هذان الأمران، الوعي بأن الشخصيات متخيلة، وفهمها بوصفها وعيا نفسيا، هما الطريق الذي أصل به إلى الحميمية العاطفية، رغم عدسة التاريخ التي تحضر دائما في رواياتي.

غلاف "هوس الكتب"

وصفتِ كتابتك بأنها تنخرط مع التاريخ الاستعماري والثوري للفلبين. ما الذي يجذبك إلى هذه الفترات، وكيف تختارين اللحظات التاريخية التي تعيدين تخيلها أو مساءلتها في رواياتك؟

نشأت في ظل الفاشية، وللأسف لا تزال ذات صلة، سواء في بلدي الفلبين أو في أميركا حيث أعيش الآن. لكنني لست معنية بإعادة إنتاج الصدمات. أميل إلى اختيار لحظات تسمح للبعد النفسي بالظهور رغم ثقل الحدث التاريخي. طريقتي للدخول هي من خلال خطاب حر غير مباشر، سواء في السرد بضمير المتكلم أو الغائب. مثلا، في "ابنة تاجر السلاح"، يتم السرد بصوت متكلم غير مستقر: فهي تكتب اللحظة وفي الوقت نفسه تعاني المرض وهي تتذكر. هذا يتيح إدانة النخبة الأوليغارشية في الفلبين، وفي الوقت نفسه التوغل تحت جلدها، ليس بالضرورة لتبريرها بل للاعتراف بإنسانيتها الشيطانية. لكن في الوقت نفسه نجد أنفسنا متورطين في عالم سول. أعتقد أن الرواية تقوم بذلك عبر القارئ: إذ يقع القارئ في شرك الاستمتاع بعالمها، حتى بجنونها العصابي. وهكذا نفهم كيف تستولي الفاشية على الناس، فنحن جميعا أسرى الهيمنة الرأسمالية. لذا، فإن وعي الشخصية النفسي في مقابل خلفيتها التاريخية الصريحة يسمح لنا بمساءلة الشخصية وزمنها، وأيضا بالاعتراف بأننا (القراء) مندمجون فيه.

لغات

الكتابة بالإنكليزية، وهي لغة مرتبطة بالتاريخ الاستعماري للفلبين، لا بد أن تحمل تحديات وفرصا. كيف تتعاملين مع توتر التعبير عن التجربة والوجدان الفلبيني بلغة ليست لغتك الأم؟

أنا شديدة الوعي باللغة، بل أظن أنها موضوع حياتي، وكذلك بالترجمة. فالفلبينيون يعيشون في الترجمة، إذ لدينا أكثر من مائة لغة في الأرخبيل. لذا فالإنكليزية كلغة إبداعية لي ليست سوى جزء من حالة وجودية للإنسان الفلبيني: فنحن كأمة نعيش تعددية لغاتنا باستمرار. لهذا أضع اللغة والترجمة في قلب حبكاتي. أتعامل مع هذا التوتر بوصفه معضلة وجودية، وأعتبر هذه التعددية فرصة، بل قوة ومصدر غنى.

أضع اللغة والترجمة في قلب حبكاتي. أتعامل مع هذا التوتر بوصفه معضلة وجودية، وأعتبر هذه التعددية فرصة، بل قوة ومصدر غنى

غالبا ما يُوصَف أسلوبك بأنه شعري يعكس تعقيد الذاكرة والتاريخ. كيف تبنين سردياتك لتعكس هذه الثيمات، وما دور اللغة في تشكيل تلك البنية؟

سؤال ممتاز لأنه يتعلق بجوهر عملي. اللغة هي محور الحبكة عندي. شخصياتي إما تكتب (كما في "بيبلولبسي" و"ابنة تاجر السلاح")، أو تُترجَم وتُعلق عليها ("الثورة بحسب ريموندو ماتا")، أو تُخترَع وهي قيد التكوين ("المتمردة")، أو تُفكك وتُقرأ ("الثالثة"). لقد بنيت كتبي حول فعل القراءة أو الكتابة. هذا التركيز على اللغة وأفعال القراءة والكتابة يرتبط بالاستعمار، لكنه أيضا سؤال وجودي: كيف نكون في العالم إذا كنا عبر "الآخر" (واللغة هي الآخر الأقصى) نكتشف ذواتنا؟ ربما هذا السؤال الفلسفي هو ما جذبني إلى كل تلك الحبكات اللغوية. وفي الوقت نفسه، هذا السؤال الفلسفي نفسه عن الوجود عبر اللغة هو الذي يشكل هيكلية رواياتي.

تأثيرات سينمائية

في "المتمردة" تلعبين بوجهات نظر متعددة وخطوط زمنية متشابكة، تقريبا مثل المونتاج السينمائي. كيف أثر اهتمامك بالسينما على السرد لديك، وهل هناك مخرجون أو تقنيات ألهمتك؟

لستُ في الحقيقة من أهل السينما. أنا من أهل الرواية واللغة. في "المتمردة" لدي شخصية والدها مخرج صور في الفلبين. بحثتُ في فرنسيس فورد كوبولا وابنته صوفيا، لأن فيلم "القيامة الآن" صُور في الفلبين لا في فيتنام. لذا كان علي أن أبحث في السينما لأكتب الرواية، وكان ذلك ممتعا. أكثر مخرج أستشهد به في الرواية هو الإيطالي فيدريكو فيليني الذي أعشقه. وأنا مدينة أيضا لكتاب محرر أفلام فرنسيس فورد كوبولا، والتر ميرش بعنوان "غمضة عين".

غلاف "الثالثة"

عملي كله عن الرواية والكتابة، لكن كتاب ميرش عن المونتاج علمني الكثير عن الرواية أيضا. المونتاج هو كولاج، دقيق وحدسي في آن، وكذلك الرواية. ومن هنا، منحني الكتاب حرية التفكير بالكتابة على شكل لقطات. كما أن ربط ميرش المونتاج بالجسد، غَمضة العين، فتح أمامي التفكير بالفن كجسد، وبالاستعمار كتشكيل لجسد الأمة الفلبينية عبر عدسة المستعمِر. فكان التحدي كيف أعيد إنتاج هذا في الرواية، وكان ذلك ممتعا للغاية.

عملك يتحدى السرد الخطي والتقاليد الغربية. هل هناك تقاليد شفهية فلبينية أو أشكال أدبية أو ممارسات ثقافية تؤثر فيك لكسر هذه التقاليد؟

الفلبينيون شفهيون جدا. نحن مولعون بالتلاعب بالألفاظ والنكات، ربما لأن لدينا لغات عدة دوما على طرف ألسنتنا. أنا أجيد أربع لغات تقريبا، منها إسبانية غير سليمة نحويا لكنها غنية بالمفردات، بسبب حضور الإسبانية في التاغالوغ، والواراي والسيبوانية.

تدريسي لوجهة النظر ساعدني أن أعلم الكتاب الشباب كيف يقرؤون أنفسهم نقديا، فيوسعون وعيهم بسردهم ويصيرون قراء أفضل

نحن نلجأ إلى التلاعب بالألفاظ للمقاومة، للمرح، للصداقة، للعداوة، وهكذا. عملي يعكس هذه الغريزة في اللعب اللغوي. حتى أسماء الفلبينيين على "فيسبوك" أو "إنستاغرام" مليئة باللعب، لكنه دوما لعب لغوي. نحن نُعرف أنفسنا بألعابنا اللغوية، وهي فعل مقاومة وإعادة تشكيل للذات.

إلهام

ما هو أكثر مصدر مفاجئ أو غير متوقع للإلهام واجهتِه أثناء كتابة هذه الرواية أو تلك، وكيف شكل اتجاه القصة؟

الدب القطبي "غَس" في "المتمردة" من أحب شخصياتي. كنت أجري بحثا عن "سنترال بارك" لأن والدة إحدى الشخصيات نشأت بالقرب منه، فاكتشفت قصة الدب القطبي المكتئب في حديقة الحيوان. كان يعالج بالـ"بروزاك"، وكان يعبر عن اكتئابه بالسباحة بلا توقف بعد موت محبوبته الدبة "إيدا". وللمصادفة فإن زوجة الرئيس الأميركي مكينلي، الذي ضم الفيليبين، كان اسمها أيضا إيدا! يا له من اكتشاف روائي. أصبح "غَس" رمزا للتكرار والفراغ، يدور في دوائر لا نهائية.

غلاف "المتمرّدة"

شخصياتك غالبا ما تواجه أسئلة الهوية، سواء من خلال الطبقة أو الجندر أو ما بعد الاستعمار. كيف تطورين شخصيات تبدو أصيلة وفي الوقت نفسه وسيلة لاستكشاف قضايا مجتمعية أكبر؟

نحن جميعا نعيش ضمن هذه الأسئلة المجتمعية، سواء كنا فلبينيين أو أميركيين... فقط لا نفكر فيها يوميا كي نستمر في العيش. الأصالة عندي تكمن في الاعتراف بأن كل إنسان يختبر هذه الأسئلة، شاء أم أبى، حتى في أبسط الأفعال. نشأتي تحت الفاشية، كامرأة، وكفلبينية من طبقة وسطى صغيرة، جعلتني أعي هذه القضايا منذ طفولتي. لذلك دائما تقريبا أُدخل شخصية "واراي" في رواياتي (الواراي شعب من جزر ليتي وسامار، ولغتهم اسمها "واراي" وتعني حرفيا "لا شيء". أنا "لا شيء"، وهو أمر وجودي رائع وحبكة أدبية خصبة). دوما هناك واراي في رواياتي، أحيانا بطل وأحيانا شرير. إنه مدخلي إلى الأصالة.

الكتابة الإبداعية

كمدرسة للكتابة الإبداعية، تعاملتِ مع طلاب من خلفيات لغوية وثقافية متنوعة. كيف أثرت عليكِ التجربة في فهم الكتابة بلغة ثانية، وهل غيرت من مسارك الإبداعي؟

لا أدرس الكتابة الإبداعية كثيرا، بل القراءة غالبا. لكن عندما أدرس الكتابة، أركز على تقنيات السرد: المنظور، وجهة النظر. في أميركا، وأماكن أخرى، هناك "النظرة البيضاء" الافتراضية التي يجب أن يكون الكاتب واعيا لها. ليس أن هذا أثر في مساري الإبداعي، لكن تدريسي لوجهة النظر ساعدني أن أعلم الكتاب الشباب كيف يقرؤون أنفسهم نقديا، فيوسعون وعيهم بسردهم ويصيرون قراء أفضل.

العمل نفسه هو ما يتيح الترجمة والتلقي، لا الجائزة. لكنني واعية أنه لولا الجوائز لما تُرجمت أعمالي بسهولة

العديد من أعمالك تستكشف فكرة الثورة السياسية والشخصية. ما معنى الثورة بالنسبة إليك ككاتبة، وكيف ترين أن كتابتك تساهم أو تتحدى الأفكار الثورية اليوم؟

أرى الثورة حياة يومية. هي اختياراتك اليومية: هل سأشتري من "أمازون" (قطعا لا!)؟ هل أركب الحافلة أم التاكسي؟ هل أدرس هذا الكتاب أم ذاك؟ نشأتُ في ظل الديكتاتورية، حيث التظاهرات اليومية جزء من الحياة. أن تكون شخصا في دولة فاشية يعني أن تأكل الغداء، تشارك في التظاهرة، ثم تذهب إلى الحانة. والكتابة عندي مثل ذلك: تحليل اختياراتك اليومية، واختيارك ككاتب، لماذا تركز على الفرح لا على الصدمة، ولماذا السياسة مهمة في الكتابة، ولماذا الفن مهم في السياسة. كتبي التزام متواصل بفعل الاختيار لصالح فكرة أوسع، تتضمن أيضا فرحي الشخصي. أؤمن بأن إصراري على الفرح واللعب الإبداعي كفعل مقاومة قد يجد صداه عند القراء.

الجوائز الأدبية تجلب الانتباه العالمي لعمل الكاتب، لكن الترجمة هي ما يحدد فعلا انتقاله بين الثقافات. كيف ترين أثر الجوائز مثل جائزة روما على الترجمة وتلقي أعمالك بلغات أخرى؟

الجوائز تصنع "مسيرة" أدبية بشكل سطحي، لكنها في الوقت نفسه مهمة ماديا. أعتقد أن العمل نفسه هو ما يتيح الترجمة والتلقي، لا الجائزة. لكنني واعية أنه لولا الجوائز لما تُرجمت أعمالي بسهولة، لأنها غالبا لا تسير في الخط المتوقع لا سياسيا ولا فنيا. جائزة روما قيمة عندي لأنها منحتني وقتا ومساحة للتفكير كفنانة، بعيدا عن السوق. أفهم أنها تعني شيئا آخر للآخرين، قيمة تبادلية قد لا ترتبط بما تعنيه أعمالي لي. لكنها تتيح لي الاستمرار في النشر والعمل. الفن دائما في هذا المأزق: قيمة استعمالية وأخرى تبادلية في آن.

font change