مقاهي "خواجات" الإسكندرية التي تجلت فيها عالمية المدينة وسحرها الفريد

أسسها أجانب وارتادها سياسيون ومثقفون وأناس من المشارب كافة

shutterstock
shutterstock
الإسكندرية – مصر، 27 كانون الثاني 2025: رجال في داخل مقهى شعبي ليلاً.

مقاهي "خواجات" الإسكندرية التي تجلت فيها عالمية المدينة وسحرها الفريد

يصف علي باشا مبارك (1823-1893)، في الجزء السابع من "الخطط التوفيقية"، الذي خصصه لوصف الإسكندرية في زمنه، مقاهي الإسكندرية وبيوتها، التي رآها عندما زار المدينة، فيقول إن المقاهي البلدية تنتشر في شوارع المدينة وبأكثر حاراتها، وهي لا تزال على وضعها القديم من تصميم ومن مشروبات. لكن كان لافتا بالنسبة إليه أن هذه المقاهي كانت أشبه بنواد ثقافية واجتماعية، مقسمة أروقة للترفيه ولعب البلياردو، وتقديم قوائم طعام متنوعة لا تقتصر على القهوة وحدها، بل تشمل المثلجات والحلويات. كما تميزت بفخامة أثاثها ووجود الصحف الأوروبية والعربية، بل وشهد بعضها عروضا فنية وغنائية، فعلى حد تعبيره كانت هذه المقاهي "يلعب فيها التياترو".

لم يتوقف علي مبارك عند وصفه السريع والعام للمقاهي الأوروبية في الإسكندرية، بل إنه ذكر المشهور منها، وهي كثيرة ربما تتجاوز الستة عشر مقهى، ذكرها كلها بالاسم وحتى ذكر موقعها بدقة، منها "القهوة الفرنسية" بميدان محمد علي، و"قهوة ويجو" في حارة جامع العطارين، و"القهوة الفرنساوية" في حارة إبراهيم، و"القهوة الأمريكانية" في حارة جبارة، و"قهوة بيكانو" في حارة السوق الجديد.

نشرت الطبعة الأولى من هذا الجزء من الكتاب في عام 1889، في الوقت الذي عادت فيه الإسكندرية مدينة معمورة، بعد الدمار الذي خلفه قصف الأسطول الإنكليزي عام 1882، لتنهض من جديد مدينة آمنة ومزدهرة، عامرة بالأجناس والألوان والألسنة. ولعل المقاهي الأجنبية كانت خير شاهد على التنوع والتعايش، الذي تعود جذوره إلى مشروع محمد علي باشا في إعادة إحياء المدينة بعد أن فقدت بريقها لصالح القاهرة.

إذ جذبت جهود الإعمار التي قادها الباشا المصريين والأجانب على حد سواء، ليأتوا حاملين معهم أحلامهم وثقافاتهم المتنوعة وعاداتهم وطرزهم المعمارية. واستمرت المدينة في حالة من الزخم الفكري والثقافي حتى عام 1882، حينما قصف الأسطول الإنكليزي المدينة، لكن التعويضات السخية التي دفعتها الحكومة المصرية، والتي قدرت بنحو أربعة ملايين و250 ألف جنيه مصري، ساهمت في سرعة إعادة الإعمار، ومنحت الأجانب الأمان للاستمرار في الهجرة والتوافد إليها.

نشأ في مقاهي الإسكندرية الأوروبية، التي كانت ملتقى للأجانب ونخبة المثقفين المصريين، مفهوم جديد للمقهى يختلف جذريا عن بيوت القهوة التقليدية، لتصبح شاهدة على تلاقح ثقافي فريد


ومع مرور الوقت، اكتسبت الإسكندرية طابعا كوزموبوليتانيا عميقا، تجلى في مبانيها ومدارسها وكنائسها، وبشكل خاص في مقاهيها. فقد نشأ في مقاهيها الأوروبية، التي كانت ملتقى للأجانب ونخبة المثقفين المصريين، مفهوم جديد للمقهى يختلف جذريا عن بيوت القهوة التقليدية، لتصبح شاهدة على تلاقح ثقافي فريد من نوعه.

Illustration by Jim Heimann Collection/Getty Images
كتيّب سياحي لـ"فندق كازينو – سان ستيفانو" قرب الإسكندرية، مصر (1932)

ولعل كازينو فندق "سان ستيفانو"، الذي افتتحه الخديوي توفيق في عام 1887، هو المثال الأقدم على المقاهي التي عبرت عن كوزموبوليتانية المدينة، فيعرف مثلا أن الشاعر اليوناني قسطنطين كفافيس، الذي عاش في الإسكندرية بشارع ليبسيوس (يعرف اليوم بشارع كفافيس) في الخمس وعشرين سنة الأخيرة من حياته، كان يرتاد هذا الكازينو مع أصحابه، ويقال إنه كتب هناك بعضا من أعماله الشعرية. لكن الكازينو الفندق اليوم أصبحاذكرى، إذ تقرر هدمه وبناء "مول سان ستيفانو" وفندق "الفورسيزونز"، بدلا منه، ولم يعد باقيا إلا في الصور الفوتوغرافية وذاكرة الإسكندريين الذين عاصروه حتى أيامه الأخيرة في تسعينات القرن الماضي، لكن هدم "سان ستيفانو" لم يأت على بقايا الأحاديث والضحك والنقاشات الإسكندرية في زمن تعددت فيه لغاتها، عالقة في بعض المقاهي الأخرى، التي لا تزال موجودة إلى اليوم.

shutterstock
الإسكندرية – مصر، 9 شباط 2022: مشهد لمول سان ستيفانو تحت الغيوم

مقهى "أثينوس"

"أثينيوس" و"تريانون" و"ديليس"، أسماء تمر بالبال عند الحديث عن شرب فنجان قهوة أو تناول طبق شهي في زمن كانت فيه الإسكندرية في أوج حالتها الكوزموبوليتانية، وهذه المقاهي لا تزال حاضرة، تشهد على تاريخ المدينة، وزمن كانت تسمع في شوارع ودروب الإسكندرية لغات الدنيا كلها. فعلى طريق كورنيش البحر يقع "أثينيوس"، المقهى اليوناني الأشهر في الإسكندرية، وتبدأ حكاية المقهى عندما اشترى اليوناني كوستانتينوس أثينيوس قطعة أرض من إسكندري يهودي من أصول إيطالية، وقرر أن يبني عليها مقهاه الذي لا يزال باقيا حتى اليوم يحمل اسمه، ويحمل زائريه إلى أزمنة إسكندرية ويونانية قديمة. افتتح أثينيوس مقهاه في عام 1900، وبقي يديره حتى وفاته، ومن بعده تولت زوجته إيليتا أثينيوس إدارة المقهى حتى وفاتها هي في عام 1968، وخلال فترة إدارتها أدخلت عليه بعض الإضافات، فكان يمكن المار بجانبه أن يسمع موسيقى الفالس والتانغو، والموسيقى الكلاسيكية التي تعزفها أوركسترا خاصة بالمكان.

athineos1900
مقهى "أثينوس"

كان "أثينيوس"، الذي يعني اسمه الأثيني الأصل، على غرار المصري والشامي، مسرحا للمناقشات والسجالات السياسية، وبخاصة في زمن الملكية، عندما كانت تنتقل الحكومة في فصل الصيف للإقامة في الإسكندرية، وكان من الممكن مصادفة وزراء حكومة "الوفد"، مثل فؤاد سراج الدين، وباشوات الملكية في مقهى ومطعم "أثينيوس".

كتب كفافيس في "أثينوس" واستلهم منه نجيب محفوظ شخصيات روايته "ميرامار"

وفي حين انحسر دور "أثينوس" كناد اجتماعي لرجالات السياسة بعد ثورة 1952، فإنه بقي وجهة مفضلة للكثير من المثقفين الإسكندريين والمصريين عموما، فمنذ بداياته كان كفافيس، الشاعر الإسكندري ذو الأصول اليونانية، من أهم رواده، وكان المقهى بأجوائه التي تعبق بأجواء أثينا يلهمه لكتابة قصائده في المكان، مرورا بالأديب العالمي نجيب محفوظ، الذي استوحى رائعته الروائية "ميرامار" من السيرة الذاتية لامرأة يونانية كانت صاحبة الفندق الذي يقع في بناية فينيسيا الصغيرة، التي تعرف اليوم بعمارة ميرامار، والتي كانت تجاور "أثينيوس".

توقفت الأحاديث بلغات شعوب البحر المتوسط والموسيقى الكلاسيكية اليوم في "أثينيوس"، لكنه لا يزال حاضرا ببعض بهائه القديم، مع إدخال الكثير من التعديلات على تصميمه ليواكب الزمن، لكن روحه الأثينية القديمة لا تزال باقية في أعمدته الدائرية الضخمة، والرسوم اليونانية التي تزين أعلى جدرانه.

مقهى "تريانون"

في العام 1905 بدأت حكاية مقهى "تريانون"، بالقرب من "أثينيوس"، عندما قرر اليوناني يورغوس بيرليس أن يؤسس محل حلوى ومقهى "بيتي تريانون"، ثم بمرور الزمن ازداد ملاك المقهى، إذ تشارك معه في عام 1937 الأخوان أندريا وقسطنطينيدس دريكوس أصحاب مقهى "غراند تريانون"، ليصبح "تريانون" من أشهر وأهم مقاهي المدينة، وليستقطب العديد من الوجوه الإسكندرية المعروفة في ذلك الوقت، وأيضا ليكون حاضرا في تنظيم حفلات كبرى عائلات المدينة، لكن انفصلت الشراكة بين "غراند تريانون" و"بيتي تريانون"، قبل تمصير إدارة المقهى في عام 1970 عندما اشترته مجموعة من الشركاء: عائلة الحضري وجورج لوكا وسمير بولس.

shutterstock
الإسكندرية، 7 أيلول 2024: مقهى "تريانون" في محطة الرمل – العطارين

"تريانون" مقهى قديم بتصميم مميز، بدءا من أرضياته الخشبية القديمة، مرورا بالحوائط والسقوف التي يمد الخشب فيها نفسه كيفما اتفق، هذا بجانب اتساعه المريح الذي يسمح ببعض الخصوصية بين طاولاته، وأيضا اللوحات التي تصور راقصات وجواري شرقيات، وتبدو متأثرة بلوحات إدموند دولاك عن "ألف ليلة وليلة"، والستائر البيضاء الأنيقة التي تغطي نوافذ المقهى المطلة على خط ترام بحري وتمثال سعد زغلول الشهير، وتعيد للجالس إلى الطاولات بجانبها كلما مر الترام الأصفر الحديث، صورة شهيرة لترام الإسكندرية القديم. هذا التصميم الفريد لـ"تريانون" يجعل منه بقعة دافئة شديدة الهدوء ومنفصلة زمنيا عن العالم الخارجي، أو كمتحف يمكن الجلوس فيه لتناول القهوة والطعام، خاصة أن الكثير من أثاث المطعم يعتبر أثريا، فمثلا البيانو الأسود الضخم في بداية قاعة الطعام يعود إلى العام 1911، ويقال إن ابنة الرئيس أنور السادات كانت تعزف عليه كلما جاءت لتناول طعامها في "تريانون".

كان يمكن الجالس في "تريانون" مصادفة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر أمل دنقل، يحتسيان القهوة ويكتبان الشعر

 كما كانت علاقة توفيق الحكيم بهذا المقهى وطيدة، وقد ذكره في سيرته الذاتية "سجن العمر"، وكان يمكن الجالس في "تريانون" مصادفة الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والشاعر أمل دنقل، يحتسيان القهوة ويكتبان الشعر، أو يتأملان في المكان، وكان أيضا الشاعر والمستشار الثقافي اليوناني في مصر كوستيس موسكوف، يأتي للكتابة في "تريانون" عند وجوده في الإسكندرية.

ويعتز "تريانون" بزواره، ويحتفظ بتوقيعاتهم في مجلدات أنيقة تحفظ ذكرى مرورهم لشرب القهوة، وتناول أحد أطباقه الشهية، فلو تصفح الزائر هذه المجلدات لوجد توقيع الملكة صوفيا ملكة إسبانيا وهي من أصل يوناني، والأمير تركي بن عبد العزيز، والسيدة جيهان السادات، أيضا الدكتور سير مجدي يعقوب، والدكتور أحمد زويل، والأميرة فوزية والملكة ناريمان وزوجها أدهم النقيب، كما سيجد توقيعات العديد من نجوم الفن مثل ليلى علوي ولبلبة ويسرا ومحمود مرسي وأحمد زكي.

ولا يزال "تريانون محطة الرمل" هو الفرع الأشهر لـ"تريانون" في الإسكندرية، يرتاده المصريون ليتلمسوا بقايا الروح الكوزموبوليتانية في المدينة، ويرتاده أيضا اليونانيون الذين ولدوا وعاشوا في الإسكندرية، وغادروها صغارا بعد التأميم، ثم جاء بهم الحنين إلى مدينتهم التي كانت، ويأتيه الأجانب العارفون بتاريخ المدينة وأشهر مقاهيها، "تريانون"، و"ديليس" الذي يبعد عنه خطوات قليلة، ويشترك معه في تعدد مداخله وواجهاته على شارع سعد زغلول وشارع الغرفة التجارية.

shutterstock
الإسكندرية – واجهة البحر: باتيسري "ديليس"، من أشهر المقاهي التاريخية

مقهى "ديليس"

تبدأ قصة "ديليس" في عام 1907، عندما بدأ اليوناني كلوفاس موستاكاس نشاطه كحلواني، وذاعت شهرة مخبوزاته الشهية بين أهل المدينة من الأجانب والمصريين، مما شجعه على إدخال المزيد من أصناف الحلوى الى قائمته، فأدخل الآيس كريم بنكهاته المختلفة، بل ابتكر مزيدا من النكهات كالمستكة والفاكهة، وأضاف الى قائمته الملبس والشكولاتة بأنواعها، والكعكعات الغربية والإكلير، ليأتي عام 1922، وينشئ موستاكس "ديليس"، المقهى ومحل الحلواني الأشهر والأمهر في المدينة، وتلفت هذه الشهرة نظر القصر الملكي الذي يكلفه إعداد كعكة تتويج الملك فاروق على مصر في عام 1937، ثم كعكة زواجه بالملكة فريدة في 1938.

لفتت شهرة "ديليس" نظر القصر الملكي الذي كلفه إعداد كعكة تتويج الملك فاروق على مصر في عام 1937، ثم كعكة زواجه بالملكة فريدة في 1938

مع الوقت اتسع "ديليس"، الذي يعني اسمه بالفرنسية البهجة والسعادة، من محل حلواني ومقهى صغير، الى مقهى ومطعم كبير، مستغلا شهرته وذيوع صيت حلوياته وقهوته ومشروباته الشهية، وليأتي إليه الزوار من محبي شرب القهوة من المصريين والأجانب، ومن المشاهير أيضا، فيذكر أن نجيب محفوظ كان يأتي إلى "ديليس" يوميا في أثناء وجوده في الإسكندرية، ليقرأ الجرائد والكتب مع فنجان قهوة تركية، ثم يأخذ الحلويات، ويغادر بها عائدا إلى مقر سكنه. كان "ديليس" أيضا ملتقى للشخصيات السياسة المصرية خاصة بعد ثورة 1952، إذ كان جمال عبد الناصر يفضل تناول قهوته فيه مع كبار رجال الدولة، وكان هذا المقهى أيضا وجهة لأنور السادات وتوفيق الحكيم، وللفنانين في فترة نشاط المسرح الإسكندري في الصيف، مثل عادل إمام وفريد شوقي.

shutterstock
الإسكندرية – مصر: باتيسري "ديليس"، من أشهر المقاهي التاريخية، يقدم المأكولات الشرقية والحلويات والقهوة

الداخل إلى "ديليس" عبر أي من بابيه، سيلاحظ حتما تصميمه الذي تمتزج فيه حميمية الماضي مع بعض رتوش هذا الزمن، وسيجد أن اللافتة التي تحمل اسم "ديليس" بالحروف اللاتينية لا تزال تحمل التصميم المميز القديم نفسه، وربما أحد أسرار جاذبية المكان هو احتفاظ ملاكه بروحه القديمة، لذلك لا عجب في أنهم خصصوا مساحة صغيرة منه كمتحف تعرض فيه آلات الكاشير والآلات الكاتبة التي استخدمها المحل منذ بدايته وحتى اليوم، كما يوجد أول هاتف استخدم في المحل، وتوجد أيضا قوائم الطعام التي تطورت عبر الزمن، والتي تمنح فكرة شافية عن ثقافة الطعام وثقافة الشارع ولغاته، إذ كتبت قائمة الطعام الأقدم في المحل بالعربية والفرنسية، بينما المتصفح لقائمة اليوم سيجدها بالعربية والإنكليزية، مما يعني أن ثقافة الشارع تغيرت تماما. وتنوعت الأصناف في القوائم القديمة ما بين حلويات ومشروبات وأنواع من القهوة، والمخبوزات والشطائر بالأجبان والحشوات المختلفة، منها المصرية المحلية واليونانية وغير ذلك أيضا، واليوم عندما يتصفح الزائر قوائم "ديليس" سيجد أصنافا يونانية، وستلفت البقلاوة اليونانية والكنافة اليونانية انتباهه، وقد يسأل النادل عنها، وقد يبتسم لذكرى العداء التاريخي الذي لا يزال مستمرا بصورة ناعمة بين اليونان وتركيا، وقوائم الطعام في كل مكان في العالم تشهد عليه.

فضاء مفتوح

قد يراود المتأمل في مقاهي الأجانب في الإسكندرية سؤالا ملحا: هل تحمل تلك المقاهي رمزية ما، أكثر من كونها أندية قديمة يحتفى بتاريخها؟

لقد تجاوزت المقاهي في عواصم العالم، كالقاهرة وبيروت، وظيفتها التقليدية لتصبح مسرحا للحياة السياسية والاجتماعية والثقافية. إنها ليست مجرد أماكن لتناول القهوة، بل هي شهود على الزمن، ومساحات ولادة للتفاعلات الإنسانية والتقاطعات الثقافية.

shutterstock
الإسكندرية – مقهى "سفيانوبولو" اليوناني التاريخي من الحقبة الكولونيالية

فإذا كان "مقهى ريش" مثلا في القاهرة اكتسب زخمه ومكانته كرمز ثقافي بفضل ارتباطه الوثيق بالمثقفين وحواراتهم، فإن المقاهي الإسكندرية تعكس حالة مختلفة ومغايرة تماما، إذ لم تكن دائما بؤرا للنقاش السياسي والثقافي المباشر، بل بقي المقهى الإسكندري محايدا، وظل أشبه بناد اجتماعي مفتوح، حيث يمكنك مصادفة رجال السياسة والمثقفين، دون أن يتحول إلى قاعدة دائمة لوجودهم، وكأن المقاهي الإسكندرانية بنيت لدور أعمق وأبقى.

هذه المقاهي باقية الى اليوم ويتجلى فيها سحر مدينة الرب وابنة الإسكندر، وقدرتها على جمع الناس من كل الأجناس، وكأنها شاهد على تحقق أسطورة المدينة العالمية

مقاهي الأجانب في الإسكندرية دليل دامغ على تقاطع طرقهم مع المدينة التي خلدت أسماءهم، وهذه المقاهي تقوم بدور حارسة حكايات المدينة، وهي معقل لتناغم بشري فريد من نوعه، إذ اجتمع حول طاولاتها أناس من مختلف الجنسيات واللغات والديانات، جاؤوا بأحلامهم إلى الإسكندرية، فامتزجوا بنسيجها الحضاري في سلام ومحبة، وانعكست هذه الروح المسالمة المحبة في كل أرجاء المدينة، وتجلت بوضوح في مقاهيها التي استقبلت كل أطياف المجتمع مع الغريب والزائر. ثم إنها عكست روحا كوزموبوليتانية حقيقية ونادرة، تكونت ونسجت نفسها دون اتفاق، ثم بقيت هذه الروح في المقاهي حتى بعد انتهاء زمن كوزموبوليتانية المدينة وعودة معظم الإسكندرانيين من الأصول غير المصرية الى بلادهم، هذه المقاهي باقية الى اليوم ويتجلى فيها سحر مدينة الرب وابنة الإسكندر، وقدرتها على جمع الناس من كل الأجناس، وكأنها شاهد على تحقق أسطورة المدينة العالمية، وباقية أيضا كمتحف للذاكرة والزمن. هذه المقاهي في الواقع ذاكرة موازية لذاكرة المدينة، ونداء حنين أبدي لزمن بريء كان فيه السلام والرقي والتسامح يسود هذه المدينة رغم حروب العالم وصراعاته المحمومة، وفيه تعانقت اللغات واللهجات والأطياف في بقعة سحرية قديمة جدا تسمى الإسكندرية.

font change

مقالات ذات صلة