تمثّلات طنجة في الرواية الإسبانية

سحر وغموض وملاذ للنسيان

غلاف رواية "طنجة طنجة" ليوبولدو ثيبايوس

تمثّلات طنجة في الرواية الإسبانية

استأثرت طنجة باهتمام الرواية الإسبانية، هذه التي يمّمت بوجهها السردي شطر تخييل الفترة الدولية للمدينة في منحاها الكوزموبوليتي، وما بعدها من تحولات كبرى مع مناخات الاستقلال ومتغيراته الحادّة، امتدادا إلى اللحظة الراهنة، وهذا ما تتمثّله تجارب روائية لأسماء نوعية في المشهد الأدبي الإسباني.

من هذه الأعمال رواية "إعادة الاعتبار للكونت دون خوليان" للروائي خوان غويتيسولو ذات النزوع الصدامي، والتي تنحو منحى باروكيا منحازة بتطرف لتجريب غير مساوم، تتشظى فيه استيهامات طنجة كمنفى سوداوي، مع نقد لاذع للأساطير الإسبانية المؤسسة حول غزو المسلمين للأندلس، دفاعا عن شخصية دون خوليان، كونت سبتة، المتهم بالخيانة بالنظر إليه كمتواطئ في تسهيل دخول المسلمين لإسبانيا في القرن الثامن، وبالتالي فغويتيسولو يقدم دون خوليان كبطل مضاد، معيدا النظر في التقييم التاريخي للكونت، بنبرة مناهضة للفرانكوية، ولذا منعت الرواية التي تسببت في ضجة إذ وصمت بالمعادية للهوية الإسبانية واللاهوت.

من المجد إلى الانحدار

وبين الأعمال البارزة أيضا، رواية "طنجة، طنجة"، للكاتب ليوبولدو ثيبايوس، التي تسمق فيها طنجة كفضاء أسطوري، في تقاطع استثنائي للثقافات وتعدد اللغات والديانات والأعراق، كمحفل متناغم للحرية والغموض والمغامرة.

مجمل هذا الصوغ الاحتفالي يعيد تشكيل ذاكرة طنجة من منظور سيرذاتي لشاب إسباني عاش في خمسينات القرن الماضي، في مهب صخب الجنسيات المتعددة، وجماعات الكتاب العالميين والفنانين التشكيليين والموسيقيين، وكمرتع أيضا للدبلوماسيين والجواسيس والمهربين والمصرفيين واللاجئين، تعايشوا في لحظة تاريخية بالغة الفرادة، إنها سيرة طنجة، من المجد إلى الانحدار.

تسمق طنجة كفضاء أسطوري، في تقاطع استثنائي للثقافات وتعدد اللغات والديانات والأعراق، كمحفل متناغم للحرية والغموض والمغامرة


وهناك أيضا رواية "لا فيدا بيرا دي خوانيتا ناربوني" لأنخيل فاسكيز مولينا، التي ترصد أحوال امرأة ولدت في طنجة من أم أندلسية وأب من جبل طارق، من منظور متعدد، يزاوج بين النقد الاجتماعي والإيروتيكي، مستغورة قضايا الهوية، والذات المنشطرة، والمدينة في أعتى تقلباتها، من الألق إلى الحضيض.

غلاف رواية لا فيدا بيرا دي خوانيتا ناربوني" لأنخيل فاسكيز مولينا

خوانيتا الشغوفة بالسينما، لا تخفي غيرتها اللدودة من الأخت، مع الأثر الغائر لفقدان الوالدين، في توازٍ مع سيرة المدينة: طنجة المنطقة الدولية، طنجة في ظل الاستعمار الأسباني وإلحاقها بالمغرب، ثم طنجة المجاورات المتناقضة: مسيحيون ويهود ومسلمون، فرنسيون وإسبان وإنكليز، كدوامة تتناغم فسيفسائيا حينما يطغى هاجس الحنين إلى ماضيها الفاتن، وتتقهقر نشازا كلما ناهز الوعي حاضرها الموسوم بالمراثي، حسرة على ما فقده تاريخها من مجد وما تسرب من روحها العتيدة في رماد أمكنتها السرية الآيلة إلى زوال.

shutterstock
منظر لمدينة طنجة – المغرب

 

المغامرة والجريمة والغموض

وأما رواية "الزمن بين خياطات" للكاتبة ماريا دوينياس، فذات منحى تاريخي في تمازج ألمعيّ بين الدرامي والمغامرة، عن شابة تدعى سيرا، تفر من مدريد عام 1936، وتفتتح مشغلا للخياطة في طنجة وتطوان، منجرفة إلى عوالم سوداوية عمادها شبكات التجسس، وغواية الموضة، في تأرجح قلق ضمن زمن محكوم بتوتر الحرب الأهلية الإسبانية والحرب العالمية الثانية.

وتعزّز رواية "ضباب في طنجة" للكاتبة كريستينا لوبيز باريو، من منحى التحري لمناخ الغموض، وهي تتقصى حكاية اختفاء بول دينغل في ميناء طنجة عام 1951، عبر تحقيق تنبري له شخصية فلورا جاسكون، وهي ترسم للمدينة وجها رومانسيا وملتبسا، ذات تركيب ينزع إلى لعبة الرواية داخل الرواية.

 AFP
مظاهرات الجمهوريين في شوارع مدريد – 1936

إضافة إلى رواية "إيفا" لأرتورو بيريز ريفيرتي، الجزء الثاني في سلسلة "الجاسوس لورينزو فالكو"، تدور وقائعها في مارس/آذار 1937، زمن الحرب الأهلية الإسبانية، لكن في طنجة، تتعالق فيها حكايات التجسس ومقالب التهريب، في صراع حول ذهب موسكو، يمكن تصنيفها ضمن أدب الجريمة، وهي تتوسل بالتوثيق التاريخي لكتابة فصل من فصول المدينة ذي النزوع السوداوي.

shutterstock
قصبة طنجة مع الميناء – المغرب

يضاف إلى هذا النسيج الروائي، رواية "شارع اللصوص" لماتياس إينار، عن شاب يدعى لخضر، مولع بالروايات البوليسية، يحاول الهرب من وصمة عار شخصي ليلفي نفسه متورطا مع أحد التنظيمات المتطرفة، إلى أن ينتهي به الأمر في شارع اللصوص وهو يعد لعمل إرهابي. هي رواية عن طنجة ديستوبية، في معترك تحولات اجتماعية متوترة، موصولة بزحف الربيع العربي، يتأرجح إيقاعها المضطرب بين ما هو تاريخي وديني وأدبي.

دوامة تتناغم فسيفسائيا حينما يطغى هاجس الحنين إلى ماضيها الفاتن، وتتقهقر نشازا كلما ناهز الوعي حاضرها الموسوم بالمراثي


ثمّ رواية "طنجرينا" لخابيير بالينثويلا، التي تجري وقائعها في طنجة، يتقلد خيط سردها سيبولبيدا مدرس اللغة الإسبانية في معهد سيرفانتس، ومجمل الأحداث محبوكة في تركيب بين زمنين، 1956 الموشوم باستقلال المغرب، إذ تغدو طنجة ملاذا للهاربين الإسبان من سطوة الحكم الدكتاتوري، و2002 السنة التي يسافر ألبيرتو ماركينا إلى طنجة على سبيل الزيارة، وهو صديق لسيبولبيدا، لكن يسقط في فخ قضية تحرش ذات مضاعفات وخيمة، فيودع في السجن إثر ذلك، بالمقابل يبادر سيبولبيدا إلى التحري في ملابسات قضية ألبيرتو ماركينا ذات التعقيدات الدامغة، محاولا اكتشاف السر في اشتباكات التهمة، المفضية إلى تدبير سياسي ومخابراتي وراء تلفيق العملية برمتها.

Abdel Majid BZIOUAT / AFP
سوق الصغير في مدينة العرائش – المغرب

أيقونة الغرابة وسخرية المفارقات

ومن الأعمال البارزة أيضا رواية "حلم طويل في طنجة"، لأنطونيو لوزانو، ومنطلقها حادثة سيارة تنقل على أثرها امرأة إسبانية تدعى إيزابيل، إلى المستشفى الإيطالي في طنجة، وفي هاوية غيبوبتها يتناهى إلى سمعها تواتر محادثات كل الأشخاص الذين زاروا غرفتها بدءا بزوجها وأطفالها وأصدقائها فضلا عن الممرضات، إنها رواية مونولوغ تكتشف فيه إيزابيل عبر غيبوبتها الوجه الآخر لحياتها الحافلة، بينما تلمع شخصية الخادمة أمينة كقطب محوري في متغيرات الحكاية، إلى جانب جيمو زوجة سائق التاكسي الذي نقل إيزابيل إلى المشفى لحظة وقوع الحادثة، وهكذا دواليك تتشظى ذاكرة إيزابيل، كاشفة عن زيف صفيق عاشته مع زوجها الشبيه بكابوس، وبذا تكون طنجة مقبرة لحيوات منبوذة، أو ملاذا للهاربين من ماض مخز، يسعون إلى إخفائه، أو التخفف من وطئه الثقيل.

shutterstock
طنجة وشفشاون – المغرب

فضلا عن رواية "مدينة الكذب" لإنياكي مارتينيز، وهي رصد ملحمي لطنجة انطلاقا من أسطورتها كملاذ سحري في أربعينات القرن العشرين، وهو زمن غسق أوروبا المطبق. يجند ستانلي مورتيسون سكرتير القنصل الأميركي جوان أليسون كمخبرة، وهي صحافية أميركية شابة وصلت حديثا إلى طنجة يتملكها حماس اكتشاف جمال هذه المدينة العجيبة، وفي الوقت نفسه، تتصادى مع حكاية الكاهن الشاب مارتن أوغارتي في مهب استغوار خبايا طنجة، إنها لعبة مخاطر يتنازع خيوطها الملتبسة أطراف متنازعة، إن علنا أو خفية، القنصل الأميركي أولا، والقنصل الإسباني ثانيا، والقنصل الألماني ثالثا. هي رواية تجسس ومكائد لا تخلو من توابل هوليودية أشبه ما تكون بفيلم كازابلانكا الشهير.

وقس على ذلك روايات مثل "إمبراطورة طنجة" لسيرخيو بارثي، ورواية "لقاء في طنجة" لخوسيه لويس بارانكو، ورواية "حدود من الرمل" لسوسانا فورتيس، ورواية "العام المقبل في طنجة" لرامون بوينابينتورا، ورواية "طنجة، حياة الأحلام"، لتينا سواو.

مناخات مغوية لاشتباك تخييل هذا الصنف اللافت من الرواية الإسبانية التي اتخذت من طنجة أيقونة لغرابة وقائعها


السحرية والغموض والجريمة، وملاذ النسيان، مناخات مغوية لاشتباك تخييل هذا الصنف اللافت من الرواية الإسبانية التي اتخذت من طنجة أيقونة لغرابة وقائعها، فبالقدر الذي تنتصب فيه المدينة بوابة في شمال القارة الأفريقية، مفتوحة على المتوسط والأطلسي، منذورة للوصل بين ما انفصل وتشظى، بوابة لا يمكن تخطيها إلى ما بعدها، إذ هي المسكن عزيز الطلب، وفي حدها ينتفي النهائي، مع اغتنام هبة اللامحدود، هي كذلك الحافة التي تحتد كعلامة لمفترق العلاقات الإنسانية في المضمر، مقابل الإيهام بتناغمها المعلن.

 Abdel Majid BZIOUAT / AFP
رجل يطل على ميناء العرائش – المغرب

إنها الحافة التي يفلق على صخرتها الغرانيتية جوز الحقائق، كاشفة في سخرية عن زيف الحيوات الهشة، عن ألاعيب المنظومة الكولونيالية المرتدة إلى مكر دسائسها، عن سوداوية المصائر الشخصية لذوات مضطربة، مختلة، ومأزومة، عن رماد كائنات مهزومة، عن سعادة موهومة، عن فداحة المأساة التي ما إن تستوعبها هوامش النسيان بشكل موقوت، حتى تنفطر مندلعة من جديد، زاحفة في انشطار مبين على العالمين.

font change

مقالات ذات صلة