الكاتبة الهولندية كريستين أوتن لـ"المجلة": الصمت عن الظلم تواطؤ معه

تؤمن بمشاركة القصص كسبيل للتواصل بين البشر

كريستين أوتن ترتدي الكوفية الفلسطينية

الكاتبة الهولندية كريستين أوتن لـ"المجلة": الصمت عن الظلم تواطؤ معه

عرفت الكاتبة الهولندية كريستين أوتن المولودة عام 1961 في دفينتر بقدرتها على المزج بين السرد الأدبي والتجربة الإنسانية والاجتماعية والسياسية في آن واحد. بدأت مسيرتها بالعمل في الصحافة وكتابة المقالات، قبل أن تتجه إلى الرواية منتصف تسعينات القرن الماضي، حيث لفتت الأنظار مبكرا بروايتها الأولى "المعدن الأزرق". غير أن انطلاقتها الأوسع جاءت عام 2004 مع روايتها "الشعراء الأخيرون"، التي استلهمت فيها تجربة شعراء أميركيين من أصول أفريقية، ونجحت في الجمع بين السيرة الذاتية والخيال الأدبي، لتحصد إشادة نقدية كبيرة وترشيحا لـ"جائزة ليبريس للأدب" (Libris Literature Prize)، كما ترجمت إلى اللغتين العربية والإنكليزية وتحولت إلى عمل مسرحي.

لا تكتفي كريستين أوتن بتوثيق التاريخ من زاويته الكبرى، بل تنحاز دوما إلى رواية المهمشين التي عصفت بها السياسات. ففي روايتها "رافائيل" 2014 كتبت عن قصة حب حقيقية مزقتها سياسات الهجرة الأوروبية، بينما قدمت في "كان لدينا حب، كان لدينا سلاح" 2016 صورة حية عن كفاح الحقوق المدنية في أميركا من خلال منظور عائلة الناشط روبرت إف. ويليامز. أما روايتاها "واحد منا" 2020 و"حين أروي لك حكايتي"، 2024 فاستلهمتهما من ورش الكتابة التي نظمتها داخل السجون، حيث عملت على تمكين السجناء من التعبير عن ذواتهم، قبل أن تتحول نصوصهم إلى عروض مسرحية مؤثرة مثل "مونولوغات السجن".

ترى كريستين أوتن أن صمت الكتاب في مواجهة المأساة الفلسطينية شكل من أشكال التواطؤ، مؤكدة أن امتلاك حرية التعبير في هولندا يجعل من الضروري استخدامها لمواجهة الظلم. وتؤمن بأن الاحتجاجات الشعبية، رغم التضييق عليها سياسيا، قادرة على تغيير المزاج العام وفتح أفق لتحول الموقف الهولندي والأوروبي تجاه إسرائيل. "المجلة" التقت أوتن وكان هذا الحوار.

تجسد رواية " الشعراء الأخيرون"، إيقاعات فن الكلام المنطوق عند الأميركيين من أصل أفريقي وعلاقته بأصول موسيقى "الهيب هوب". كيف ساهم انغماسك في أرشيفات الشعراء الشخصية وعروضهم الحية في تشكيل سرد ذي طابع موسيقي، وما الأخطار التي خضتها في مزج السيرة الذاتية بالرواية تخليدا لإرثهم؟

بدأ كل شيء عندما التقيت كصحافية، في نيويورك عام 2000، وذلك بفضل شغف ابني بموسيقى "الهيب هوب"، عمر بن حسن وأبيودون أويوولي، وهما اثنان من الأعضاء الأصليين في جماعة “الشعراء الأخيرون" التي ذاع صيتها خلال فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي. كان هذان الرجلان صريحين ومنفتحين للغاية في شأن حياتهما وعملهما، وانغمست في عالمهما وقصصهما التي تجسد التاريخ الأميركي من الخمسينات وحتى ذلك الوقت، من منظور أميركي أفريقي.

حين بدأت بالكتابة، اكتشفت لأول مرة أنني أستطيع أن أكون شخصا آخر، وأن أعزف الموسيقى بالكلمات. كان ذلك بمثابة فعل تحرري، لأن هذا ما كنت أسعى إليه ككاتبة


 تدور القصص حول النضال والعنصرية والحب والشعر والحياة، وهي قصص حميمة للغاية. انسجمت معهما، وخاصة مع عمر، الذي كان يجمعني به الكثير من القواسم المشتركة. كان والده مثل والدي، يعاني من مشاكل نفسية. كان والد عمر يعاني من العنصرية والإقصاء، ووالدي يعاني من الفقر والغربة. نشأنا كلانا في عائلات من الطبقة العاملة. بالطبع، عاش عمر حياة أصعب بكثير من حياتي، لكن كانت هناك رابطة شخصية قوية تجمعنا. أعتقد أن عمر هو من زرع فكرة كتابة هذه الرواية في ذهني.

غلاف رواية "الشعراء الأخيرون"

انغمست في تاريخ السود عبر قراءة كل ما استطعت عن نضالهم للتحرر من العنصرية، بما في ذلك روايات توني موريسون وجيمس بالدوين، واستمعت إلى موسيقى "الجاز" و"السول" و"الآر أند بي"، وشاهدت أفلاما وثائقية. لكن الأهم من ذلك كله أنني تحدثت إلى الناس، الشعراء أنفسهم، وعائلاتهم وطلاب الجامعات. وكان المنظور الأنثوي أساسيا، لأن هؤلاء الرجال كان ينظر إليهم كرموز، وأردت أن أضفي عليهم طابعا إنسانيا. حاولت فقط أن أكون صادقة وأن أكتب بحب ونزاهة عن الشعراء، دون أن أصورهم كقديسين.

موسيقى الكلمات

كما ذكرت، أعدت في هذه الرواية بناء حياة رواد الشعر الأميركيين من أصل أفريقي من خلال مزج سيرتهم الذاتية، مع نصوصهم الشعرية. كيف شكل خوض غمار تجارب هؤلاء الشعراء من منظور ثقافي متباعد وشخصي متقارب تحديا لك اثناء الكتابة؟

كانت هذه الرواية بمثابة تحرر لي كفنانة وإنسانة. لم يكن ذلك أمرا سهلا. واجهت علاقتي بعمر والشعراء الآخرين أحيانا، تحديات بسبب انعدام الثقة بي كامرأة بيضاء. شعرت بوحدة عميقة أحيانا أثناء وجودي في الولايات المتحدة. ولكني تعمدت أن أبقى على طبيعتي. استطعت التواصل بعمق مع قصصهم وتاريخهم. حين بدأت بالكتابة، اكتشفت لأول مرة أنني أستطيع أن أكون شخصا آخر، وأن أعزف الموسيقى بالكلمات. كان ذلك بمثابة فعل تحرري، لأن هذا ما كنت أسعى إليه ككاتبة، أن أكون قادرة على الكتابة من منظور مختلف.

بصفتك أحد مؤسسي مؤسسة "بلوك نوتس"، تستخدمين الكتابة الإبداعية لتمكين السجناء من الجنسين. كيف تصممين ورش عمل لاكتشاف المواهب الكامنة لديهم، وما هي الاستراتيجيات التي تتبعينها لخلق مساحة آمنة لاستكشاف مواضيع قيمة كالشعور بالذنب والتكفير؟

الاستراتيجيات بسيطة: أن يكون المرء على سجيته ككاتب وإنسان، وألا تكون لديه أجندات سوى الكتابة، وأن يكون مساويا للآخرين في المجموعة، لا للمعلمة. مع أنني أستخدم خبرتي ومهاراتي، وأشاركها، إلا أننا نعمل معا. كل شيء يمكن قوله وكتابته، لذا هناك أمان في المجموعة، وهو أمر نادر في السجون، وخاصة سجون الرجال، حيث يصعب على الرجال الشعور بالضعف. الكتابة الإبداعية في مجموعة، دون إشراف حارس، تخلق مساحة آمنة.

غلاف النسخة الإنكليزية من رواية "الشعراء الأخيرون"

الأدب يدور حول الحياة، والحب، والشعور بالذنب، والعنف، والندم، والشوق، والأطفال، وما إلى ذلك. كونه يتعلق بنا نحن البشر وبكفاحنا في الحياة. الشر والخير ليسا أبيض وأسود. لذا، فإن عملنا معا، يفتح الأبواب، من خلال دعم بعضنا بعضا ومشاركة القصص والتجارب.

الأدب بحد ذاته يمنحنا القدرة على التحرر، لأننا نحاول التعبير عن أمور يصعب التعبير عنها بالكلمات المباشرة، فنستخدم الاستعارات والاستراتيجيات الأدبية


 أعتقد أن الأدب بحد ذاته يمنحنا القدرة على التحرر، لأننا نحاول التعبير عن أمور يصعب التعبير عنها بالكلمات المباشرة، فنستخدم الاستعارات والاستراتيجيات الأدبية عندما لا نستطيع التعبير علنا. لكننا جميعا يفهم بعضنا بعضا، ومن المهم أن نتشارك هذه القصص والتجارب.

غلاف رواية "كان لدينا حب، كان لدينا سلاح"

مونولوغات السجن

تطورت "مونولوغات السجن" من ورش كتابة إلى عروض مسرحية كاملة تعرض داخل أسوار السجن وخارجها. كيف تعاملت مع ترجمة قصص السجناء الشخصية إلى عروض مسرحية؟ وما الصعوبات التي واجهتها في تمثيل الصدمة والعنف والخلاص للسجناء المشاركين والجمهور؟

اتبعت منهجية العمل التي أتبعها في كتابة رواياتي، أي التحدث بإسهاب مع السجناء السابقين وعائلاتهم، وما إلى ذلك، وإشراكهم في العملية. لم تكن كتابة المسرحية هي التحدي الأصعب. عليك فقط أن تكون صادقا، وأن تحاول ألا تكون "فوق" من تكتب عنهم، وألا تصدر أحكاما، مع أنني بالطبع لدي أحكام، ولكن أحاول أن أكون منفتحة قدر الإمكان، وأختار وجهة نظر السجناء دون أن أنسى الضحايا. إذا أضفنا طابعا إنسانيا على هذه القصص، فسيتمكن أي شخص من التفاعل معها، وهو أمر مهم، وقد لاقى استحسانا كبيرا من الجمهور.

ألهمتك ورش الكتابة مع السجناء روايات مثل "واحد منا" و"حين أروي لك حكايتي". كيف أعادت مشاهدة معاناة السجناء مع إعادة الاندماج بعد الاحتجاز تشكيل فهمك للحرية الحقيقية، وكيف يتجلى ذلك في تصويرك للحياة بعد السجن؟

يواجه السجناء السابقون صعوبات كبيرة في العودة إلى العالم الخارجي. لديهم هذه الوصمة الكبيرة، ويصعب عليهم إيجاد وظائف. الحرية نسبية، فبعض السجناء لا يختبرون العالم الخارجي كحرية على الإطلاق، بل كبحث دائم عن مكان يحترمون فيه ويقبلون فيه كما هم. معظم السجناء السابقين لا يريدون سوى شيء واحد: حياة طبيعية. لكن العودة صعبة للغاية، لأن الشعور بالذنب يقف عائقا أحيانا. يشعر بعض السجناء بأنهم فقدوا حقهم في التعبير عن آرائهم بسبب أفعالهم الإجرامية أو العنيفة. أعتقد أن الجميع يستحق فرصة جديدة.

كريستين أوتن ترفع لافتة تدين الإبادة

المهمشون وحرب غزة

كثيرا ما تلهمك الأحداث الحقيقية والشخصيات التاريخية، من نشطاء الحقوق المدنية إلى الشعراء. ما الذي يجذبك إلى سرد قصص المهمشين التي تتغلب على الحواجز النظامية؟

الأمر كله يتعلق بالانغماس في الموضوع، ونسيان الذات تقريبا، والكتابة ليس فقط بعقلك، بل بقلبك وجسدك أيضا.

بالنسبة لأهل غزة، هذه الاحتجاجات لا تغير شيئا في معاناتهم اليومية وأهوالهم، ولكن على المدى البعيد، نأمل أن يتغير الموقف الهولندي والأوروبي تجاه إسرائيل


 تعلمت أنه بالتعاطف والانفتاح والحب، يمكنك تقريبا التماهي مع أي شخص، في أي ظرف. ولكن عليك أيضا أن تكون قادرا على التخلي عن شيء ما في هذه العملية، بعض آرائك أو وجهات نظرك الخاصة أو أي شيء آخر. أن تكون قادرا على رؤية نفسك ومكانتك وحياتك من خلال عيني شخص آخر.

 الهوية متغيرة، إنها تثري الحياة والأدب أيضا، وهذه الطريقة الوحيدة للتواصل، بدلا من رؤية بعضنا بعضا كغرباء، أو كـ"آخرين".

كنت من بين الداعمين لغزة منذ بداية الحرب، وشاركت في التظاهرات. كيف ترين دور الكتاب والفنانين في لحظات كهذه - عندما يصطدم الضمير الإنساني بسياسة الحكومة - وكيف شكل هذا شعورك بالمسؤولية الأدبية والمدنية؟

أرى أن من مسؤولية الكتاب التعبير عن آرائهم، لا سيما في ظل هذا الظلم الصارخ الذي يحدث الآن في غزة. إن الصمت عن الظلم يعني التواطؤ معه.

 نحن، ككتاب هولنديين، لدينا إمكان التعبير علنا، لذا علينا القيام بذلك. وكمواطنة، أشعر بهذه المسؤولية. أعتقد أن الاحتجاجات المستمرة، على الرغم من تجريمها من قبل سياسيين يمينيين، غيرت المزاج العام في بلدنا. بالنسبة لأهل غزة، هذه الاحتجاجات لا تغير شيئا في معاناتهم اليومية وأهوالهم، ولكن على المدى البعيد، نأمل أن يتغير الموقف الهولندي والأوروبي تجاه إسرائيل.

كريستين أوتن في تظاهرة مؤيدة لفلسطين

 هولندا أكبر مستثمر في أوروبا، ونحن نشتري أسلحة إسرائيلية. لقد غيرت هذه الاحتجاجات آراء الناس تجاه ما يحدث في الشرق الأوسط وداخل بلداننا بشكل كبير. وخاصة الآن، مع صعود حكومات وأحزاب اليمين واليمين المتطرف في أوروبا وخارجها، من المهم جدا الصمود وإطلاع الناس على حقيقة ما يحدث، واليقظة والاستعداد للمخاطرة بشيء من أجل الصالح العام. وأرى ذلك يحدث. في يونيو/حزيران الماضي، تظاهر 150 ألف شخص من أجل غزة وضد حكومتنا التي لم تفعل (ولا تزال) شيئا لإنهاء هذه المأساة. أرى ذلك أمرا مبشرا.

font change

مقالات ذات صلة