هاجر بالي تكتب عن جزائر الأمل والخيبة

في روايتها الأحدث "السماء نفسها في كل مكان"

غلاف رواية "السماء نفسها في كل مكان"

هاجر بالي تكتب عن جزائر الأمل والخيبة

تقدم الجزائرية هاجر بالي في روايتها الأحدث "السماء نفسها في كل مكان"، الصادرة أخيرا عن دارَي "البرزخ" الجزائرية و"بلفون" الفرنسية، عملا روائيا يزاوج بين بساطة الحبكة وتعقيد البنية، وينفتح بسلاسة على قضايا الهوية والمنفى والانتماء، إذ تحاول أن تفهم كيف تمكن العجز والخذلان من رسم مصير جيل كامل، أصبحت أقصى أحلامه أن يجد ذاته في فضاء اجتماعي مأزوم، يفرضه الواقع الجزائري بكل ما يعنيه من هشاشة وانعدام أفق. لكنها وهي تسعى لفهم ذلك، لا تستسلم للتشاؤم الذي يفرضه هذا الفهم، بل تلقي للقارئ شيئا من التفاؤل المرتبط أساسا باللقاءات العابرة التي قد تغير مسار الأفراد، وبالمصادفة التي ترسمها بإتقان، لتبدو قدرا مكتوبا على نحو ما.

بساطة ظاهرية وحس رمزي

تبدأ الرواية بمشهد يبدو هادئا في حي شعبي بالجزائر العاصمة، حيث وفاء، فتاة تبلغ السابعة عشرة، تعيش في شقة صغيرة مع والدتها الأرملة التي تعمل خياطة لإعالة العائلة بعد وفاة الأب في حادثة عمل قبل عشر سنوات. وفاء تستعد لامتحان البكالوريا تحت ضغط اجتماعي خانق، حيث ينظر إلى النجاح كتذكرة خروج من الفقر، لكنها تشعر بالاختناق وسط توقعات أمها الصارمة. عادل، صديقها من حي مجاور، شاب يبلغ العشرين، ترك المدرسة بعد خلاف عنيف مع والده العامل في البناء، الذي كان يعاقبه بالضرب على كل فشل، وأصبح يعيش على سرقات صغيرة من الأسواق. يقترحان سرقة سيدة مسنة يريانها تتسوق بمفردها في سوق الحراش، ظانين أنها تعيش وحيدة. "لم نبحث كثيرا. قلنا، تلك العجوز، سنتبعها. النساء العجائز اللواتي يذهبن بمفردهن، غالبا يعشن وحيدات".

الخطة، مشحونة بجرأة شبابية مستوحاة من أفلام الجريمة التي يشاهدانها على شاشة التلفزيون الوحيدة في حيهما، تنقلب إلى كابوس عندما يقتحمان منزل الهجوز، يقيدانها ويخدرانها بجرعة مخدر وجداها في أحد المنازل المهجورة. فينتابهما غثيان يفجر استيقاظا أخلاقيا متأخرا، كأن مرآة انكسرت أمام أعينهما. "تخيلنا أنفسنا لصين بطلين، لكن الواقع صفعنا كأننا رأينا وجهينا لأول مرة". هنا تبرز براعة بالي في تحويل لحظة الفعل إلى نقطة تحول، تكشف عن هشاشة جيل يبحث عن مخرج وسط الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تحيط به.

شكلت هاجر بالي مرايا عكست تناقضات المجتمع الجزائري في مرحلة ما بعد الاستقلال

يدخل سليم، ابن السيدة سوامي، إلى القصة كشخصية معقدة: أستاذ فلسفة سابق في جامعة الجزائر، ترك التدريس بعد خسارة وظيفته في أعقاب احتجاجات 2001 التي قمعها النظام بقسوة، وانفصاله عن زوجته التي هاجرت إلى فرنسا مع ابنتهما. في الأربعين من عمره، يعيش عزلة ذاتية، محاطا بدفاتر مليئة بالتأملات الفلسفية والصوفية. يواجه الدخيلين بعنف في البداية، لكن التوتر يتحول إلى حوار عندما يدعوهما إلى شقته: "لم يكن قاضيا ولا جلادا. تقدم معهما، قدم كلمة، كتابا، وكأن كل عطاء كان يعيد اكتشافه، كأنه وجد فيهما جزءا مفقودا من روحه".

AFP
جزائريون يتظاهرون في بلدة خراطة شمال البلاد إحياءً لأول احتجاجات الحراك، 16 فبراير 2021

يرى في وفاء وعادل فرصة لاستعادة معنى حياته، بينما يكتشفان فيه أبوة وهداية افتقداها. العلاقة الثلاثية تنمو، مشحونة بالتوتر والحميمية، مع تلميحات إلى جاذبية فكرية تنشأ بين وفاء وسليم، تضيف طبقة عاطفية معقدة إلى السرد، حيث تبدأ وفاء في قراءة دفاتر سليم وتجد فيها صدى أسئلتها عن الهوية.

تضاد وتكامل

بهذه الشخصيات الثلاث، شكلت هاجر بالي مرايا عكست تناقضات المجتمع الجزائري في مرحلة ما بعد الاستقلال. وفاء، بنظراتها المتسائلة وأحلامها المحدودة بالنجاح الأكاديمي، تمثل جيلا يبحث عن ذاته وسط الضغوط العائلية والاجتماعية، حبها لعادل – الذي يمثل التمرد اليائس – يتشابك مع إعجابها بفكر سليم الذي يقدم لها رؤية مختلفة للحياة. عادل، الذي يحلم بالهجرة إلى كندا كفردوس بعيد عن العنف الأسري والفقر، يحمل جروحا من طفولة قاسية، طموحه ينهار أمام العجز المالي وفشله في إيجاد عمل ثابت.

أما سليم، بين نزعته الصوفية التي تجده في التأملات الروحية وشغفه بالتغيير الاجتماعي الذي دفعه للمشاركة في احتجاجات سابقة، يجد في وفاء وعادل خلاصا ذاتيا: "في دفاتره، كتب سليم أفكاره كخارطة لروحه: ميراث، رغبات، حكايات متشابكة، كأنه يبحث عن إجابة في كل سطر، كأن كل كلمة كانت صرخة صامتة لعالم أضاعه". هذه الدفاتر تصبح ذاكرة مشتركة، تنتقل إلى وفاء كشعلة أمل، تعكس تكاملا عاطفيا وفكريا بين الثلاثة. علاقتهم المتوترة، الممزوجة بالصداقة، الشكوك، والعلاقات العاطفية المتشابكة، هي استعارة حية عن علاقة الجزائر بنفسها، بلد يحتضن تناقضات الأجيال بين التمسك بالتراث والسعي نحو التغيير.

AFP
مشهد من ساحة رئيسية في العاصمة الجزائر، 15 سبتمبر 2024

مع تقدم القصة، يتزوج وفاء وعادل في مراسم بسيطة حضرها أهل الحي، وينجبان طفلين، لكن الضغوط المالية تزداد مع ارتفاع أسعار المعيشة في الجزائر، مما يدفع عادل للتفكير جديا في الهجرة القانونية إلى كندا عبر طلب لجوء، بينما تنخرط وفاء في دراسة الأدب في الجامعة بدعم من سليم. في المقابل، ينخرط سليم في الحراك الشعبي، حيث يجد لحظة تضامن نادرة مع المتظاهرين، لكنه يواجه الاعتقال المؤقت والترهيب من الأجهزة الأمنية. ومع تراجع الحراك واعتقال زملائه، ينتهي الأمر بموت سليم المفاجئ – انتحار أم جريمة مجهولة بسبب نشاطه السياسي؟ الرواية لا تقول شيئا– مما يدفع الزوجين إلى الرحيل، تاركين خلفهما ذكرى أمل محطم ودفاتر سليم كميراث روحي، قد لا يستفيد منه أحد.

الدين بدوره حاضر كصراع داخلي، يتأرجح بين نزعة صوفية تبحث عن الصفاء الروحي وتدين تقليدي يهدد بالانغلاق

هذا الثلاثي غير المتجانس شكل قلب الرواية النابض. كل شخصية تكمل الأخرى بما ينقصها. وفاء تمثل البحث عن الذات وسط التردد والالتباس الجيلي، عادل يجسد طموحا هشا بالحرية والعيش الكريم، أما سليم، فهو المرآة الأكثر تركيبا، شخصية ممزقة بين نزعة صوفية وفلسفية ورغبة في السيطرة والإصلاح، يجد في هذين الشابين فرصة لفداء ذاتي أكثر مما هو محاولة لإنقاذهما، وهذا ما سيدركه قارئ هذه الرواية بيسر وهو يقرأ: "في دفاتره، كان سليم يدون حركة أفكاره، ميراثا ورغبات وحكايات متشابكة. كان يريد أن يفهم من أين أتى، وإلى أين يمضي. كانت تلك الصفحات تتحول إلى شاهد، إلى شعلة تنتقل، لتتولاها يوما ما وفاء". هنا نلمح كيف تتحول الكتابة نفسها إلى ذاكرة مشتركة، إلى نفس جماعي يتجاوز الفرد.

الموضوعات التي تنسجها الرواية متعددة ومتداخلة. الهجرة تتكرر رمزا للخلاص المستحيل، فعادل يحلم بالمنفى كفردوس، لكن هذا الفردوس لا يتحقق، لأن المشكلة ليست فقط في المكان بل في الذات التي تحمل فشلها معها. الهوية والانتماء يظلان سؤالا معلقا، حيث الشخصيات لا تعرف كيف تتصالح مع جذورها ولا كيف تتجاوزها. الدين بدوره حاضر كصراع داخلي، يتأرجح بين نزعة صوفية تبحث عن الصفاء الروحي وتدين تقليدي يهدد بالانغلاق. الحب أيضا لا يأتي كملاذ، بل كخسارة جديدة، كحلم يتفتت أمام قسوة الواقع.

AFP
تجمع قرب ملصقات انتخابية ممزقة قبيل الانتخابات الرئاسية الجزائرية قرب ميناء العاصمة الجزائر، 5 سبتمبر 2024

عبء الثيمات والمواضيع المتداخلة

الرواية مرآة للجزائر المعاصرة، حيث تتجاوز القصة الشخصية لتصبح تأملا في قضايا كبرى. الهوية تبقى سؤالا مفتوحا، فالشخصيات تتصارع مع جذورها الثقافية والتاريخية دون قدرة على التخلي عنها أو التصالح معها تماما، كما تعكس وفاء ترددها بين حياة أمها التقليدية وأحلامها الخاصة. الهجرة، كخلاص مستحيل، تتردد كحلم يتفتت، فعادل يؤجل خطته إلى كندا أمام حماسة الحراك، لكن الفكرة تعود ملحة بعد انحسار الموجة وفشل التغيير السياسي. الدين يتأرجح بين الروحانية التي يجد سليم فيها ملاذا، لكنه في الوقت نفسه يفرض قيودا اجتماعية صارمة على وفاء، بينما الحب يظهر كجرح معقد، يعكس علاقات الشخصيات وصراعاتها العاطفية.

أما الحراك الشعبي فيبرز كلحظة يقظة جماعية، حيث "غنوا معا تحت هدير المروحيات، الأصوات ترتفع كشعلة جماعية في ساحة الشهداء"، تعكس أملا هشا يجمع الشباب من مختلف الخلفيات. لكن انهيار هذا الأمل مع القمع الأمني يعيد الشخصيات إلى الواقع القاسي، مما يبرز التوتر بين الوعي الجماعي والفردي، ويضيف بعدا سياسيا يعزز عمق النص، خاصة مع تصوير بالي لمشاهد الاحتجاجات بتفاصيل حسية مثل رائحة الغاز المسيل للدموع وهتافات الشوارع.

AFP
جزائري يبيع الطماطم في العاصمة الجزائر، 15 سبتمبر 2022

صراعات متناغمة

تميزت الرواية بلغة تمكنت باقتدار من الجمع بين الكثافة الشعرية والدقة الواقعية. أحيانا تتحول الجمل إلى نثر شعري مشبع بالصور والاستعارات: "صفعة تعيد ترتيب الكواكب"، "سماء تظلل الجميع بالخسارة ذاتها". وأحيانا أخرى، تهبط إلى لغة يومية ساخرة، تسجل تفاصيل الأسواق والبيوت والأحياء الشعبية. هذا التناوب بين اليومي والمتعالي، بين الواقعي والحلمي، منح النص إيقاعا خاصا، عززه اختيار الفصول القصيرة التي تكثف السرد وتمنحه حركة مستمرة.

بلد "بين بين": بين الرغبة في الانفتاح والخوف من الفوضى، وبين الحنين إلى الماضي والرغبة في المستقبل

غير أن الأهم في هذا العمل، هو انفتاح الرواية على الفضاء العام، على السياسة والاجتماع. ففي قلب النص يبرز الحراك الشعبي كلحظة تلاق نادرة بين أطياف المجتمع الجزائري يصعب رصدها، أو على الأقل يتعسر وصفها كما فعلت الروائية، التي لم تر في الحراك مجرد حدث سياسي، بل مناسبة لتشكل وعي جماعي جديد، سمح للجزائريين، للمرة الاولى ربما، بإدراك أن الجزائر ملكهم جميعا، وأن في مقدورهم وهم يتشبثون بهذا الإدراك، أن يسمحوا للكلمات بالتنقل بحرية، من دون أن ينشغلوا إن كان ما يخرج من أفواههم عربية، فرنسية أو أمازيغية.

ومع ذلك، يبقى التردد بين البقاء والمنفى أحد خيوط الرواية الأساسية. فعادل ووفاء، وقد أصبحا زوجين ولهما أولاد، يقرران تأجيل مشروع الهجرة إلى كندا، مؤمنين بأن للتاريخ لحظة تستحق العيش، لكنها لحظة عابرة وسريعة في مسار قطار لا يرغب في التحرك إلى الأمام: "فكرنا في كندا. لكن كيف نرحل والتاريخ يطرق بابنا؟ أرجأنا المشروع. ثم، حين انحسرت الموجة، عادت الفكرة من جديد، ملحة، كفرار لم يكتمل". هذه المفارقة تجسد بلا شك مأساة جيل كامل يعيش مضطرا بين أمل جماعي سخيف يشده إلى أرضه، وبين انكسار فردي ينفره منها.

حاولت هاجر بالي في روايتها هذه، أن تنحت شخصياتها لتكون وجه بلد واحد، فوفاء وعادل شكلا صورة جيل يافع، مرتبك، يبحث عن مخرج بأي ثمن، أما سليم فهو صورة الجيل الأكبر، الذي جرب السياسة والفلسفة والحب ليبلغ الخلاص، ورغم انكساره لا يزال يبحث عن أي معنى يتشبث به، لا ليعيش بل فقط ليبقى على قيد الحياة. علاقات شخصيات بالي المتوترة والحميمة في آن، هي تصوير لعلاقة الجزائر بنفسها: بلد "بين بين": بين الرغبة في الانفتاح والخوف من الفوضى، وبين الحنين إلى الماضي والرغبة في المستقبل.

font change

مقالات ذات صلة