عامر حليحل لـ"المجلة": الاحتفاء بـ"صوت هند رجب" مرآة لحاجة العالم إلى قوارب نجاة معنويةhttps://www.majalla.com/node/327601/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%B1-%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%AD%D9%84-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D8%AA%D9%81%D8%A7%D8%A1-%D8%A8%D9%80%D8%B5%D9%88%D8%AA-%D9%87%D9%86%D8%AF-%D8%B1%D8%AC%D8%A8-%D9%85%D8%B1%D8%A2%D8%A9-%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AC%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A8
قبل أسابيع قليلة، وقف الفنان الفلسطيني عامر حليحل على خشبة المسرح في مهرجان البندقية السينمائي، يحتفل مع فريق فيلم "صوت هند رجب" بفوزه بجائزة الأسد الفضي. حمل الفوز نكهة احتفالية، لكنه من جهة أخرى مثل لحظة تجسيد للتعاطف العالمي الجارف مع مأساة غزة.
الفيلم الذي أخرجته التونسية كوثر بن هنية، وشارك فيه فنانون فلسطينيون وعرب، وثق اللحظات الأخيرة من حياة الطفلة هند رجب التي قتلت بوحشية مع عدد من أفراد عائلتها على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي.
لم يكن الممثل الفلسطيني عامر حليحل المعروف بحضوره المسرحي والسينمائي، يحمِل صوته وحده من خلال مشاركته في هذا الفيلم، وإنما صوت ذاكرة جماعية مصبوغة بالدم. من خلال حديث عامر حليحل hgn "المجلة" يبدو أن دور الفن لا يقاس بقدرته على وقف الحرب، بل بقدرته على منع النسيان. الفن هنا يكتب الرواية الفلسطينية على نحو يجعلها عصية على المحو، إذ يحول صوت طفلة قُتلت تحت الركام إلى صدى عالمي لا ينطفئ.
الفن عبر التاريخ هو أداة لنصرة المظلوم، إذ أن التاريخ الرسمي يكتبه المنتصرون، أما تاريخ الإنسانية فيكتبه المبدعون
ففي مواجهة آلة القتل التي تنتج موتا يريد محو الذاكرة، يقف الفن كآلة مضادة، آلة تكتب، وتوثق، وتهز الضمير. ولعل هذا ما يجعل "صوت هند رجب" أكثر من فيلم، إنه فعل مقاومة ثقافية، وحلقة جديدة في تاريخ طويل من صراع الفلسطيني مع المحو. هنا حوار "المجلة" معه.
أشخاص يسيرون قرب السيارة التي عُثر فيها على جثة الطفلة الفلسطينية هند رجب (6 سنوات) مع خمسة من أفراد عائلتها، فيما قُتل مسعفان كانا في طريقهما لإنقاذها، وسط الحرب في غزة.
هل تعتقد أن "صوت هند رجب" استطاع نقل حجم المأساة التي تعيشها غزة في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية؟
ليس هناك عمل فني يمكنه نقل صورة كاملة أو شاملة عن أي حرب، فما بالك بما يحدث في غزة. الفيلم يقدم قصة أربع ساعات فقط، وهو يتركز على عجز العالم تجاه غزة. إذ يتمحور بصورة أساسية حول طاقم الهلال الأحمر الفلسطيني في رام الله الذي حاول على مدار تلك الساعات القليلة أن ينقذ الطفلة هند رجب من طريق إيصال سيارة إسعاف إليها. وقد أجرى هذا الطاقم كل ما في وسعه من اتصالات وقام بمحاولات تأثير من أقطاب وجوانب، لكنه في النهاية، ومع أنه حصل على إذن بالوصول إلى هند، فشل في إنقاذها، إذ قصفت سيارة الإسعاف وقتل مسعفان كما قتلت الطفلة.
الممثل عامر حليحل، معتز مليس، وكلارا خوري على السجادة الحمراء في فينيسيا يحملون صورة الطفلة الفلسطينية هند رجب.
الفن لا يزعم امتلاك الحقيقة كاملة، لكنه يلتقط لحظة كاشفة. أربع ساعات من محاولة إنقاذ طفلة، تتكثف لتصبح رمزا لعجز العالم بأسره أمام جريمة تُرتكب على الهواء مباشرة. ما يفعله الفيلم ليس إعادة تمثيل الموت، بل إعادة صوغ الأسئلة التي يطرحها: من المسؤول؟ وأي عالم هذا الذي يعجز عن حماية طفلة تستغيث؟
تراكم يغير المعادلة
ما وظيفة الفن إذن في زمن الحرب والإبادة؟
للفن وظيفة أساسية وهي مراكمة الرواية الإنسانية والتأثير في الوعي. الفيلم أو المسرحية أو الرواية لن توقف الحرب والإبادة على نحو فوري ومباشر، لكنها تسعى إلى إيصال صوت الفلسطيني وما تمر به غزة إلى عقول الناس ونفوسهم، ومن ثم التأثير في وعيهم، بأمل أن يساهم هذا التأثير وتلك المراكمة في تحريك العالم من أجل تغيير المعادلة وإيقاف الإبادة. الفن عبر التاريخ هو أداة لنصرة المظلوم، إذ أن التاريخ الرسمي يكتبه المنتصرون، أما تاريخ الإنسانية فيكتبه المبدعون.
كيف تصف تجربتك الشخصية مع مأساة هند رجب؟
لا أعرف إذا كانت كلمة عجز تعبر عن الشعور الذي انتابني عندما رأيت ما حدث لهند، لكنني أذكر حالة الترقب الهستيري لمصيرها على مدار 12 يوما، وأذكر حالة الانكسار لحظة معرفة مصيرها ومصير المسعفين يوسف زينو وأحمد المدهون. وعلى مدار أيام طويلة لم يخرج صوتها من رأسي، حتى أني كتبت نصا قصيرا أصبح أغنية ستذاع قريبا.
الجوائز هنا تتجاوز الإنجاز السينمائي لتكون علامة على حاجة العالم إلى لغة رمزية للتضامن
لحظة سمعنا صوت هند في أول أيام تصوير الفيلم، انهالت علي صخور التجربة الحقيقية وأعادتني إلى ذلك اليوم، يوم سمعنا هند تستنجد، وكأنه لم تمر شهور طويلة بين التجربتين.
لممثل عامر حليحل في جلسة التصوير لفيلم "صوت هند رجب" ضمن مهرجان فينيسيا السينمائي.
قوارب نجاة
الفيلم نال جائزة الأسد الفضي في مهرجان البندقية، وصفق الجمهور بعد مشاهدته لمدة 24 دقيقة، كما حاز أخيرا جائزة الجمهور في "مهرجان سان سيباستيان". كيف ترى هذا التكريم؟
الاحتفاء بالفيلم يدل على أن العالم بحاجة إلى قوارب نجاة معنوية يستطيع من خلالها التعبير عن تضامنه وعن صرخته وعن ألمه وغضبه وحبه. الإنسان العالمي اليوم يريد أن يعبر عن موقفه تجاه ما يحصل، والفيلم خرج في وقت بدأنا نشهد فيه تعالي الصوت المتضامن في العالم. وأعتقد أن جودة الفيلم ساعدت في تعزيز هذا الاحتفاء، فامتزج الموقف الإنساني تجاه غزة بالإعجاب بالمنتج الفني، وشكلا معا متنفسا للجمهور ومساحة للتعبير وتثبيت الموقف.
الممثل عامر حليحل والمخرجة كوثر بن هنية والممثل الأميركي خواكين فينيكس مع فريق فيلم "صوت هند رجب" على السجادة الحمراء في مهرجان فينيسيا السينمائي.
الجوائز هنا تتجاوز الإنجاز السينمائي لتكون علامة على حاجة العالم إلى لغة رمزية للتضامن. فالفيلم صار مرآة يرى فيها المشاهد الغربي غضبه وحزنه، لكنه يجد أيضا وسيلة للتعبير عنه، وكأن الفن يعوض ما عجزت السياسة عن قوله.
بقيت الرواية الفلسطينية محتجبة عن العالم لعقود طويلة، تحت سطوة الرواية المقابلة، هل كسر اليوم هذا الجدار؟
لا ليس خافيا على أحد أن الرواية الفلسطينية عاركت وحاربت من أجل حضورها في العالم لسنوات طويلة، والغرب أدار ظهره بشكل جارف للرواية العربية والفلسطينية، لأسباب يعرفها الجميع. لكن اللافت في الأشهر الأخيرة أننا بدأنا نشتم رائحة التغيير.
صورة هند رجب مرفوعة على السجادة الحمراء خلال عرض فيلم "صوت هند رجب" في مهرجان فينيسيا السينمائي.
فالمحافل الدولية تستقبل تعبيرات الرواية الفلسطينية، وهناك نجوم عالميون يشهرون تضامنهم على نحو لم نشهده في السابق. لكن هل إذا استمع الغرب إلى روايتنا سيغير واقعنا ويؤثر فيه؟ نأمل ذلك، فنحن محكومون بالأمل كما قال كاتبنا سعد الله ونوس. هذا الأمل ليس رومانسيا بقدر ما هو شرط بقاء.
ما نمر به كشعب منذ أكثر من 76 سنة يحتم علينا أن نصرخ في وجه العالم كي يلتفت إلى صدق قضيتنا وقصتنا، عله يخرج عن صمته
في ظل الإبادة، يصبح مجرد وصول الرواية الفلسطينية إلى المنابر العالمية خرقا مهما. لكنه يبقى ناقصا ما لم يتحول الإصغاء إلى فعل سياسي يغير المعادلة.
كوثر بن هنية تحمل صورة هند رجب على السجادة الحمراء خلال عرض فيلم "صوت هند رجب" في مهرجان فينيسيا السينمائي.
الصور الممكنة
هل ترى أن هناك صورا أخرى تستحق أن تنقل فنيا إلى العالم لتجسد فظاعة حرب الإبادة، كما فعلت قصة هند رجب؟
من هول ما نراه، ومن كثرة الصور التي تهز القلوب والأبدان يوميا، يصعب التحديد، فهناك مئات آلاف الصور التي يمكن نقلها إلى الشاشة أو المسرح لتساهم في نشر الرواية. لكني كنت أفضل ألا تكون هذه الصور وألا تقع هذه المصائب حتى لو عنى ذلك أن يتوقف الإنتاج الفني نهائيا. كنت أود أن أظهر للعالم في فيلم يروي قصة حب، وأن تكون رواية بلدي مصدر ترفيه للعالم. لكن ما نمر به كشعب منذ أكثر من 76 سنة يحتم علينا أن نصرخ في وجه العالم كي يلتفت إلى صدق قضيتنا وقصتنا، عله يخرج عن صمته تجاه هذا الظلم التاريخي الذي لحق بنا.