الشرق الأوسط بعد "7 أكتوبر"... خريطة جديدة وخاسر أكبر

السؤال لم يعد حول غزة فقط، بل من يملك الكلمة العليا

الشرق الأوسط بعد "7 أكتوبر"... خريطة جديدة وخاسر أكبر

استمع إلى المقال دقيقة

قبل عامين، في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقعت هجمات "حماس" على غلاف غزة، فأحدثت زلزالا سياسيا وأمنيا لا تزال ارتداداته تضرب المنطقة.

بالنسبة إلى "المجلة"، لم يكن ممكنا أن تمر الذكرى الثانية من دون التوقف عندها، لأنها لم تكن مجرد مواجهة بين "حماس" وإسرائيل، بل لحظة مفصلية دشّنت مرحلة جديدة في المنطقة. " 7 أكتوبر 2023... كيف أثر على الشرق الأوسط؟"، عنوان قصة غلاف "المجلة" لشهر أكتوبر، مكرس لقراءة ما تغيّر في المنطقة خلال عامين، وكيف تبدلت موازين القوى، ومن خسر ومن ربح.

منذ ذلك اليوم، توالت الأحداث بوتيرة غير مسبوقة. الحروب لم تتوقف. المبادرات الدبلوماسية لم تجف. بعضها نجح وبعضها الآخر بقي حبيس الأمنيات. والخرائط لم تستقر. لكن الأكيد أن "محور إيران" خرج من هذه المرحلة أضعف بكثير مما كان يتصوّر. الضربات الإسرائيلية تلاحقت، من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى دمشق وبغداد وصنعاء وصولا إلى طهران. مواقع ومستودعات دُمّرت، قادة بارزون قُتلوا، وحلفاء طهران وجدوا أنفسهم في مواجهات مكلفة وطويلة. في العراق، تراجع "الحشد" إلى موقع دفاعي. في لبنان، انخرط "حزب الله" في حرب استنزاف في الجنوب ارتدت عليه في بيروت. في اليمن، حُوصر "الحوثيون" بين ضربات عسكرية وضغوط سياسية.

إيران هي الخاسر الأكبر. هذا لا يعني أن المحور انهار كليا، لكنه فقد زخمه. كلفته ارتفعت، قدرته على المبادرة تراجعت، وصورته كقوة صاعدة تآكلت

لكن الضربة الأقسى لطهران، كانت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول حين طُرد الرئيس بشار الأسد من الحكم في دمشق. الأسد لم يكن مجرد "حليف" لإيران، بل حجر الزاوية في تمددها غربا، وممرها الاستراتيجي إلى لبنان والبحر المتوسط. سقوطه مثّل هزة استراتيجية لـ"المرشد"، لأنه حرم طهران من أهم منصة لنفوذها وأحد أبرز حلفائها الذين صمدوا معها خلال العقود الماضية. بذلك خسر "محور الممانعة" ركيزة مركزية، ما جعلها أكثر عزلة وأضعف حضورا في معادلة الإقليم.

إيران هي الخاسر الأكبر. هذا لا يعني أن المحور انهار كليا، لكنه فقد زخمه. كلفته ارتفعت، قدرته على المبادرة تراجعت، وصورته كقوة صاعدة تآكلت. وأوضح تعبير عن ذلك، كان عجز "الوكلاء" و"الحلفاء" في الدفاع عن إيران وبرنامجها النووي ضد الضربات الإسرائيلية والأميركية في منتصف العام. حتى في الداخل، ارتفع النقاش حول جدوى المغامرات الخارجية في وقت يواجه فيه الاقتصاد تحديات عميقة والشارع الإيراني ضغوطا متزايدة.

الداخل لم يكن مستقرا. بنيامين نتنياهو، الذي يُلقب بـ"السياسي الأطول عمرا" في إسرائيل ويسعى لرسم خريطة جديدة في الشرق الأوسط، يواجه قضايا فساد وضغوطا متصاعدة

في المقابل، أعادت إسرائيل التموضع بسرعة. صحيح أنها تعرضت في السابع من أكتوبر لصدمة وجودية، وصحيح أن صورتها الأمنية تضررت وبدا وكأن "محور" إيران وجه ضربة كبيرة. لكنها فرضت نفسها خلال عامين لاعبا أساسيا. صعّدت عملياتها ضد امتدادات إيران، وعززت تعاونها مع شركاء يرون في التنسيق معها ضمانة لأمنهم أو فرصة للانفتاح على التكنولوجيا والتحديث. وعلى الرغم من خلافاتها المتكررة مع واشنطن، حافظت على المظلة الأميركية التي عززتها عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. كما باتت حاضرة أكثر في الحسابات الأوروبية والآسيوية.

لكن الداخل لم يكن مستقرا. بنيامين نتنياهو، الذي يُلقب بـ"السياسي الأطول عمرا" في إسرائيل ويسعى لرسم خريطة جديدة في الشرق الأوسط، يواجه قضايا فساد وضغوطا متصاعدة من المعارضة، إضافة إلى انقسام اجتماعي حاد. صورته في الداخل اهتزت، وإن حاول تصدير صورة القائد القوي في الخارج. علاقة نتنياهو الملتبسة مع ترمب زادت المشهد تعقيدا، فهو يستند إلى إرث ولايته الأولى و"الاتفاقات الإبراهيمية"، لكنه كان يدرك أن عودة ترمب إلى البيت الأبيض حملت فرصا وتحديات في آن. آخرها، إعلان ترمب بوجوده ومن البيت الأبيض، خطة لوقف الحرب المجنونة التي يدفع المدنيون ثمنها منذ سنتين نزوحا وقتلا وتجويعا، أعادت خلط الأوراق وأظهرت كيف أن مستقبل القطاع بات ورقة تفاوضية في التنافس بين القوى الكبرى والفاعلين، وليس فقط بين "حماس" وإسرائيل.

يمكن القول إن الشرق الأوسط لم يعد كما كان. المفارقة أن الحرب لم تعد شأنا فلسطينيا–إسرائيليا صرفا

ومن بارقات الأمل، كان نجاح المبادرة السعودية-الفرنسية في عقد قمة دولية لـ"حل الدولتين" على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، حصدت اعترافات كبيرة من دول بينها فرنسا وبريطانيا وكندا بـ"الدولة الفلسطينية".

اليوم، بعد سنتين، يمكن القول إن الشرق الأوسط لم يعد كما كان. المفارقة أن الحرب لم تعد شأنا فلسطينيا–إسرائيليا صرفا. غزة تحولت إلى ساحة اختبار لصراعات أوسع: بين إيران وإسرائيل، بين قوى إقليمية ساعية لترسيخ نفوذها، وقوى كبرى تعيد ترتيب أولوياتها في عالم مأزوم من أوكرانيا إلى شرق آسيا.

السؤال اليوم لم يعد حول غزة فقط، بل من يملك الكلمة العليا في الشرق الأوسط الجديد. المنطقة كلها تقف على مفترق طرق سيحدد شكلها لعقد مقبل على الأقل.

اختيارنا هذا الملف لا يهدف إلى استعادة حدث مضى فحسب، بل إلى قراءة حاضر متحرك ومستقبل مفتوح على احتمالات كثيرة.

font change