يونس خميري يرتب سديم حياته برواية

"أخوات" تصور عبء الإرث العائلي المزدوج وسطوة أساطيره

غلاف رواية "أخوات"

يونس خميري يرتب سديم حياته برواية

لا عجب في بلوغ رواية يونس حسن خميري، "أخوات"، إلى القائمة النهائية لـ"جائزة ناشيونال بوك" الأميركية العريقة. ففي هذا العمل الضخم (637 صفحة) والطموح، الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثا في باريس، بعد أسابيع قليلة من صدوره في نيويورك، نجح هذا الكاتب السويدي – التونسي في تشييد ملحمة عائلية آسرة تتأرجح بين ماض وحاضر، وفي مقاربة من خلالها موضوعات كثيرة مهمة بعمق لا يخلو من طرافة، مستعينا بلغة سلسة صافية تحمل قارئها حتى الكلمة الأخيرة من دون أن يشعر بأدنى إرهاق أو ملل.

القصة التي يرويها خميري في "أخوات"، تدور أحداثها بشكل رئيس في السويد، لكنها تقفز أيضا إلى تونس وأميركا وفرنسا وألمانيا. ولسردها، لجأ إلى بنية معقدة تتألف من ستة أجزاء تغطي فترات زمنية مختلفة تجسد، بتضاؤلها التدريجي، شعورنا بمرور الزمن الذي يختلف مع تقدمنا في السن. بنية تسمح بمتابعة شخصياته الرئيسة، الأخوات ميكولا والراوي جوناس (صنوه)، على مدار 35 عاما من حياتها.

تبدأ أحداث الرواية في ستوكهولم، في ليلة رأس السنة عام 1999، حيث نجد الأخوات ميكولا الثلاث في حفلة صاخبة يمنحنا سلوكهن فيها المفاتيح لفهمهن وفهم الديناميكيات التي تتحكم بعلاقاتهن على طول هذه الملحمة. الأخت الكبرى، إينا، الأكثر تحفظا بينهن، تبدو مرتبكة داخل الحفلة، ومشغولة بإخفاء ارتباكها، قبل أن تلتقي الشاب هيكتور وتفتن به إلى حد أنها تتردد في تقديمه إلى شقيقتيها خوفا من أن يفقد اهتمامه بها لصالح واحدة منهما. الأخت الوسطى، إفلين، تسحر الجميع بجمالها وجاذبيتها ولا تستكين. أما الأخت الصغرى، أناستازيا، فتبدي تجاهلا رقيعا لكل من حولها.

عصاب قهري

والد هؤلاء الأخوات موسيقى سويدي توفى في صغرهن. والدتهن بائعة سجاد تونسية تمضي وقتها على الطرق لبيع سجاداتها. ولأنها عصابية، متقلبة المزاج، تبدو عاجزة عن الاستقرار في مكان واحد، فتنتقل ببناتها من شقة إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، بلا هوادة. لذلك، واجهت إينا وشقيقاتها منذ نعومة أظفارهن التحديات الملازمة لهويتهن المزدوجة داخل المجتمع السويدي المتجانس: "كن غير قابلات للتصنيف، مثل أغنية لا تناسب أي قائمة للأغاني". لذلك أيضا، تحمل كل واحدة منهن عبئا ثقيلا من المخاوف وانعدام الأمان، علما أنهن شديدات الاختلاف.

سؤال جوهري تطرحه "أخوات" على طول سرديتها: هل تحويلنا حياتنا إلى قصة يمكن أن يساعدنا في النجاة منها؟

إينا تعاني من عصاب هجاسي قهري يمنعها من الاسترخاء، أحد أسبابه اضطرارها منذ صغرها إلى الاهتمام بشقيقتيها أثناء غياب أمهن الدائم. إفلين الحالمة تبدو عاجزة عن الإمساك بخيوط حياتها وإنجاز أي شيء. أناستازيا متمردة، فوضوية وسريعة الغضب.

القاسم المشترك الوحيد بين هؤلاء الأخوات هو اقتناعهن بأن ثمة لعنة مسلطة على حياتهن. مصدر هذه اللعنة، التي كانت أمهن "تهابها أكثر من خوفها من الموت"، هو، بحسب هذه الأم، شقيقتها الكبرى التي يفترض أنها دعت عليها بفقدان كل شيء أو شخص تحبه. لماذا؟ لأنها سرقت جواز سفرها لمغادرة تونس، فمنعتها من تحقيق حلمها بمتابعة دراستها في باريس.

حين تلتقي إفلين بخالتها في نهاية الرواية، يتبين أن لا أساس من الصحة لهذه اللعنة. مع ذلك، فإن أمها ستفقد زوجها الحبيب باكرا ولا تعرف الحب والاستقرار بعد ذلك. وشقيقتها إينا، التي ستتزوج من الشاب هيكتور وتنجب منه ثلاثة أطفال، تعود إلى المنزل ذات ليلة لتجده في أحضان امرأة أخرى، فتغادره. وشقيقتها أناستازيا، بعد مرحلة إدمان المخدرات، تتوجه إلى تونس لاستكشاف جذورها وتعلم اللغة العربية، فتقع في حب شابة وتخسرها بغباء. وحين تعود إلى السويد، تلمع في مجال الإعلانات، لكنها تفقد شهرتها وسمعتها بسبب إعلان فاشل.

أما هي، فبعد سنوات من العمل الممل في متجر ملابس، تجد أخيرا نفسها في ميدان التمثيل المسرحي وتتألق فيه، لكن حين تتوجه إلى نيويورك لكتابة مونولوغ مطلوب منها للتخرج في معهد التعليم، تفشل في إنجازه وتبقى في هذه المدينة سنوات طويلة بلا أوراق رسمية شرعية.

STEPHANE DE SAKUTIN / AFP
الكاتب السويدي يونس حسن خميري بعد تسلمه جائزة "ميديسيس" عن روايته "البند الأبوي" في باريس، 26 أكتوبر 2021

من جهته، الراوي جوناس من أم سويدية بذلت كل ما في وسعها للاعتناء به وبأخويه الصغيرين، وأب تونسي فاشل كان يتوارى لأشهر، وأحيانا لسنوات، ثم يظهر من جديد ليمارس سلطته القامعة على ابنه وينتقد سلوكه وخياراته، مما أوقع هذا الأخير في حالة اكتئاب مزمنة، وأفقده ثقته بنفسه، حتى بات يسمع صوتا داخله يهزأ من كل ما يقدم عليه، وينسج علاقات سيتبين لاحقا أن معظمها من صنع خياله.

الواقعي والاستيهامي

لذلك، مع تطور أحداث الرواية، يصبح من الصعب التمييز بين الواقعي والاستيهامي في حياة جوناس، خصوصا أنه لا يلبث أن يعانق الكتابة و"ينظر إلى حياته باعتبارها قصة". وهو ما يقودنا إلى سؤال جوهري تطرحه "أخوات" على طول سرديتها: هل تحويلنا حياتنا إلى قصة يمكن أن يساعدنا في النجاة منها؟

غلاف النسخة الفرنسية من رواية "أخوات"

لكن ماذا عن علاقة جوناس بإينا وإفلين وأناستازيا؟ منذ اليوم الذي انتقلت هؤلاء الأخوات مع أمهن للعيش في حيه بستوكهولم، وكان لا يزال طفلا، شعر بجاذبية تجاههن لا تفسرها فقط هويتهن المزدوجة المشابهة لهويته: "ثمة شيء في الأخوات ميكولا كان يجعلني أشعر بعزلة أقل"، يقول الراوي، قبل أن يضيف لاحقا: "كانت حيواتنا موصولة بخيط خفي". وحين يعرف باكرا من أمه أن علاقة غامضة وقديمة كانت تربط والده بوالدتهن، ثم يكشف هذا الوالد له لاحقا أنه قدم سائلا منويا لوالدتهن، حين لم تتمكن من الحمل من زوجها السويدي، يتعزز هوسه بهن.

خميري لم يكتب هذه الرواية باللغة السويدية، بل بالإنكليزية لأن هذه اللغة توفر له المسافة الضرورية مع نفسه لتناول بعض ذكرياته وتجاربه

لكن كل جزء من الرواية يكشف سرا مثيرا على القارئ أن يتتبع خيطه حتى النهاية كي يفهم كيف تتشابك حياة الراوي بحياة الأخوات ميكولا. وفي هذه الأثناء، نتلقى سرديته من وجهة نظره طبعا، ولكن أيضا من وجهة نظر كل منهن، قبل أن تشكك إفلين في صحة ذكرياته، حين يفاجئها في نهاية الرواية بزيارة غير متوقعة في نيويورك، ويعزز رده عليها الالتباس في شأن حقيقة ما يرويه.

لكن سواء كانت قصة جوناس واقعية أو خيالية، فإن تعدد زوايا النظر في سرد أحداثها يضفي على تصوير شخصياتها عمقا وتعقيدا. تصوير يتم من خلال أفعال هذه الشخصيات ومواقفها، بجمل طويلة، لكن مكتوبة بلغة واضحة، تعكس دقتها اهتماما بالغا في التفاصيل، وتدين بوقعها البليغ إلى إيقاعها السلس وذلك المزيج الحاذق من الجدية والطرافة فيها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن خميري لم يلجأ لكتابة "أخوات"، التي هي خرافة ذاتية، إلى اللغة السويدية، لغة أمه التي كتب بها رواياته الست السابقة، بل إلى الإنكليزية. والسبب؟ توفير هذه اللغة له تلك المسافة الضرورية مع نفسه لتناول بعض ذكرياته وتجاربه. ومع ذلك، أتت لغته مشحونة بحدة انفعالية كبيرة، سواء لدى وصفه الألم والاضطراب اللذين عانى منهما نتيجة تصدع عائلته، وسلوك والده تجاهه وتجاه والدته، وسعي خميري عبثا إلى كسب رضاه، أو لدى توقفه عند علاقاته العاطفية القليلة التي لم تخلُ بدورها من تمزق وضياع، على الرغم من بدايات واعدة.

REUTERS/Jihed Abidellaoui
منظر عام لشاطئ سيدي رائس في نابل، تونس، 8 يوليو 2021

هكذا نقرأ في الرواية عن علاقته بشابة تدعى إيما، أحبها في شبابه: "أريد أن أتذكر صيف 1997 باعتباره وقتا رائعا، أريد أن أقول إننا كنا عاشقيَن كما وحدهم الشبان والشابات في سن الـ 18 قادرون على ذلك، أريد أن أقول إننا كنا سعيدَين دائما، وإنني شعرتُ للمرة الأولى، بفضل إيما، بالانتماء إلى العالم، بأنني كنت متصلا بشيء خارج نفسي، وأفكاري، وكتبي، وكل هذا صحيح، لكن لم يستغرق الأمر سوى بضعة أسابيع حتى بدأتُ في البحث عن عيوب لهذه العلاقة".

بوح حميم

لكن قيمة "أخوات" لا تكمن فقط في فتنة قصتها، ووقع لغتها، وحميمية البوح المسيّر بواسطة هذه اللغة، بل أيضا في تنقلها بنا بين بلدان وقارات عدة، وفي التقاطها من كل مكان تحط فيه تفاصيل تقوله بدقة. من هنا صواب مقارنتها على يد أحد النقاد بـ"سجادة منسوجة بخيوط نابضة بالحياة من شوارع ستوكهولم الثلجية، من أسواق تونس المشمسة، ومن إيقاع نيويورك المحموم"، علما أن خميري يلجأ في تصويره هذه الأماكن إلى وصف حسي يخلق تجربة ثلاثية الأبعاد فيها.

REUTERS/Ints Kalnins
منظر عام لمدينة ستوكهولم، 17 يناير 2013

تكمن أيضا قيمة هذه الرواية في استكشافها العميق موضوعات غزيرة مختلفة، نذكر منها: تجربة بعض المهاجرين العرب المريرة في السويد، من خلال والد جوناس ووالدة الأخوات ميكولا، التونسيين، تجربة أولاد هؤلاء المهاجرين، المولودين أيضا من أم أو أب سويدي، التي لا تقل مرارة، ومن خلالهم، محنة البحث عن هوية متناغمة في ازدواجيتها، تعقيدات الروابط بين أفراد العائلة الواحدة، والتنافس في ما بينها، مفاجآت الحياة، الإخفاقات الشخصية وتداعياتها، الطابع غير المؤكد لذكرياتنا، الذي يقود إلى مساءلة طبيعة الزمن وكيفية إدراكنا له ولما نختبره أثناء مروره. الزمن الذي يدفع بنا إلى الأمام، بلا هوادة، بسرعة تتزايد مع تقدمنا في السن، وهو ما يفسر القصر التدريجي لأجزاء الرواية ودوران أحداثها على مدار عام، ثم ستة أشهر، ثم شهر، ثم يوم، فدقيقة واحدة.

 

أكثر ما يسحر في "أخوات" يبقى استكشافها الحاذق سيرورة الكتابة ومحركاتها، وقدرة الأدب، والروايات السيرذاتية تحديدا، على تحويل السديم المعقد لحياتنا إلى قصة واضحة


موضوعات مهمة وراهنة لا تؤدي مقاربة خميري لها من خلال قدر الأخوات ميكولا بشكل رئيس، إلى تعزيز واقعية هذه الشخصيات فحسب، بل أيضا إلى تعلقنا بها ومنحنا الشعور برابط خفي وحميم يجمعنا بها، تماما كما يشعر الراوي جوناس على طول الرواية.

يونس حسن خميري

لكن أكثر ما يسحر في "أخوات" يبقى استكشافها الحاذق سيرورة الكتابة ومحركاتها، وقدرة الأدب، والروايات السيرذاتية تحديدا، ليس فقط على مداواة جروحنا، بل أيضا على تحويل السديم المعقد لحياتنا إلى قصة واضحة، ببداية ومتن وربما نهاية سعيدة. وهو تحديدا ما يفعله خميري بقصة حياته، مانحا إيانا من خلال ذلك مرآة تتراءى فيها تعقيدات الإرث العائلي المختلط، كإرثه، والشجاعة والجهد الضروريين للتحرر من عبئه، دون التخلي عنه، كما تتراءى القوة التكوينية لبعض الأساطير العائلية، كأسطورة اللعنة داخل عائلة ميكولا، ووجوب تفكيكها للانعتاق من سطوتها وتحقيق الذات.

font change

مقالات ذات صلة