اليوم التالي لحرب غزة... عن جدوى بقاء "حماس" بعد "الطوفان"

خطأ فادح

نسمة محرم/المجلة
نسمة محرم/المجلة

اليوم التالي لحرب غزة... عن جدوى بقاء "حماس" بعد "الطوفان"

ما بعد عملية "طوفان الأقصى"، ليس كما قبلها، هذا ما كتبته يوم "الطوفان" هنا في مجلة "المجلة" بتاريخ (7/10/2023)، في أول مقال لي عن ذلك الحدث المهول، وفيه أكدت أننا لسنا في "الزمن الفلسطيني والعربي لتحرير فلسطين، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات"، وأن "ما يخشى منه، هو تبلور معطيات تسمح لإسرائيل بالبطش بالفلسطينيين في غزة أو في القدس، أو تسمح للمستوطنين باستباحة بعض مناطق الضفة، أو اقتلاع وتشريد فلسطينيين من هذه المنطقة أو تلك".

وأتبعت ذلك بمقال آخر بتاريخ (17/10/2023) عنوانه: "حرب غزة بين انتصار مرتجى ونكبة جديدة" جاء فيه: "نجحت (حماس) في عمليتها، لكن ثمن ذلك نكبة جديدة للشعب الفلسطيني... مقاومة الاحتلال، والظلم وإسرائيل الاستعمارية والعنصرية والدينية والعدوانية عمل إنساني، نبيل ومشروع، لكن الفلسطينيين الآن في كارثة مع أكثر من 2200 شهيد، وتشريد حوالي نصف مليون نسمة، فإذا لم تكن هذه نكبة، فما هي النكبة إذن؟"

الاستثمار الإسرائيلي في "الطوفان"

كانت تلك المقدمة ضرورية، للفت الانتباه إلى أن ثمة رأيا فلسطينيا آخر، يعتقد أن تلك العملية القوية، والمهولة، والمفاجئة، التي وجهت ضربة أمنية واستخباراتية ومعنوية، لم يسبق لإسرائيل أن تعرضت لمثلها منذ قيامها، أتت في ظرف دولي وإقليمي وفلسطيني وإسرائيلي غير مناسب ألبتة، وأنها أتت وفق حسابات غير مدروسة، ووفق رؤى قدرية وعاطفية متسرعة، وعلى أساس إدراكات من نوع أن إسرائيل "أوهن من خيوط العنكبوت"، وأنها آيلة إلى الانهيار، وأن "الملائكة ستقاتل معنا- بحسب خطاب محمد الضيف يوم الهجوم- مع المراهنة على أن أطراف محور "الممانعة والمقاومة" ستترجم عمليا شعار "وحدة الساحات"، وتشارك في المعركة، وكلها أمور تبينت، كما شهدنا، عن مجرد أوهام.

وبينما يؤكد هذا الرأي، أيضا، على مشروعية المقاومة ضد الاحتلال والظلم، إلا أنه ينظر إلى المقاومة كفعل شعبي إنساني، لا مجرد فعل لفصائل، وأن الكفاح المسلح أحد أشكال المقاومة، التي يجب أن تخضع لاستراتيجية سياسية واضحة وممكنة ومستدامة، وأن المعيار هو قدرة المقاومة على استنزاف عدوها، أي إسرائيل، وليس العكس، وتجنيب شعبها المخاطر، وعدم تحميله فوق ما يحتمل، وتجنّب زجّه في مواجهة خاسرة مع الآلة العسكرية العاتية للعدو، ما أمكن ذلك، والحذر من الاستدراج للوقوع في فخ الحرب، كجيش لجيش، وصاروخ لصاروخ؛ وهو ما مثلته عملية "الطوفان".

خلال العامين الماضيين، استغلت إسرائيل تلك العملية، المفاجئة، وغير المسبوقة، والقوية، واشتغلت على استثمارها، في قلب واقع المشرق العربي

وكما شهدنا، خلال العامين الماضيين، فإن إسرائيل استغلت تلك العملية، المفاجئة، وغير المسبوقة، والقوية، واشتغلت على استثمارها، في قلب واقع المشرق العربي، وفيما كانت عملية "طوفان الأقصى" بمثابة ذروة الخيار العسكري الفصائلي، أو الميليشياوي، مع إسناد "حزب الله" لـ"حماس" في غزة، والقصف الصاروخي ضد إسرائيل من "الحوثيين" في اليمن، ومن "الحشد الشعبي" في العراق، مع امتشاق شعار "وحدة الساحات"، فإنها كانت، أيضا، بمثابة ذروة إخفاق هذا الخيار، بطريقة مريعة وفاضحة وسريعة، إذ استطاعت إسرائيل، في ثلاثة أشهر (17/9- 17/12/2024)، تقويض قوة "حزب الله"، وتدمير قدرات الجيش السوري، بعد انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، وتحجيم نفوذ إيران في المشرق العربي، بعد تدميرها غزة، وتشديد قبضتها على الفلسطينيين من النهر إلى البحر، بحيث وضعت نهاية لكل "محور المقاومة والممانعة"، الأمر الذي تم بعد شن الحرب ضد إيران في يونيو/حزيران 2025، بمشاركة عسكرية من الولايات المتحدة.

نسمة محرم/المجلة

وفي المحصلة فإن كل تلك التطورات، والتحولات، فتحت المجال لإسرائيل، للتعبير جهارا عن سعيها للتحول من فكرة "إسرائيل الصغرى" إلى فكرة "إسرائيل الكبرى"، بواقع هيمنتها العسكرية مباشرة، أو بشكل غير مباشر، على المشرق العربي، مع سعيها فرض حرية حركة ذراعها الطويلة، الجوية والصاروخية، من لبنان إلى إيران، مرورا بسوريا والعراق.

انكشاف الواقع الفلسطيني

في المحصلة فقد أثرت حرب الإبادة الإسرائيلية، بشكل كبير وعميق وشامل على الحركة الوطنية الفلسطينية، وعلى كيانها السياسي المتمثل بالسلطة الوطنية، في الضفة والقطاع، وعلى مشروع الدولة المستقلة، بل وعلى وجود الشعب الفلسطيني بين النهر والبحر. فقد نجم عن تلك الحرب، تدمير القدرات العسكرية لحركة "حماس"، وتقويض مكانتها كسلطة، لكنها أدت، أيضا، إلى محو قطاع غزة تقريبا، من الناحية الجغرافية والعمرانية، وتشريد مليوني فلسطيني من بيوتهم في غزة، مع حرمانهم من مقومات الحياة الأساسية، الماء والكهرباء والغذاء والمأوى والدواء، وجعلهم مجرد أهداف، أو حقل رماية للصواريخ والقنابل الإسرائيلية، من البر والبحر والجو، ما جعل غزة بمثابة أكبر مقبرة، وأكبر خرابة، وأكبر سجن، وأكبر حقل رماية في العالم.

وقد بدا واضحا، أن إسرائيل، المتوحشة، في انتهاجها هذا النمط من الحرب، إنما تتوخى إخراج قطاع غزة من المعادلات السياسية نهائيا، وفصله عن الضفة الغربية، وإعادة احتلاله، أو فرض هيمنتها عليه، بطريقة غير مباشرة، وضمن ذلك فرض خلق واقع سياسي وإداري جديد فيها، تحت شعار لا "حماسستان"، ولا "فتحستان"، وصولا إلى التعاطي معه كمنطقة عقارية، فقط، يمكن إعدادها كـ"ريفييرا"، بدعم واضح من الإدارة الأميركية.

لم تقاتل الملائكة كما كانت تعتقد "حماس" بعد هجومها، وخرجت غزة من المعادلات السياسية نهائيا، ومحت إسرائيل القطاع جغرافياً وعمرانياً

وما يفترض إدراكه، إن تركيز إسرائيل على قطاع غزة، بحجة "الطوفان" يسري، بطرق مختلفة، في الضفة- بما فيها القدس أيضا- إذ باتت إسرائيل تصرح بسعيها إعادة احتلالها، وفرض سيادتها عليها، أو على 80 في المئة منها، التي تشمل المناطق (ب) و(ج) ما يحصر الفلسطينيين في معازل متفرقة، أي في المناطق (أ)، بحسب الاتفاقات الملحقة باتفاق أوسلو.

القصد من ذلك، أن حكومة نتنياهو تسعى لتقويض اتفاق أوسلو نهائيا، وإنهاء فكرة الكيان الفلسطيني، أو إبقائه عند حدود الحكم الذاتي، في أصغر منطقة ممكنة، ومن دون سيادة على الأرض والجو والمعابر، وهو الأمر الذي تتساوق معه الإدارة الأميركية، بمواقف وإجراءات شتى، وضمنها الامتناع عن إعطاء تأشيرات دخول للرئيس الفلسطيني، لدخول الولايات المتحدة للمشاركة في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2025، وممانعتها الاتجاه الدولي لإضفاء شرعية على إقامة دولة فلسطينية، إذ وصل بها الأمر حد طرح الرئيس ترمب، خطة لنقل سكان غزة، خارجها، أو تبني إقامة مناطق "إنسانية"، لنقل سكان غزة إليها، هي أشبه بمعتقلات، في سياق طرح خطة "ريفييرا" غزة.

ويمكن ملاحظة تجلي مظاهر الهيمنة الإسرائيلية في الضفة، في تعزيز مكانة الحاكم العسكري، الذي يتبع الوزير بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية والوزير في وزارة الدفاع كمسؤول عن الإدارة المدنية في الضفة)، وإنشاء ميليشيا مسلحة للمستوطنين، وتعزيز الاستيطان في أرجاء الضفة، وخاصة في القدس، ما يعزز الفصل بين القدس، وبين شمالي الضفة من جهة، وجنوبي الضفة من جهة أخرى، أيضا يشمل ذلك قيام إسرائيل بمحاولة محو مخيمات الضفة، لاسيما مخيم جنين، ومخيمي نور شمس، وطولكرم، قرب مدينة طولكرم.

في قصور إدراكات "حماس"

من كل ما تقدم يمكننا ملاحظة أن عملية "طوفان الأقصى" أفضت إلى كارثة، أي إنها بدل أن تستنزف إسرائيل، أو تضعفها، وهذا هو معيار المقاومة الناجحة، إذا بها تؤدي إلى عكس ذلك، حيث استثمرتها إسرائيل للبطش بالفلسطينيين، وتغيير المعادلات السياسية في المنطقة بمجملها، عدا عن الأثمان الفادحة، البشرية والاقتصادية والسياسية، التي نجمت عنها. وبشكل أكثر تفصيلا، فإن تلك الحرب بيّنت أن "حماس"، ورغم استعدادها الجدي لمعركة كهذه، طويلة وقاسية ومدمرة، ونجاحها في مباغتتها إسرائيل، وتكبيدها خسائر فادحة، غير مسبوقة في تاريخها، لم تحسب جيداً لجهة تهيئة مجتمعها لردود الفعل الإسرائيلية، ولا لجهة تحديد العنوان السياسي المناسب لتلك المعركة، كما أنها لم تحفظ خطا للرجعة، أو لسيناريوهات بديلة.

هكذا، فإن خطاب محمد الضيف، القائد العسكري لـ"كتائب القسام"، في أول يوم للمعركة (7/10/2023)، أشاع بأن المعركة الدائرة هي لتحرير فلسطين، وأشفعها بمطالبته كل الفلسطينيين، في 48، والقدس الشرقية، والضفة، بالانخراط فيها، ناهيك بمطالبته الأمتين العربية والإسلامية بدعم ذلك، ما يذكّر بخطابات بعض قياديي الحركة، عن زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل، والتهديد بالمنازلة الكبرى، و بـ"وعد الآخرة"، بالقضاء على إسرائيل في ظرف أيام، دون أن ينسى الاستناد إلى تدخل "الملائكة".

المسألة هنا لا تتعلق بمشروعية هذا الطرح، أو منطقيته، بل تتعلق بمدى ملاءمته للإمكانات، وموازين القوى وللواقع وللمعطيات العربية والدولية، وكلها مختلة كثيرا لصالح إسرائيل، ما يدفع إلى التساؤل عن طبيعة إدراكات قيادة "حماس"، وصوابية خياراتها. عدا ما تقدم فإن المسألة التي غابت، أو لم تكن واضحة، في ذهن قيادات "حماس" تكمن في الافتقاد لاستراتيجية كفاحية واضحة، وممكنة، ومستدامة، في مقاومة إسرائيل، علما بأن ذلك الأمر تتحمل مسؤوليته الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها، أيضاً، رغم تجربة طويلة وغنية عمرها 60 عاماً.

أيضا، يمكن في هذا المجال انتقاد استناد قيادة "حماس" لفكرة "وحدة الساحات"، وهو الأمر الذي انكشف عن مجرد وهم، إذ إن إسناد باقي الأطراف لـ"حماس"، كان دون المستوى، أو لا يتناسب لا مع مستوى الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، إذ معظم صواريخ "حزب الله" بقيت في مواقعها، أما الصواريخ التي أطلقها، هذا "الحزب" أو غيره، وحتى من إيران، فهي لم تؤثر كثيرا لا على إسرائيل، ولا على شدة حربها ضد الفلسطينيين.

ظلّت قيادات "حماس" تؤكد يومياً أن المقاومة بخير، أو أنها تنتصر طالما لم تنهزم، في حين كان كل سكان غزة في العراء، من دون ماء أو غذاء أو دواء أو كهرباء، مع دمار معظم البيوت كليا وجزئيا

في السياق ذاته، فقد ظلّت قيادات "حماس" تؤكد يوميا أن المقاومة بخير، أو أنها تنتصر طالما لم تنهزم، في حين كان كل سكان غزة في العراء، من دون ماء أو غذاء أو دواء أو كهرباء، مع دمار معظم البيوت كليا وجزئيا، ومع خراب بناها التحتية، علما أن لا شيء يعيب "حماس" أن تتحدث عن الواقع كما هو، بسلبياته وإيجابياته، بنقاط قوته وضعفه، إذ لا أحد يحمّلها مسؤولية هزيمة الجيش الإسرائيلي، وحدها وفي هذه الظروف.

أيضا، يلفت الانتباه تشديد "حماس"، وغيرها، على أزمات إسرائيل، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتخبطها عسكريا، وضغط عائلات المحتجزين على حكومة العدو، لوقف الحرب، وهذا صحيح، لكنها لم تراجع نفسها بعد أن تبين خطل تلك المراهنات، إذ لا ضغط الشارع، ولا الضغط من ضباط في الجيش، ولا ضغط المعارضة السياسية، وصل إلى الدرجة المناسبة التي تجعل حكومة نتنياهو توقف حرب الإبادة، حتى ولو في سبيل هدنة مؤقتة تفضي إلى الإفراج عما تبقى من رهائن أو أسري إسرائيليين لدى "حماس".

الأنكى أنه وفي مناخات تلك الحرب المدمرة والفظيعة والمريرة روجت "حماس" لكثير من المقولات من مثل إن "إسرائيل لم تحقق أهدافها"، و"ليس لدى الفلسطينيين ما يخسرونه"، و"خسائرنا تكتيكية وخسائرهم استراتيجية"، وأن "إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع للاعتداء على الفلسطينيين والبطش بهم"، وكلها لرفع المعنويات، وتأكيد مبدئية التشبّث بالمقاومة، بيد أنها في الأكثر تتوخى حجب مسؤولية قيادة "حماس" عما حصل، وعن انتهاج خيار بعينه، بدعوى أن القضية تحتاج إلى تضحيات.

وفي الواقع، فإن كل تلك المقولات خاطئة، إذ تنأى عن رؤية الواقع على حقيقته، علما أن نتنياهو هو مخترع المقولة الأولى لتبرير استمرار الحرب، إذ إن هدفه الحقيقي، كما تبيّن من السياسة التي انتهجتها قواته على الأرض، ترويع الفلسطينيين، من النهر إلى البحر، بمثال غزة، وتكريس الهيمنة عليهم، ووأد حلمهم في دولة، والتخفّف ما أمكن من الثقل الديموغرافي، الذي يمثله الفلسطينيون فيها. أي إن هدف الحرب شطب الشعب الفلسطيني من الخريطة السياسية، بإعادتهم إلى زمن النكبة (1948)، في نكبة جديدة، ربما أكثر هولا من الأولى.

أما باقي المقولات فتروج لوعي سياسي ساذج، وموالٍ، يطلب من الشعب التضحية لأجل التضحية، كأنها قيمة لذاتها، دون مساءلة القيادات عن خياراتهم السياسية والكفاحية، كأن المقاومة مطلوبة لذاتها، بمعزل عن العوائد السلبية، أو العكسية، التي قد تتأتى منها. أيضا، بالتأكيد فإن إسرائيل لا تحتاج إلى ذرائع للاستعمار والاستيطان والقتل والاعتقال وتدمير البيوت، بيد أنها تحتاج إلى فرصة سانحة ومناسبة، لشنّ حرب إبادة لإنفاذ سياساتها، وللتخلص ما أمكن من الفلسطينيين باعتبارهم عندها بمثابة خطر يتهددها دائما، وهو ما توفر في "طوفان الأقصى"، الذي استمر يوما واحدا، في حين شنّت إسرائيل حرب إبادة غير مسبوقة دخلت الآن في نهاية عامها الثاني.

من ذلك يمكن الاستنتاج أن "حماس"، أخطأت في تقدير قوتها، وفي مراهنتها على مدد "الملائكة"، و"وحدة الساحات"، وندائها للعالمين العربي والإسلامي، وبهجمتها كجيش مقابل جيش، وفي عدم تقديرها للدعم الذي تحظى به إسرائيل من الولايات المتحدة، والغرب عموما، إلى درجة دعمها في حرب إقليمية.

أيضا، هي أخطأت بعدم تقديرها قوة إسرائيل ومجتمعها، الذي وضعته إزاء حرب وجودية، إذ تبين أنها مستعدة لخوض حرب طويلة، وتحمل خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وحتى خوض حرب إقليمية، إذ إن التصدع الداخلي فيها لا صلة له تماما بالصراع ضد الفلسطينيين؛ بخلاف ما يصوره البعض ممن راهن على أزمات إسرائيل الداخلية.

محصلة "الطوفان"

الآن، وبعد عامين، وبعد التوصل إلى حل، أو صفقة، يمكن إيجاز محصلة "الطوفان"، الذي استغلته إسرائيل، كفرصة سانحة لها، في الآتي:

استطاعت إسرائيل إنهاء سلطة حركة "حماس" في غزة، وتقويض قدراتها، بجناحيها السياسي والعسكري، وهذا يشمل كل البنى العسكرية في قطاع غزة، وحتى في الضفة الغربية، بل إن الوضع وصل إلى حد قيام إسرائيل باستهداف قيادة حركة "حماس" في الدوحة (9/9/2025)، وهو تطور كبير، وهو يعني أن إسرائيل باتت تفرض "فيتو" على وجود تلك القيادة في أي مكان، وحتى في قطر، التي يفترض أن لها مكانة متميزة عند الإدارة الأميركية، وحتى عند إسرائيل بما يتعلق بالملف الفلسطيني. وكما شهدنا فإن هذه الحقيقة تجسدت في مضامين خطة ترمب، لوقف الحرب، والتي لقيت إجماعا من الأطراف العربية والإسلامية، التي التقت الرئيس الأميركي، على هامش اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والتي حتمت على قيادة "حماس" الموافقة عليها، وهي ذات الخطة التي يجري التفاوض على كيفية تنفيذها في اجتماعات "شرم الشيخ" وأفضت إلى تنفيذ الاتفاق في مرحلته الأولى.

بات قطاع غزة منطقة منكوبة، مع حوالي مليونين من الفلسطينيين، الذين يفتقدون كل مقومات الحياة، بما في ذلك المأوى، والذين يعتمدون في العيش على المساعدات الخارجية، بخاصة بعد تدمير عمرانه، وبناه التحتية، وجعله بمثابة خرابة غير صالحة للعيش، إلا بتوافقات دولية وإقليمية.

من المبكر التكهن بالشكل الذي سيتموضع عليه قطاع غزة في اليوم التالي للحرب، مع فصله عن الكيان الفلسطيني (مع الضفة)، على الأقل مرحليا، إذ ثمة عدة خيارات لإدارته، عبر إدارة دولية، أو إدارة مختلطة، عربية ودولية، مع أو من دون بعد فلسطيني؛ وهذا الأمر، أيضا، تضمن في خطة الرئيس ترمب.

على الصعيد الفلسطيني العام، ثمة تناقض في المشهد السياسي، بين توجه كثير من الدول الغربية للاعتراف بمشروعية إقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، وبين اضمحلال هذه الدولة على الأرض في الواقع وفي الجغرافيا، بسبب الوقائع التي كرستها إسرائيل في الضفة، لجهة تعزيز الاستيطان، ومحاصرة المدن الفلسطينية بالمستوطنات، والجدران العازلة، والطرق الالتفافية، وميليشيات المستوطنين المسلحين، وبسبب التضييق على السلطة الفلسطينية، من كل النواحي، وضمن ذلك حرمانها من الموارد المالية اللازمة. وهذا لا يعني أن فكرة الدولة الفلسطينية ستنتهي، فربما ستبقى على رأس جدول الأعمال، لكن ترجماتها في المدى المنظور، ستتراوح بين كيان في جزء من الضفة، يفتقد لسيادة حقيقية، ونوع من الحكم الذاتي، تحت الهيمنة الإسرائيلية.

على الأرجح فإن عملية "طوفان الأقصى"، التي بادرت إليها "حماس"، شكلت نهاية حقبة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة

على الأرجح فإن عملية "طوفان الأقصى"، التي بادرت إليها "حماس"، شكلت نهاية حقبة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، التي بدأت مع عملية "نفق عيلبون" التي بادرت إليها "فتح" في مطلع عام 1965، والتي شكّلت بداية انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني، أي إن ذروة الكفاح المسلح الفلسطيني ضد إسرائيل، والذي تمثل بعملية "الطوفان"، هو ذاته شكل ذروة انهيار الكفاح المسلح، الذي طبع الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعه، طوال الستين عاما الماضية، وهي نهاية تراجيدية بامتياز، لشكل كفاحي اعتورته كثير من الإشكاليات، والنواقص، مع مسيرة غنية ومريرة، وطويلة من المعاناة والتضحيات والبطولات.

AFP
متظاهرون في لندن رافعين لافتة مكتوب عليها: "إنهاء الفصل العنصري الإسرائيلي"، في 3 أغسطس 2024

في هذا السياق يمكن ملاحظة أن "حماس" لم تستطع تحقيق أي من الأهداف التي انطلقت من أجلها عملية الطوفان، بالنسبة لإضعاف إسرائيل، ودحر احتلالها للضفة، ورفع الحصار عن غزة، ووقف انتهاكات إسرائيل في القدس، وتبييض السجون، ومع التأكيد بأن "حماس" لا يمكن تحميلها كل ذلك، فإن وجود هذه الحركة هو الذي بات على المحكّ.

أيضا، إذا كانت حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 مثلت نهاية الخيار العسكري في الصراع العربي الإسرائيلي ببعده الدولتي، فإن عملية "طوفان الأقصى"، والتداعيات التي نجمت عنها، بخاصة تقويض قدرات "حزب الله" في لبنان، شكلت نهاية الخيار العسكري في الصراع اللادولتي، أو الميليشياوي، ضد إسرائيل، فلسطينيا وعربيا، إذ باتت إسرائيل قوة عسكرية مهيمنة على الفلسطينيين بين النهر والبحر، وفي محيطها، أيضا، مع محاولتها فرض مناطق عازلة في عمق سوريا ولبنان، مع ذراع طويلة ضاربة تصل إلى إيران وحتى إلى قطر.

أصبحت إسرائيل رغم جبروتها أو تفوقها العسكري والتكنولوجي والإداري والاقتصادي، أكثر عزلة في العالم، بطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وأيضا، كدولة إبادة جماعية

تبقى ملاحظة أساسية تتعلق بإسرائيل، فهذه رغم جبروتها، أو تفوقها، العسكري، والتكنولوجي، والإداري، والاقتصادي، باتت أكثر اعتمادية على الولايات المتحدة الأميركية، وأكثر انكشافا، وعزلة في العالم، بطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، وأيضا كدولة إبادة جماعية. بيد أن هذه الحرب، على الصعيد الداخلي، عززت من تغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية وعنصرية، على حساب طابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية وعلمانية، ما يعزز التصدعات الداخلية فيها، بين الغربيين والشرقيين، والعلمانيين والمتدينين، والمعتدلين والمتطرفين، وكل هذه التحولات تجعل منها مجرد "غيتو"، على شكل قلعة، في المنطقة، الأمر الذي يتناقض مع كل المساعي للسلام أو للتطبيع معها.

من كل تلك الأوجه، فإن إسرائيل ما بعد "طوفان الأقصى"، وتداعياته، باتت في حالة جديدة، أو كإسرائيل جديدة، في شكل علاقتها الصراعية مع الفلسطينيين، وفي شكل تموضعها في المنطقة، وأيضا في رؤيتها لذاتها، في الإقليم والعالم، في محاولتها التحول من "إسرائيل الصغرى" إلى "إسرائيل الكبرى"، بحسب ما ذكر بنيامين نتنياهو، مؤخرا، عن الحلم الذي عاش من أجله، وأيضا، لجهة مصير تحولها، من دولة ديمقراطية ليبرالية إلى دولة يهودية دينية، وأيضا من اعتبارها ذاتها كملاذ ليهود العالم إلى كونها عبئا على اليهود في العالم، وعلى المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، سياسيا وأمنيا وماليا وأخلاقيا.

هكذا، ما بعد "الطوفان"، وحرب الإبادة الإسرائيلية، ليس كما قبلهما، بالنسبة لمختلف الأطراف، لإسرائيل، وللشعب الفلسطيني، وللحركة الوطنية الفلسطينية، بما فيها السلطة في الضفة وغزة، وحتى بالنسبة للمشرق العربي، وصولا لإيران أيضا.

font change

مقالات ذات صلة