شايع الوقيان لـ"المجلة": هناك قطيعة بين الفلاسفة العرب

دور الفيلسوف لا يقتصر على شرح الأفكار الآتية من الخارج

الكاتب السعودي شايع الوقيان

شايع الوقيان لـ"المجلة": هناك قطيعة بين الفلاسفة العرب

يعدّ الكاتب السعودي شايع الوقيان واحدا من أبرز المشتغلين في حقل الفلسفة في العالم العربي، يقدم برنامج "الفيلسوف" على قناة "الثقافية" السعودية، وهو أحد مؤسسي "حلقة الرياض الفلسفية" و"الجمعية السعودية للفلسفة"، ومن كتبه "الفلسفة بين الفن والأيديولوجيا"، "مفاهيم ونظريات" و"الوجود والأخلاق ما قبل الخير والشر". هنا حوار "المجلة" معه.

لماذا صفة الفيلسوف، لا تزال تثير الجدال والنقاش في العالم العربي، أخذا في الحسبان دور العرب التاريخي في هذا الحقل، بداية من ترجمة الفلسفة اليونانية؟

هناك اعتقاد قديم بأن الفلسفة علم عصي على معظم الناس، وبأنه خاص بالنخبة أو حتى بنخبة النخبة. وهذا الاعتقاد أعطى الفلسفة مكانة مقدسة، ومن الغرائب أن خصومها يعطونها مكانة منحطة، فكأنها إما علم مقدس أو علم مدنس. والحقيقة أنها كغيرها من أنماط المعرفة الإنسانية، ولا يميزها إلا درجة التجريد التي تنتهي إليها، واللغة الصارمة التي تعبر بها عن قضاياها.

ما يثير الجدال عربيا في ما يتعلق بالفلسفة له شقان: شق يتعلق بأن الفلسفة علم بعيد المنال كما أسلفنا، ومن ثم فليس لنا القدرة على التفلسف إلا في نطاق ضيق، وشق يتعلق بماهية الموضوعات التي تتناولها الفلسفة، وهي موضوعات تمس جذور الفكر والاعتقاد، وبالتالي تحوم حول مواطن الخطر. لذا فلا ريب أن يشك الكثيرون في الفيلسوف أو المتعاطي مع الفلسفة من ناحية إيمانه. فالفيلسوف يبدأ بالشك المنهجي في كل ما يتلقاه، وهذا الشك يفتح الباب للإنكار في بعض الحالات.

بخصوص الموقف الأول، وهو الإفراط في تقدير مفهوم الفيلسوف، فهو أيضا لا يقل عن الموقف الثاني (الارتياب في الفيلسوف) من ناحية صدوره عن تصور خاطئ. ولو سألنا الناس: هل هناك فيلسوف عربي معاصر؟ فسيردون بصوت واحد: لا. ربما أن هذا الجواب نابع من شعور مضمر باحتقار الذات إزاء تمجيد الآخر. بل إن هناك من المشتغلين في الفلسفة من يرى هذا الرأي، وينفي القدرة على التفلسف عن الإنسان العربي. وهذا الازدراء ينعكس سلبا للأسف على النشاط الفلسفي العربي، حيث يكف الفلاسفة عن التفلسف ويضطرون فقط إلى شرح وتفسير وتحليل النظريات الفلسفية الآتية من الخارج.

التفلسف عربيا

كيف تقيم إذن واقع التفلسف في العالم العربي، وما المقومات في رأيك التي يمكن العمل عليها للنهوض به؟

من ناحية فردية، هناك فلاسفة جديرون بالاعتبار، وهناك أنشطة مستمرة. لكن الواقع الفلسفي يعاني من أزمات عدة. فهناك تقصير في الدعم المادي والمعنوي للنشاط الفلسفي. فالجامعات مثلا ليست على صلة عميقة بهذا النشاط، ولا يكفي أن تعقد الجامعة المؤتمرات والدورات، بل يجب أن يصبح النشاط الفلسفي جزءا من منهجها التعليمي، بحيث لا ينحصر المنهج على الفلسفات القديمة وفلسفات الغرب المعاصرة، بل يجب أن يمتد ليشمل الفلاسفة العرب. فالاحتفاء بإنتاجهم سوف يساهم بشكل كبير في الارتقاء بالتفلسف.

هناك من المشتغلين في الفلسفة من ينفي القدرة على التفلسف عن الإنسان العربي، وهذا الازدراء ينعكس سلبا على النشاط الفلسفي العربي


هناك مشكلة القطيعة بين الفلاسفة العرب. وإذا حدث بينهم تواصل فإنه يكون سطحيا يقع على هامش اللقاءات والمؤتمرات التي لا تثري الحراك الفلسفي كثيرا. والتواصل الحقيقي ينبغي أن ينهض على تلاقح عميق بين أفكارهم. لكن ما يحدث فعليا هو أن ثمة تسابقا محموما بينهم على استجلاب النظريات من الخارج، كما أشرنا الى ذلك أعلاه. وهذه مشكلة عامة. فلو كان هناك احتفاء بما ننتج، لما كان التهافت على الفكر الخارجي بمثل هذه القوة. ولا يعني قولي إني ضد التواصل مع الخارج، ولكن ليكن التواصل تثاقفا وحوارا، وليس علاقة تابع بمتبوع.

غلاف كتاب "الوجود والأخلاق ما قبل الخير والشر"

برنامج "الفيلسوف"، ما المراد منه؟

برنامج "الفيلسوف" كان فكرة نشأت في ذهن مدير القناة "الثقافية"، الأستاذ مالك الروقي. وقد تطورت هذه الفكرة حتى أصبحت واقعا. والغاية منه نشر الوعي الفلسفي. ويتم إما عبر تقديم أبرز الأفكار الفلسفية للمتلقي، وخاصة غير المتخصص أو في طرح مشكلات فلسفية عميقة للمتلقي المتخصص. لذا كان البرنامج عبارة عن مجلة فلسفية متنوعة. ففيه فقرات مبسطة، وأخرى معمقة، وفيه قراءات في كتب، ولقاءات مع ضيوف متخصصين، وهكذا.

البحث عن الحقيقة

الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة، ما هي الحقيقة بالنسبة إليك؟

هذا السؤال يقودنا مباشرة إلى مشكلة فلسفية قديمة. الفلاسفة يبحثون عن الحقيقة. لكن كيف يبحثون عنها إذا لم يكونوا يعرفونها مسبقا؟ البحث عن الحقيقة إذن يضمر معرفة بالحقيقة. فلماذا هذا السعي؟ الفكرة ببساطة كالتالي: كل فيلسوف لديه تصور معين عن الحقيقة (الحقيقة "س")، ويحاول عبر التفلسف أن يقنع نفسه أولا أن ما وصل إليه هو صحيح، فإذا تيقن من ذلك يبحث عما إذا كان ما وصل إليه موضوعيا (أي يقبله الآخرون). هنا يتطور البحث ليكون تسويغا أو تبريرا. فلكي يقبل الآخرون بالحقيقة التي وصلت إليها لا بد أن أبرهن عليها. من هنا فالبرهنة التي تميز النص الفلسفي، ليست بحثا عن الحقيقة وإنما محاولة لإقناع الآخرين بها.

غلاف كتاب "الوجود والوعي: استئناف الفينومينولوجيا"

هذا الكلام سيرفضه الفلاسفة التقليديون الذين يقدمون تعريفات للحقيقة تكون دليلا يهدينا في مسارب الحياة المعقدة والمظلمة أحيانا. لكني أقول إن البحث عن الحقيقة مجرد وهم فلسفي، فنحن لا يمكن أن نبدأ التفلسف إلا والحقيقة ظاهرة لنا، فالحقيقة هي المنطلق وليست الغاية. وبالتالي ظهرت الحاجة إلى الفلسفة النقدية (بداية مع كانط). وهي تنظر في ما لدينا من حقائق، ثم تسأل: كيف للحقيقة أن تكون "ممكنة". لكن هذا لا يعني أن التفلسف عمل اعتباطي وذاتي. فتسويغ الحقائق يقتضي البحث عن الأسس الموضوعية التي تجعل قبولها من الآخرين أمرا محتملا. حتى في العلوم الطبيعية، الحقيقة هي المنطلق، وتبريرها هو جوهر النشاط العلمي. حتى الذهاب إلى المختبر وإجراء التجارب يبدأ بفرضيات هي في الأصل حقائق غير مبرهن عليها.

ناقشت جزئية أن تكون المشاعر جزءا من نسيج المعنى الذي يضفيه الإنسان على العالم، لنخض في جزئية "إنسان عقلاني وإنسان عاطفي" من وجهة نظرك...

ليس هناك شعور أو عاطفة بلا تفكير. وليست هناك فكرة من دون شعور يصاحبها. لدي اعتقاد شخصي (ولا أدري عن صحته علميا) وهو أن المشاعر تكمن في العقل وليس في القلب كما قد يتصور البعض. والمشاعر هي أفكار غامضة تتصل اتصالا وثيقا بحياتنا، ولها أثر عضوي واضح: ضربات القلب، التعرق، احمرار الوجه، انبساط الأسارير... إلخ.

البحث عن الحقيقة مجرد وهم فلسفي، فنحن لا يمكن أن نبدأ التفلسف إلا والحقيقة ظاهرة لنا، فالحقيقة هي المنطلق وليست الغاية


 هذه الأفكار الغامضة متصلة بحياتنا لأنها بدورها متصلة بالإرادة. فلنأخذ شعور الحزن. إنه مرتبط بفكرة أو بقضية خبرية: موت شخص عزيز عليّ، كنت "أريده" أن يظل حيا. فينتج من إدراكي لتلك القضية فراغ ناجم عن إحباط الإرادة (لم يتحقق ما أريد). هذا الفراغ يتحول إلى دوامة هائلة تجعل كل أفكاري ومشاعري تحوم عليها كأنها ثقب أسود، وتمتص الحياة مني وتخلو كل أنشطتي من الروح المبتهجة. هذا هو الحزن. أما أن الأفكار تصاحبها المشاعر فهذا واضح أيضا. حتى الأفكار المجردة قد لا تخلو من مشاعر. فالقضية الحسابية البسيطة تجعلني أشعر بالبهجة إذا كانت صحيحة. وأنا كثيرا ما أصاب بالإحباط إذا قرأت كتابا ولم أقتنع بما فيه، أو لم أفهم مراد صاحبه.

التفكير في "الأنا"

تناقش في كتابك "الهوية الشخصية - الأصول الفلسفية والآثار التربوية" 2024، الخطاب الفلسفي التربوي الحديث في الثقافة الغربية وكيفية نشوء مفهوم الهوية الشخصية وتطورها، ماذا عن الخوض في هذا الجانب؟

التفكير في "الأنا" كان المبحث الذي افتتح به ديكارت الفلسفة الحديثة. والأنا هنا هي منطلق معرفي، وليست كينونة أنطولوجية. ويعتبر مبدأ الكوجيتو أول صوغ منطقي دقيق للأنا كأساس معرفي. ولقد تأثر كثير من الفلاسفة بعمق بالأطروحة الديكارتية. فكل قضية معرفية يجب أن تنشئها الذات العارفة (الأنا) لأنها تتمتع بيقين لا نجده في حقل التجربة الحسية. وظلت الأنا مسيطرة على البحث الفلسفي، أو في شق كبير منه، حتى ظهرت فلسفات الآخرية.

الأنا الديكارتية تحولت مع المثالية الألمانية لتكون وجودا مطلقا. فالذات العارفة لا تكتفي بمعرفة الموضوعات الخارجية بل إننا نصطنعها اصطناعا عبر فرض شبكة هائلة من المفاهيم والمقولات العقلية عليها. وهذه الأنا، حسب النقاد المعاصرين، كانت مسؤولة عن ظهور النزعات المتمركزة على الذات (الأوروبية) والتي همشت الآخر (غير الأوروبي) واعتبرته مجرد اشتقاق عن أصل. ولذا رأت فلسفات الآخرية والاختلاف أن الانطلاقة الصحيحة للتفلسف ينبغي أن تكون من مفهوم "الآخر". ولم تبدأ هذه الفلسفات من الآخر الحضاري بل من الآخر كمفهوم فلسفي: منطقي وميتافيزيقي. على سبيل المثل، نجد أن مفهوم الآخر ضروري جدا في تأسيس مفاهيم موضوعية مثل: البينذاتية (intersubjectivity)، والحوار، والإجماع، والتواصل. كما أنه ضروري لتجاوز إشكالية كبيرة ظهرت مع ديكارت وهي الأنا-وحدية (solipsism)، وهي ذلك المذهب الذي يرى أننا لا يمكن أن نتيقن إلا من أفكارنا الخاصة فقط، حتى لكأننا محبوسون في ذواتنا.

الهوية الشخصية كموضوع فلسفي ونفسي ظل يراوح بين قطبي الأنا والآخر. فعندما ظهر البحث فيها مع جون لوك وهيوم ولاينتز وغيرهم، كان قطب الأنا هو المسيطر، حتى ظهرت فلسفات ما بعد الحداثة وأحالت التركيز على مفهوم الآخرية.

غلاف كتاب "مفاهيم ونظريات: قاموس فلسفي"

جهود فلسفية

أنت من مؤسسي "حلقة الرياض الفلسفية"، في 2008، وأيضا "الجمعية السعودية للفلسفة"، أين وصلتا اليوم، وما الذي حققتاه خلال الفترة الماضية في مساحة التفلسف السعودية؟

منذ تأسيس جمعية الفلسفة وأنشطتها لم تتوقف. ولا يكاد يخلو أسبوع إلا وللجمعية نشاط أو اثنين، على مدى العام. بعضها محاضرات، وبعضها الآخر ندوات، والثالث ورش عمل، وهكذا. علاوة على الإنتاج الدوري الذي يتجسد في مجلة "مقابسات"، وفي المؤلفات والترجمات التي تصدر عن "دار فلسفة" التابعة للجمعية.

لو لم يكن للفلسفة من ميزة سوى طرح الأسئلة العميقة باستمرار على العلوم وعلى المجتمعات لكان هذا كافيا لاستنباتها في تربة الثقافة العامة


أعتقد أن الجمعية صارت "فضاء منطقيا" إذا استعرنا عبارة فتغنشتاين. فضاء يسمح بممارسة التفلسف على وجهه الصحيح. وهذا الفضاء، رغم أنه متجذر في تربة الثقافة السعودية، إلا أن امتداداته هي في الحقل الفلسفي العربي بعامة. ولا تزال الجمعية فاعلة، ونشطة، والجهود لا تزال قائمة.

لماذا يجب أن نركز في الوقت الحالي على الفلسفة، ما دورها في بناء الإنسان أو في العلوم عموما؟

الفلسفة كبقية العلوم وأنماط المعرفة، لها مساهماتها في تطوير الوعي البشري. لكن يجب ألا نعطي الفلسفة قيمة ليست لها: فهي ليست عصا سحرية كما يقول نيتشه. إنها نشاط فكري تحليلي ونقدي يرمي إلى فحص المفاهيم التي يتداولها الناس بشكل عفوي وبصورة غير مفحوصة. كما أن الفلسفة قادرة على تقديم حلول لبعض المشكلات التي يواجهها البشر، بمعاونة بقية العلوم طبعا.

غلاف كتاب "الفلسفة بين الفن والأيديولوجيا"

ومع أن الفلسفة ليست "أفضل" المعارف، إلا أن غيابها في أي سياق ثقافي يؤدي إلى نقص خطير جدا. فلو تصورنا أن الآداب هي القلب، والعلوم هي الجسد، والتقنيات هي الأطراف، فإن الفلسفة هي الروح التي تسري في كامل الجسد، والتي من دونها تصبح الآداب والعلوم مشتتة وغير مترابطة. ولو لم يكن للفلسفة من ميزة سوى طرح الأسئلة العميقة باستمرار على العلوم وعلى المجتمعات لكان هذا كافيا لاستنباتها في تربة الثقافة العامة.

font change

مقالات ذات صلة