شاكر الأنباري "ينام وذهنه مشغول"

جسد يحتضر وروح تحلق في سماء بغداد

غلاف رواية "ينام وذهنه مشغول"

شاكر الأنباري "ينام وذهنه مشغول"

لا يخرج شاكر الأنباري من نص العراق إلا ليعود إليه ثانية، كمن يحفر بئرا في أرض تنز بالملوحة وطعم العلقم والطعنات، إذ لا عشبة خلود تنتظر جلجامش في رحلته الجهنمية بين تضاريس خريطة ممزقة يصعب لملمة جرحها المفتوح منذ نحو نصف قرن من الاضطرابات والانقلابات العسكرية، والمذابح. لطالما سلك هذا الروائي العراقي دروبا وعرة في استكشاف مصائر شخصياته العالقة بين الهزائم والموت والحروب المتعاقبة، كأن قدر هذه البلاد أن تكون مقبرة أكثر منها بساتين نخيل وشوارع بهجة، وأخيلة شعراء. نتعرف في روايته الجديدة "ينام وذهنه مشغول" (دار نينوى- دمشق) الى "رسول" بلا نبوءات.

جسد منهك بحواس معطلة

شاعر مغمور مصاب بالشلل إثر جلطة دماغية، تحيله إلى جسد منهك بحواس معطلة، يرى ما يدور حوله من دون أن يتكلم أو يسمع، فيلجأ إلى ذاكرته التي تحتشد بمئات الصور والوقائع والمواقف التي تعينه على اكمال الرحلة الشاقة. يفتتح صاحب "نشيدنا الحزين" روايته بغرفة داخل مستشفى، تطل على نهر، حيث يرقد رسول قبل أن ينقل إلى منزله ميؤوسا من شفائه. يفهم من إشارة الطبيب الى زوجته براء أنه سيعيش ثلاثة أيام، وربما ثلاثة أشهر، أو ثلاث سنوات. ستدهمه الحيرة بين أي من هذه التواريخ سينطفئ فيه إلى الأبد، وكنوع من المقاومة يستدعي صندوق ذكرياته لمواجهة لحظة الموت الوشيكة، "نال العطب من أعصاب جسده وعضلاته ومفاصله، وتحول إلى ذاكرة فقط، إلى خلايا عصبية متوهجة لها نشاط واحد هو إشعال النار بتلك المنطقة المسماة ذاكرة".

تنهال صور قديمة من أرشيف هذا الشاعر المحبط، تخالطها أصوات مسوخ وأشباح وكوابيس لطالما أرقت لياليه بعذابات لا نهائية. في سيارة الإسعاف التي نقلته من المستشفى إلى بيته ستتوافد مشهديات الخراب والدمار والعنف التي خلفتها التنظيمات التكفيرية وطائرات الاحتلال الأميركي في البلاد، وصولا إلى ثورة 2019 في ساحة التحرير التي كان شاهدا عليها لا مشاركا في يومياتها.

تنهال صور قديمة من أرشيف هذا الشاعر المحبط، تخالطها أصوات مسوخ وأشباح وكوابيس لطالما أرقت لياليه بعذابات لا نهائية

هكذا تتقاطع الأزمنة في ذهن رسول، تتكشف أولا عن مشهد القتلى من جنود الحرس القومي إثر اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، الحادثة التي تؤرخ لما سيأتي بعدها من انقلابات وديكتاتوريات وضحايا.

الإغلاق العام في العراق خلال تفشي فيروس كوفيد 19

انطفاء بريق الأمكنة

بعيني طفل وذاكرة ضبابية يشهد انقلاب عبد السلام عارف، والصراعات الضارية بين البعثيين والشيوعيين في سبعينات القرن المنصرم، وغزوات المجاهدين، بالتوازي مع خطواته الأولى المتعثرة نحو المكتبة العمومية في بلدته النائية، فبين تلك الرفوف يكتشف حيوات أخرى بما يشبه الانخطاف نحو ما سيكون عالمه المشتهى. تتدفق عناوين لا تحصى من الكتب، وعشرات الأمكنة التي عبرها في شوارع بغداد، قبل أن تفقد بريقها، فقد تآكلت أعمدة شارع الرشيد وانهارت مقاهيه، وانطفأت حانات شارع أبي نؤاس، وأصوات يوسف عمر ومحمد القبنجي وسليمة مراد وناظم الغزالي. شوارع معادية لا شيء يعيد إليها بريق أزمنتها السعيدة، فجدارية فائق حسن، ونصب جواد سليم، وتمثال الرصافي، ملطخة بصور الديكتاتور ووصاياه، ونفايات اللحظة الراهنة. كأن احتضار المدينة نسخة من احتضار جسد الشاعر، كلاهما يهبط إلى القاع، من دون طوق نجاة.  

ديستوبيا غير قابلة للإصلاح

كلما أوغلنا عميقا، نرتطم بواقعية سوداء، وديستوبيا غير قابلة للإصلاح لفرط فواتير الخسارات التي أثقلت كتفي الشاعر الذي بقي في منطقة الظل، وهو المصير نفسه الذي سيصيب صديقه هاتف، شاعر الحداثة الذي انتهى إلى بائع طيور في زمن الحصار طوال فترة التسعينيات. يتداولان أثناء تسكعهما في مقاهي المثقفين، بنوع من الحسرة، أسماء لامعة مثل سعدي يوسف وبدر شاكر السياب ومحمود البريكان وسركون بولص، باعتبار هؤلاء الجدار الاستنادي الصلب للثقافة العراقية في مواجهة طغيان السلطة والمطاردات الامنية. ذلك أن رسول لم يتمكن من طباعة كتاب باسمه، بعد أن فقد مخطوطاته الشعرية في دار نشر غامضة، وتاليا، كلما تستدعيه الذاكرة بحنين معرفي، يأتي من باب التعويض عما خسره في الواقع. بطل هامشي من هذا الطراز، أتاح للراوي أن يرمم صورة البلاد بجنتها المنسية، وجحيمها الطويلة، بما يشبه" نزهة المشتاق" لسلفه الإدريسي، إذ يغوص رسول في أحياء مدينة بغداد يجوس أزقتها وشرفاتها وحاناتها ومقاهيها، من باب الأعظمية إلى شارع المتنبي أو "المنطقة الخضراء" لمشتل المخيلة، ومن حديقة الزوراء إلى الكرادة، ومن الكرخ إلى "سوق الشورجة"، بنزوات سردية تملأ مناطق الفقدان بذكريات خاطفة، وبمخزون معرفي ثري يغني اندحاراته الحياتية، في ظل بلاد أنهكتها الحروب والاوبئة وأوراق النعي التي تملأ الشوارع والساحات.

عبد السلام عارف مع مجموعة من القيادات العراقية 1963

محاكمات ذاتية صارمة لعقود من هباء العيش، ومفارقات الحرب، وانهدامات الجسد، كأن يقرأ خبرا في الجريدة التي يعمل بها مصححا، عن رجل يتناول طعامه صباحا في مطعم على نهر دجلة، وبعد أن ينهي وجبته، يقوم بتفجير حزامه الناسف وسط الزحام، فالسماسرة كما يقول اخترعوا موتا شيطانيا بأحدث وسائط التكنولوجيا يطيح بعشرات الضحايا يوميا.

بلاغة القسوة

هكذا تتناسل الفجائع على هيئة كوابيس ليلية تقتحم مناماته، وإذا بالموت بطبقاته المتعددة، يتصدر معجمه السردي، حتى أنه يطلق على جهاز الفحص "الطبقي المحوري" اسم "التابوت الحديدي". في مسلك تخييلي آخر تتناوب المقبرة مع المكتبة. جثث متروكة في العراء من جهة، ومؤلفون منهمكون في تأريخ بلاغة القسوة حينا، ونشوة الكتابة طورا، من جهة أخرى. يستنجد بالجد العظيم الجاحظ مرورا بالفردوسي والمعري والرومي والمتنبي والحلاج، إلى التوحيدي، مما يضع رسول على عتبة التصوف كملاذ يحميه من سطوة ورديات القتل والخطف والغيبيات، "يبدو قبرك كأنه فزاعة في حقل من الرمل".

هكذا تتناسل الفجائع على هيئة كوابيس ليلية تقتحم مناماته، وإذا بالموت بطبقاته المتعددة، يتصدر معجمه السردي

يتجول الموت في مفاصل الرواية كصاحب بيت مقيم لا كضيف عابر، فهو ثيمة أساسية لا تغيب عن المتن، تحضر بتنويعات سوريالية، رغم كل محاولات النجاة، وذلك باللجوء إلى لمحات من الأوقات السعيدة التي سرعان ما تخبو أمام ما خبره رسول من أهوال ومهالك ونكبات في عراق ما بعد الحصار والحرب والاحتلال. لا خلاص من الخراب الروحي إذن، إلا بالشطح الصوفي والتطهر من حقبة طويلة من الآثام بالنسبة الى جيل وجد نفسه عالقا ومحاصرا بين الشعارات والكتب والعزلة والكوابيس.

دبابة في أحد شوارع العراق في عام 1963

أرض بين سيفين

جسد يحتضر وروح تحلق في سماء بغداد مثل طائر خرافي يتفقد بعينيه الأمكنة تبعا لتدفق الصور والذكريات، وكأن الفوضى السردية في الاسترجاع تارة، والمضي قدما حينا، هي جزء صميمي من فوضى البلاد الغارقة بالوحشية والصراعات الطائفية والتوابيت المتنقلة في "أرض بين سيفين" باقتباس من قصيدة لسعدي يوسف، فلا مسافة في "أرشيف العنف" بين تقطيع أوصال الحلاج وصلبه عند جسر الكرخ في القرن العاشر، وحلاجي القرن الحادي والعشرين المنبوذين من الرعاع وفقهاء الظلام.

مشهد من العراق

يستعيد تلك الأيام هاربا من رماد الحلاج ورماد السنين المختلط باليورانيوم المنضد. "سنقع على خطين متوازيين في هذه المرثية الحزينة: أرض محروثة بالقنابل الانشطارية والأسلحة الفتاكة والمتفجرات وفتاوى القتل والغازات السامة، وأرض افتراضية محتشدة بالكنوز المعرفية، خصوصا بعد انخراط رسول باللحظة الإلكترونية بوصفها مكتبة أو متاهة لا نهائية تغنيه عن مكتبته الورقية، عناوين تمتد من ملحمة جلجامش، و"المثنوي" لجلال الدين الرومي، و"لزوميات" أبي العلاء المعري، إلى نصوص آخر شاعر مجهول في الفضاء الأزرق. شاعر مخذول يحاور الأشباح في مكتبته الضخمة، يلتقي الجاحظ وآغاثا كريستي وأنطون تشيخوف وغائب طعمة فرمان، وآخرين، ثم يدعونه جميعا إلى وليمة العشاء الأخير، فيقرر أخيرا معانقة الموت. بمثل هذه الفنتازيا العراقية، يغلق شاكر الأنباري ملف بطل روايته الغارق في الأوهام والعزلة، "الغزاة ببدلاتهم المرقطة، وخوذاتهم الالكترونية، وبنادقهم سريعة الرمي، جاءوا للقبض عليه. سيطوون حياته كما تطوى سجادة".

ينحت شاكر الأنباري جدارية العراق من شماله إلى جنوبه، ومن جباله إلى أهواره بإزميل حاد، حافرا التشوهات التي دمغت الكائن العراقي

يستعيد هنا سيناريو القبض على ديكتاتور البلاد في حفرته، كأنه المتهم، ليستيقظ من كابوسه في غرفة العناية المشددة إثر نقله إلى المستشفى ثانية، يراقب من نافذته نهر الفرات كآخر صورة يودعها في مباهجه الآفلة، النهر الذي رافقه ثمانية وستين عاما، هي عمره المهدور وخيباته المتتالية في بلاد العدم. ها هو في غيبوبته الأخيرة وحيدا، مثل "جرادة في صحراء"، أو "محارة فارغة" في مواجهة طائر الموت العملاق الذي سيحمله إلى كواكب ومجرات بعيدة، بعد أن أفرغ أرشيف ذاكرته من حبر الآخرين، وحسرات الوحدة، ووحشة الطريق، نحو البياض التام.

تظاهرة حاشدة في العراق

في "ينام وذهنه مشغول"، ينحت شاكر الأنباري جدارية العراق من شماله إلى جنوبه، ومن جباله إلى أهواره بإزميل حاد، حافرا التشوهات التي دمغت الكائن العراقي اليوم، وأمراضه المزمنة، والعطب البيئي والروحي الذي أحال بلاد الرافدين وبابل اللغات والترنيمات السومرية إلى صحراء قاحلة غير قابلة للعيش.

font change