الحرب في السودان... الفاشر على حافة الوجود

ليس مجرد تكتيك عسكري

رويترز
رويترز
نساء وأطفال في مخيم زمزم للنازحين قرب الفاشر شمال دارفور في يناير 2024

الحرب في السودان... الفاشر على حافة الوجود

الاحتفاء بانقشاع غيمة الحصار عن غزة مستحق، ولكنه لا يعني النهاية، فثقل ما يحدث في العالم يأبى علينا أن نستريح ويذكرنا بما لم ينتهِ بعد في مكان آخر: حصارٌ طويل، بطيء القتل، وقاسي الملامح، استسهل العالم مشاهدة مناظره وكأنه تعوّد على منظر الجوع والدمار.

أن يحتفل الناس ببدء تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة أمرٌ يبعث على الارتياح، لكن علينا أيضا أن نوجّه الأنظار إلى شقيقتها الأخرى، مدينة الفاشر في شمال دارفور، التي تعيش منذ أبريل/نيسان 2024 حصارا وحشيا لا هوادة فيه تفرضه عليها ميليشيا "الدعم السريع".

لم تُولَد مأساة الفاشر، عاصمة شمال دارفور وآخر معاقل سيطرة الحكومة السودانية في الإقليم، بين ليلة وضحاها. فالحصار الذي تفرضه ميليشيا الدعم السريع ليس مجرد تكتيك عسكري، بل هو استراتيجية إبادة مُحكمة ومُعدّة سلفا، تهدف إلى كسر المدينة عبر تجويع وتطويع سكانها.

بدأت الخطة بخنق طرق الإمداد الحيوية، وأبرزها طريق "مليط" الذي كان شريان الحياة الوحيد للمدينة، مما أدى إلى عزل ما يقارب 1.5 مليون مواطن ونازح عن العالم الخارجي، والذين تناقص عددهم الآن إلى حوالي 300 ألف بين من نجحوا في الهروب من المدينة ومن قضوا نحبهم جراء الحصار وهجمات الميليشيا. تبع ذلك بناء سواتر ترابية ضخمة حول محيط المدينة، وتحويلها إلى سجن مفتوح يخضع لمراقبة القناصة ونيران المدفعية الثقيلة، بينما يستهدف ويطارد رجال الميليشيا أولئك الذين يحاولون الخروج، ويقومون بتصفيتهم على أساس إثني.

لم يكن استهداف البنية التحتية عشوائيا. فقد وثّقت منظمات دولية، على رأسها "أطباء بلا حدود"، القصف الممنهج الذي طال المستشفى الجنوبي، وهو المرفق الطبي الرئيس لجراحة العظام، مما أدى إلى خروجه عن الخدمة وتكدّس الجرحى في ظروف كارثية. ولم تسلم دور العبادة أو ملاجئ النازحين من القصف، في محاولة واضحة لمحو أي شكل من أشكال الحياة المدنية الآمنة. وبهذا، تحوّل المدنيون الذين فرّوا إلى الفاشر من مناطق دارفور الأخرى بحثا عن الأمان إلى رهائن داخل أسوارها وورقة ابتزاز تكتيكية في الصراع.

لم يكن استهداف البنية التحتية عشوائيا. فقد وثّقت منظمات دولية، على رأسها "أطباء بلا حدود"، القصف الممنهج الذي طال المرافق الطبية الرئيسة

النتيجة هي مدينة على حافة الوجود. تحولت أسواقها إلى أطلال خاوية، حيث ارتفعت أسعار المواد الغذائية القليلة المتبقية إلى مستويات فلكية، وأصبحت وجبة واحدة في اليوم ترفا لا يقدر عليه الكثيرون. أما المستشفى السعودي- وهو الوحيد المتبقي عاملا في المدينة والذي يتعرض لقصف دوري من الميليشيا- فيعمل بلا دواء أو معدات، حيث يضطر الأطباء إلى إجراء عمليات جراحية دون تخدير كافٍ، ويواجه الضحايا الموت ليس فقط بسبب الإصابات، بل بسبب انهيار النظام الصحي بالكامل.

وثّقت الصحافة الميدانية النادرة ومنظمات الإغاثة الدولية على مدار أشهر أن المدينة تعيش تحت حصار متواصل تجاوز المئات من الأيام، وأن الأطفال هم الضحية الأولى لهذه الحرب الصامتة. فقد حذّر برنامج الأغذية العالمي من أن شبح المجاعة يخيم على دارفور، وتُظهر التقارير الواردة من الفاشر صورا مفجعة لأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم، وأجسادهم الهزيلة تشهد على جريمة التجويع. مع إغلاق المدارس وتحويلها إلى ملاجئ، يُقضَم مستقبل جيل كامل قبل أن يبدأ، ليصبحوا ضحايا حرب لم يختاروها، ومحاصرين بين نيران القصف وبراثن الجوع.

الأطفال هم الضحية الأولى لهذه الحرب الصامتة

وما يزيد من خطورة المشهد ويعقّد بُعده الإنساني والقانوني، هو دخول عناصر مرتزقة من خارج الحدود. فالتقارير الحكومية وتحقيقات صحافية استقصائية متكررة، مدعومة بشهادات ميدانية وصور فوتوغرافية وتوثيقات بالفيديو وخطوط سير طيران وصور أقمار صناعية، تؤكد وصول مقاتلين أجانب يمتلكون خبرات قتالية متقدمة للانضمام إلى صفوف الميليشيا. هؤلاء المرتزقة، الذين ينحدر بعضهم من دول مثل كولومبيا حيث يتمتعون بخبرة طويلة في حروب العصابات، وآخرون من أوروبا الشرقية وروسيا (عبر شبكات مثل مجموعة "فاغنر" سابقا)، لا يعملون كقوة معزّزة للميليشيا فحسب، بل ينقلون خبراتهم في حرب المدن، واستخدام الطائرات المسيّرة الهجومية، والتكتيكات الوحشية التي تهدف إلى بث الرعب، مما يفاقم من عنف الهجمات الموجهة ضد المدنيين.

الأكثر ترويعا هو تورط بعضهم، بحسب شهادات موثقة، في الإشراف على عمليات تجنيد الأطفال وتدريبهم على حمل السلاح، وتحويل مخيمات النزوح المكتظة باليائسين إلى سوق تجنيد قسري. هذا التحويل المنهجي للواقع الإنساني المأساوي يجعل الأطفال يُقتلون مرتين: مرة معنويا حين تُسلب براءتهم ويُدفعون كوقود للحرب، ومرة جسديا حين يسقطون في خطوط القتال الأمامية. هذا ليس مجرد افتراض، بل هو نمط وثّقته منظمات حقوقية دولية وفريق خبراء الأمم المتحدة المعني بالسودان، والذين يعتبرون تجنيد الأطفال واستخدام المرتزقة جرائم حرب مكتملة الأركان بموجب القانون الدولي الإنساني.

أ.ف.ب
مخبأ مؤقت حفره مدنيون في الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، هربا من الاشتباكات بين قوات الدعم السريع شبه العسكرية والجيش السوداني، في 13 مارس 2025

فشلت الاستجابة الإنسانية التقليدية لتوصيل المساعدات عبر قوافل وممرات برية مرارا أمام تعنت الميليشيا ورفضها السماح لهذه المساعدات بالمرور. كما أن استهداف القوافل وإغلاق الطرق وتحويل المساعدات إلى أهداف عسكرية جعل الوصول إلى الفاشر مستحيلا لفترات طويلة. هنا يطفو على السطح حلٌّ بديهي لكنه لم يُطبَّق بقدر كافٍ ولم يضعه العالم في الاعتبار بشكل جاد: الإسقاط الجوي للمساعدات. وهناك تجارب أخيرة أثبتت أن هذه الآلية قابلة للتنفيذ وفعّالة: الجيش السوداني أجرى إسقاطات جوية للإمداد في المدينة في نهايات سبتمبر/أيلول ومطلع أكتوبر/تشرين الأول، ووثّقت وسائل إعلام وبيانات ميدانية نجاح وصول إمدادات إلى مواقع محاصرة، ما يُظهر أن السماء لا تزال ممرا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه حين تُغلق الأرض. إنه برهان عملي على أن الخيار متاح ويجب تعميمه بحماية دولية وسلامة عملياتية وعدم السماح لأي طرف بتحويل السماء إلى ساحة أخرى من ساحات القتل.

لا تغيب معادلة السياسة الدولية، فهناك قرارات أممية تُشير إلى أن ما يحدث ليس مجرد فشل إنساني، بل هو فشل للنظام الدولي بأكمله. قرارات مجلس الأمن التي يتم خرقها بلا توجس من العواقب. نظام العقوبات والأحكام التي وضعها المجلس منذ منتصف العقد الأول لهذا القرن، وأبرزها القرار 1591 الذي فرض قيودا وحظر توريد الأسلحة إلى دارفور تحت ولاية البند السابع الإلزامي من ميثاق الأمم المتحدة، لا يزال قاعدة قانونية يجب استحضارها وتطبيقها بقوة اليوم. كذلك تذكّر قرارات ومواقف مجلس الأمن الحديثة، بما في ذلك ما دعا صراحة إلى رفع الحصار عن الفاشر ووقف الأعمال التي تستهدف المدنيين، بأن هناك نصوصا دولية تُطالب بإنهاء هذا العبث. وعدم تحويل هذه القرارات إلى أدوات ضغط حقيقية- اقتصادية ودبلوماسية وقانونية- يكشف عدم جدية العالم في التعامل مع مأساة الفاشر.

لا تغيب معادلة السياسة الدولية، فهناك قرارات أممية تُشير إلى أن ما يحدث ليس مجرد فشل إنساني، بل هو فشل للنظام الدولي بأكمله

الفعل المطلوب من العالم حاليا متعدّد المستويات:

أولا، اعتماد عملية إسقاط جوي منظم ومنتظم ومحمي بسقف دولي واضح، وبغطاء أممي ملزم، وبروتوكولات دقيقة لتأمين هبوط الإمدادات كي لا تتحول سلما لمقتلة جديدة.

ثانيا، تفعيل آليات مجلس الأمن واللجان الفنية لتتبع شبكات التهريب والتمويل التي تُدخل المرتزقة والأسلحة إلى دارفور، بما في ذلك فرض عقوبات مستهدفة على الفاعلين في دعم الميليشيا والجهات الوسيطة.

رويترز
شاحنات تحمل مساعدات من بورتسودان إلى السودان، السودان 12 نوفمبر 2024

ثالثا، برامج إنسانية طارئة لحماية الأطفال- تغذية علاجية متقدمة، أطر لإخراج الأطفال من القتال وإعادة تأهيلهم، وحماية نفسية طويلة المدى- لأن خسارة جيل هي خسارة لا تُعوَّض.

ورابعا، ولمن يريد أن يسمع بالعدالة، توثيق مستقل ومحمي للمساءلة الجنائية الدولية عن جرائم الحصار، وتجنيد الأطفال، وجرائم الحرب التي تُرتكب ضد السكان المدنيين. وقبل وبعد ذلك كله، الضغط على الميليشيا، وعلى حلفائها وداعميها لإنهاء الحصار الذي استمر لأكثر من عام ونصف العام على المدينة ومخيمات النازحين المحيطة بها.

لا تغيب معادلة السياسة الدولية، فهناك قرارات أممية تُشير إلى أن ما يحدث ليس مجرد فشل إنساني، بل هو فشل للنظام الدولي بأكمله

في خضم فرحتنا الهشة بالانفراج في غزة، وهي فرحة مستحقة كجرعة ماء في صحراء البؤس الإنساني المعاصر، يجب أن لا نسمح لها بأن تكون ستارا يخفي مأساة أخرى تُحاك خيوطها ببرود أعصاب قاتل. هناك، في رحاب دارفور، تُخنق مدينة بأكملها، تُحاصر الفاشر بحبل من نار وجوع، وتُسجَّل أسماء أطفالها في قوائم الموت قبل أن تُسجَّل في دفاتر الحضور بالمدرسة. وجوههم الصغيرة تختفي بهدوء، كأنها لم تكن، تُطفئها يد الحصار الظالمة قبل أن تتفتح للحياة.

font change

مقالات ذات صلة