ما أن نتذكّر اسم محمود شقير أو نقرأ اسمه في جريدة أو على غلاف كتاب حتى نتذكّر القدس. فهذا الكاتب الفلسطيني الذي وُلد بالقرب من هذه المدينة وعاش فيها معظم حياته، لا يخلو كتاب له من ذكرها، سواء أكان في قصة قصيرة أم رواية أم سيرة ذاتية.
وها هو يصدر كتابه الجديد "هامش أخير" الذي يتناول جانبا مكملا من سيرته التي بدأها في كتاب "تلك الأمكنة"، وتلاه كتاب ثان بعنوان "تلك الأزمنة"، والثلاثة صدرت عن "مكتبة نوفل، هاشيت أنطوان"، في بيروت. والمتابع للكاتب الفلسطيني سيجد أن سيرته لم تقتصر على هذه الكتب، بل هي مبثوثة أيضا في كتاب "منزل الذكريات"، وقبله كتاب "ظل آخر للمدينة" الذي دوّن فيه مذكراته عن القدس إثر عودته إليها عام 1993 بعد ثمانية عشر عاما قضاها في المنفى متنقلا بين بيروت وعمّان وبراغ وغيرها.
حياة القدس
ما يشد القارئ في كتابات شقير عن القدس هو كثرة التفاصيل عن المدينة التي هي بمثابة الحلم عند العرب، أو المكان المقدس الذي يتوقون إلى زيارته يوما ما.
شقير في كتاباته يحوّل هذه الصورة/ الأيقونة إلى حياة يومية، نجوب معه في تاريخها الحي، شوارعها وأسواقها ومقاهيها ومدارسها ومكتباتها ودور السينما فيها، وقبل ذلك أهلها، سواء كانوا أدباء مثل جبرا إبراهيم جبرا أو سياسيين مثل فتحي الشقاقي، أو وجوها نادرة كنادلة المقهى التي كان يتباهى أمامها الشباب، بحملهم الكتب والجرائد ليظهروا أنهم مثقفون.
محمود شقير لا يقدم لنا "المدينة المقدسة" بتعبيرات مجازية إنشائية، بل بسجلات حياة وأوصاف لأمكنة لا تزال باقية وأخرى تبدلت بفعل الاحتلال وغطرسته. لذا فهو يعيد إلينا القدس الذاكرة والحية معا، لتصبح في مكانة كل ما هو جميل ومقدس، قداسة الإنسان الذي عمّرها وجمّلها.
اللافت في كتابات شقير السيرية خلوها من الادعاءات والبطولات الزائفة، سواء كتب عن نفسه أو عن غيره. ولأنه يتلمس جوهر المشكلة في ما يكتب، فإنه لا يتردد في قول ما تمليه عليه الذاكرة بكل ما تختزنه من تجارب: "أظن أن صدقي مع نفسي هو الذي يدفعني إلى التعبير عن ذاتي بشفافية ووضوح، ذلك أنني وأنا أدخل عامي الرابع والثمانين لا أشعر بأنني محتاج إلى الدفاع عن نفسي، أو تقديم اعتذار وتوضيح لأيّ كان، ولا أحتاج إلى أن أشهد لنفسي".
خجل زائد
ولد محمود شقير عام 1941 في "جبل المكبّر"، الذي قيل إنه سُمّي كذلك نسبة إلى تكبيرات الخليفة عمر الخطاب حين وصل إليه، وهو مجاور لمدينة القدس التي درس فيها شقير الإعدادية والثانوية، قبل أن ينتسب إلى جامعة دمشق ويعمل في حقل التعليم، إلى جانب الكتابة في الصحف المقدسية منذ عام 1962.
يستعيد شقير طفولته، في كتابه "هامش أخير"، فنجد ذلك الطفل الذي لا يحبذ المواجهة وقد يبقى يوما دون طعام بسبب خجله، لكنه لا يتردد في أن يقول كلمته إذا ما شعر بالقهر أو التهكم اللفظي من قبل أحدهم. ونجده في حيرة الأسئلة وهو يستذكر هذه المشاعر، في ضعفه وقوته وتغاضيه عن الإساءات التي تعرض لها "لماذا تغاضيت؟ هل كان ذلك بسبب العفو عند المقدرة أم بسبب الضعف؟ لماذا أساء لي أشخاص، وهم قلة قليلة، بالغمز واللمز حينا وبالاستغابة الصريحة حينا آخر، وسكتُّ على أذاهم؟ هل لخجلي علاقة بذلك؟ نعم، ربما كان خجلي الزائد هو المشكلة، لماذا كنت خجولا؟ هل لو كنت شرسا وتشاجرتُ مع أشخاص بعينهم كان أفضل لي ولسمعتي الشخصية؟ أظن أن الجواب نعم، ذلك أن هناك أشخاصا يستأسدون حين يطمئنون إلى أنك لن تنالهم بأذى، ولن يتنمروا عليك إذا ساورهم شك بأنك لن تسكت عليهم، وبأنك قد تعاقبهم". ويظن شقير أن تجنبه الدخول في مشاجرات مع الآخرين يعود إلى ضعف بنيته الجسدية، وحرصه على ألا يدخل في شجار خاسر.