محمود شقير يكتب هوامش القدس وذكرياتها

حيث الحياة معركة لا نهائية

Ammar Awad/Reuters
Ammar Awad/Reuters
منظر عام لقبة الصخرة في الحرم الشريف،فيما يؤدي الفلسطينيون أول صلاة جمعة في شهر رمضان المبارك في البلدة القديمة بالقدس، 24 مارس 2023

محمود شقير يكتب هوامش القدس وذكرياتها

ما أن نتذكّر اسم محمود شقير أو نقرأ اسمه في جريدة أو على غلاف كتاب حتى نتذكّر القدس. فهذا الكاتب الفلسطيني الذي وُلد بالقرب من هذه المدينة وعاش فيها معظم حياته، لا يخلو كتاب له من ذكرها، سواء أكان في قصة قصيرة أم رواية أم سيرة ذاتية.

وها هو يصدر كتابه الجديد "هامش أخير" الذي يتناول جانبا مكملا من سيرته التي بدأها في كتاب "تلك الأمكنة"، وتلاه كتاب ثان بعنوان "تلك الأزمنة"، والثلاثة صدرت عن "مكتبة نوفل، هاشيت أنطوان"، في بيروت. والمتابع للكاتب الفلسطيني سيجد أن سيرته لم تقتصر على هذه الكتب، بل هي مبثوثة أيضا في كتاب "منزل الذكريات"، وقبله كتاب "ظل آخر للمدينة" الذي دوّن فيه مذكراته عن القدس إثر عودته إليها عام 1993 بعد ثمانية عشر عاما قضاها في المنفى متنقلا بين بيروت وعمّان وبراغ وغيرها.

حياة القدس

ما يشد القارئ في كتابات شقير عن القدس هو كثرة التفاصيل عن المدينة التي هي بمثابة الحلم عند العرب، أو المكان المقدس الذي يتوقون إلى زيارته يوما ما.

شقير في كتاباته يحوّل هذه الصورة/ الأيقونة إلى حياة يومية، نجوب معه في تاريخها الحي، شوارعها وأسواقها ومقاهيها ومدارسها ومكتباتها ودور السينما فيها، وقبل ذلك أهلها، سواء كانوا أدباء مثل جبرا إبراهيم جبرا أو سياسيين مثل فتحي الشقاقي، أو وجوها نادرة كنادلة المقهى التي كان يتباهى أمامها الشباب، بحملهم الكتب والجرائد ليظهروا أنهم مثقفون.

محمود شقير لا يقدم لنا "المدينة المقدسة" بتعبيرات مجازية إنشائية، بل بسجلات حياة وأوصاف لأمكنة لا تزال باقية وأخرى تبدلت بفعل الاحتلال وغطرسته. لذا فهو يعيد إلينا القدس الذاكرة والحية معا، لتصبح في مكانة كل ما هو جميل ومقدس، قداسة الإنسان الذي عمّرها وجمّلها.

اللافت في كتابات شقير السيرية خلوها من الادعاءات والبطولات الزائفة، سواء كتب عن نفسه أو عن غيره. ولأنه يتلمس جوهر المشكلة في ما يكتب، فإنه لا يتردد في قول ما تمليه عليه الذاكرة بكل ما تختزنه من تجارب: "أظن أن صدقي مع نفسي هو الذي يدفعني إلى التعبير عن ذاتي بشفافية ووضوح، ذلك أنني وأنا أدخل عامي الرابع والثمانين لا أشعر بأنني محتاج إلى الدفاع عن نفسي، أو تقديم اعتذار وتوضيح لأيّ كان، ولا أحتاج إلى أن أشهد لنفسي".

خجل زائد

ولد محمود شقير عام 1941 في "جبل المكبّر"، الذي قيل إنه سُمّي كذلك نسبة إلى تكبيرات الخليفة عمر الخطاب حين وصل إليه، وهو مجاور لمدينة القدس التي درس فيها شقير الإعدادية والثانوية، قبل أن ينتسب إلى جامعة دمشق ويعمل في حقل التعليم، إلى جانب الكتابة في الصحف المقدسية منذ عام 1962.

يستعيد شقير طفولته، في كتابه "هامش أخير"، فنجد ذلك الطفل الذي لا يحبذ المواجهة وقد يبقى يوما دون طعام بسبب خجله، لكنه لا يتردد في أن يقول كلمته إذا ما شعر بالقهر أو التهكم اللفظي من قبل أحدهم. ونجده في حيرة الأسئلة وهو يستذكر هذه المشاعر، في ضعفه وقوته وتغاضيه عن الإساءات التي تعرض لها "لماذا تغاضيت؟ هل كان ذلك بسبب العفو عند المقدرة أم بسبب الضعف؟ لماذا أساء لي أشخاص، وهم قلة قليلة، بالغمز واللمز حينا وبالاستغابة الصريحة حينا آخر، وسكتُّ على أذاهم؟ هل لخجلي علاقة بذلك؟ نعم، ربما كان خجلي الزائد هو المشكلة، لماذا كنت خجولا؟ هل لو كنت شرسا وتشاجرتُ مع أشخاص بعينهم كان أفضل لي ولسمعتي الشخصية؟ أظن أن الجواب نعم، ذلك أن هناك أشخاصا يستأسدون حين يطمئنون إلى أنك لن تنالهم بأذى، ولن يتنمروا عليك إذا ساورهم شك بأنك لن تسكت عليهم، وبأنك قد تعاقبهم". ويظن شقير أن تجنبه الدخول في مشاجرات مع الآخرين يعود إلى ضعف بنيته الجسدية، وحرصه على ألا يدخل في شجار خاسر.

 محمود شقير لا يقدم لنا "المدينة المقدسة" بتعبيرات مجازية إنشائية، بل بسجلات حياة وأوصاف لأمكنة لا تزال باقية وأخرى تبدلت بفعل الاحتلال وغطرسته

وما نراه في هذه الصورة المبكرة لطفولته، سيمتد إلى كل حياته، فنجده يهرب من الصراعات الحزبية، ويتخذ جانب المصلح أو المقرِّب بين مختلف الخصوم. فتبدو الحياة معركة ممتدة لا نهائية. فالأطفال الذين يتشاجرون بلا سبب، بدءا من لعن كل منهم أبا الآخر وصولا إلى المعارك الجسدية، سنرى صورة منهم في معارك الكبار وإن اختلفت أساليبهم. شقير لم يقل لنا هذا بشكل مباشر، لكن قصصه التي يوردها تُظهر لنا صورة واحدة، صورة صراع في مستويات عدة. قد يبدو هذا الصراع أحيانا نتاج سوء فهم، لكنه في أحايين كثيرة يبدو غريزة متأصلة، أو مقصودا بذاته وبمبررات لا تحصى.

AFP
منظر عام للبلدة القديمة في القدس مع قبة الصخرة في الخلفية

القدس أولا

حين يعود محمود شقير إلى ذكرياته مع الأمكنة، لا يوجد ما يحدّ من هذه الذكريات سوى تبدّلاتها بأسماء أخرى وتحويل بعضها إلى مستوطنات إسرائيلية. فمكتب التربية الذي عمل فيه، أصبح مكتبا لإحدى مؤسسات الاحتلال، والمقهى الذي كان يضم الحراك السياسي والثقافي صار محلا للأحذية. لكن كل هذه المنغصات لا تدفعنا إلى الذهب بعيدا عن شوارع القدس وبيوتها، بما في ذلك بيوت أولئك اليهود الذين يرفضون سياسة الاحتلال ويعلنون ذلك في نشاطاتهم ومقالاتهم، بالرغم من أن هذه الأصوات تتراجع، ويبدأ شقير بالشعور بلا جدواها، حتى إنه لا يستطيع أن يدعو أحد هؤلاء إلى بيته تخوفا من رد فعل احدى قريباته التي قُتل ابنها بنيران الاحتلال.

AFP_Al Majalla
غلاف كتاب "ظل آخر للمدينة" لمحمود شقير

يظهر هذا الاحتلال في ذاكرة الطفل محمود عام 1948 حين أغلقت مدرسة السواحرة الغربية في القدس أبوابها، مما أضطر الأهالي إلى إرسال أطفالهم لتلقي العلم في مدرسة السواحرة الشرقية. وهناك معارك يشهدها الفتى وصولا إلى 1967، ودخوله سجن الاحتلال (الدامون) عام 1969، حيث "اعتاد رجال الشرطة الإسرائيليون استقبال المعتقلين باللكمات والركلات". ومن ثم نفيه في عام 1975، إذ يذهب إلى بيروت ويشهد هناك الأشهر الأولى من الحرب الأهلية، ليغادر بعدها إلى مدن ومنافي أخرى.

AFP_Al Majalla
غلاف كتاب"هامش أخير" لمحمود شقير

يتناول شقير شخصيات كثيرة عرفها في حياته، فيتحول كتابه من "هامش أخير" إلى هوامش كثيرة عن الناس والأمكنة التي عرفها، إضافة إلى سرده لتجاربه في الكتابة القصصية والروائية والكتابة للأطفال، كما يتناول تجاربه مع المحررين الأدبيين بتواضع نادر قل أن نجده لدى الكتاب العرب.

AFP_Al Majalla
غلاف كتاب"تلك الأزمنة" لمحمود شقير

وفي تجربته السياسية لا يتراجع عن ابداء آرائه حول بعض الصراعات والحروب، ومنها حرب روسيا ضد أوكرانيا، التي من الواضح أن خلفيته الشيوعية القديمة حفزته للوقوف مع روسيا بدعوى "أهمية تعدد الأقطاب" و"نكاية بالقطبية الأحادية الممثلة بالرأسمالية الأميركية". وهذه المواضيع تُقرأ كمقالات صغيرة في عناوين مجزأة، ودون ترتيب زمني، وهو ما منح القارئ فرصة للتجوال بين الكتاب وقصصه كيفما أراد.وإذا كان العمر يلح عليه في بعث هذه الذكريات بالكتابة، فإن هاجس حال فلسطين يظل ملازما: "تلح عليّ الأوضاع غير الطبيعية التي يعيشها الشعب الفلسطيني منذ أكثر من مئة عام. الأوضاع التي من أبرز معالمها: وعد بلفور 1917، كارثة 1948 وهزيمة 1967، وما تلاها من قتل واعتقالات وحروب كان آخرها حتى الآن حرب الإبادة في قطاع غزة وفي شمال الضفة الغربية، وخصوصا في المخيمات التي يناصبها المحتلون العداء ويسعون إلى محوها، في محاولة منهم لإخفاء جريمة 1948 التي تشهد عليها هذه المخيمات".

font change