في السابع من ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، كانت العاصمة البحرينية تستضيف دورتها المعتادة من "حوار المنامة". على المنصّات، كلمات عن أمن الخليج والبحر الأحمر والدور الأميركي. لكن العيون، في تلك الساعات، كانت معلّقة بدمشق. كنّا نتابع عبر الهواتف ما يجري في سوريا، عبر الاتصالات والتطبيقات والأخبار المتسارعة وما يأتي من تفاهمات بين العواصم واللاعبين الدوليين والإقليميين في "منتدى الدوحة".
صورٌ تتدفّق من الشوارع، وأحاديث متقاطعة عن سقوط النظام الذي حكم البلاد لعقود من الحرب والعزلة. بدا الحدث أكبر من أن يُستوعَب في لحظته، كأن صفحة من التاريخ طُويت لتبدأ أخرى بلا ملامح واضحة. كان الليل في المنامة طويلا ومتحركا ومليئا بالعواطف.
في القاعة نقاشات عن التوازنات الإقليمية، وفي الهواتف أصواتٌ تتصادم من إدلب إلى حلب وحماة وحمص ودمشق. لم يكن أحد يعرف شكل سوريا الجديدة، لكن في اليوم التالي، في 8 ديسمبر، أدرك الحاضرون أن ما جرى سيساهم في رسم خريطة الشرق الأوسط، وأن ما بعد السابع من ديسمبر لن يشبه ما قبله.
عند تلك اللحظة، بدا أن الشرق الأوسط يدخل طورا جديدا وأن الزلزال السوري يغير التوازنات الإقليمية. نظام الأسد تلاشى، وبعد أقل من عام جاءت الجملة التي اختصرت التحوّل بأكمله. قال أحد المتحدثين في "حوار المنامة": "في ديسمبر الماضي سقط الأسد، واليوم نسمع وزير الخارجية السوري يتحدث في المنامة". كانت تلك العبارة أكثر من ملاحظة؛ كانت مرآة لعقدٍ كاملٍ من التحولات، واعترافا بأن سوريا انتقلت من الغياب الكامل إلى الحضور السياسي، ومن ثلاجة العزلة إلى حرارة المنبر.
جاءت الإشارة الكبرى في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني هذا العام، حين جلس وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني على منصة "حوار المنامة" ليتحدث عن "الانتقال السياسي في الشرق الأوسط" إلى جانب ممثّلين ووزراء من السعودية والإمارات وفلسطين. مجرد وجود الشيباني كان إعلانا بأن دمشق عادت إلى المنصة، تتكلم بصوتها لا عبر وكلائها. قال الشيباني بثقة لافتة: "هل هناك موضوع أهم من الانتقال السياسي في الشرق الأوسط؟".
وزاد: "من ديسمبر الماضي حتى اليوم أنجزنا تسعين في المئة من الوعود التي أطلقناها في الشهر الأول". كانت لغته جديدة، فيها توازن وثقة، وفيها محاولة لتقديم سردية مختلفة لسوريا ما بعد الأسد.
تحدث الشيباني عن أكثر من ألف غارة وخمسمئة توغّل منذ الحرب، وعن التزام دمشق باتفاقية 1974 مع الدعوة إلى اتفاق أمني جديد لا يكرّس الاحتلال ولا يفتح باب الحرب
قدّم الشيباني رؤية ترتكز على ثلاثة مبادئ، استقرار أمني داخلي وإقليمي يجعل من سوريا شريكا لجيرانها في مكافحة الإرهاب والمخدرات، ودبلوماسية متوازنة لا تنحاز إلى محورٍ ضد آخر، ودولة قانون "تفتخر بتنوّعها الثقافي والديني". تحدّث عن بناء تحالفات اقتصادية، وعن إزالة العقوبات، وعن سوريا بوصفها "ممرّا بين الشرق والغرب".
كانت تلك محاولة لإعادة تقديم دمشق كدولة طبيعية لا كساحة صراع. لكن اللافت أكثر كان أسلوبه في مقاربة الملفات الإقليمية. في حديثه عن إيران قال: "لدينا قصة طويلة معها... وسياساتها في سوريا كانت خاطئة". وأضاف أن المشكلة مع إيران كانت في سوريا و"ليست في إيران"، في إشارة إلى تدخلات طهران وميليشياتها في الإقليم.
أما عن إسرائيل فقال إن "أي دولة تبني سياستها الخارجية على أسس عقائدية ستجد نفسها في مأزق"، مشيرا إلى مشروع "ممر داوود" عبر الأراضي السورية، مؤكدا أن ذلك "لن يحصل". تحدّث عن أكثر من ألف غارة وخمسمئة توغّل منذ الحرب، وعن التزام دمشق باتفاقية 1974 مع الدعوة إلى اتفاق أمني جديد لا يكرّس الاحتلال ولا يفتح باب الحرب.
بين السابع من ديسمبر العام الماضي والثاني من نوفمبر هذا العام أحد عشر شهرا فقط، لكنها فترة تختصر أكثر من عقد من التحولات. من الغياب إلى الحضور، من العزلة إلى المشاركة
تحدّث الشيباني أيضا عن الانفتاح على الصين وزيارته المقبلة إليها، وعن زيارة مرتقبة للرئيس أحمد الشرع إلى واشنطن "لبحث رفع العقوبات وإعادة العلاقات"، واصفا الزيارة بأنها "تاريخية"، لأنها ستكون أول زيارة لرئيس سوري إلى البيت الأبيض. حتى في حديثه عن تركيا استخدم لغة محسوبة، قائلا إن "أنقرة تنظر إلى بعض المناطق من زاوية أمنها القومي".
في جلسة خاصة جمعتني به، بدا الوزير الشيباني متفائلا بحل ملفات أساسية قبل نهاية العام، مع زيارات رئاسية ووزارية إلى الصين وأميركا والبرازيل وبريطانيا في شهر نوفمبر. كلماته محسوبة تنتمي إلى خطابٍ جديد يريد أن يقدّم سوريا كدولةٍ تبحث عن الاستقرار والانفتاح، لا كحالةٍ عالقة في نزاعات الأمس.
بين السابع من ديسمبر العام الماضي والثاني من نوفمبر هذا العام أحد عشر شهرا فقط، لكنها فترة تختصر أكثر من عقد من التحولات. من الغياب إلى الحضور، من العزلة إلى المشاركة، من الدفاع إلى المبادرة. كثيرون يريدون أن تكون هذه العودة بداية لتحوّلٍ حقيقي في الداخل، لا مجرّد تبدّل في اللغة. لكن المؤكد أن سوريا تتحدث من جديد، ومن المنامة تحديدا تُعلن أنها عادت إلى المسرح، لا لتستعيد دورها القديم، بل لتبحث عن مكانٍ جديد في مشهدٍ إقليمي يتغيّر بسرعة غير مسبوقة.