في الأيام التي أعقبت سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبينما كان السوريون والعواصم الإقليمية والدولية يتداولون اسم أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) وسط قدر كبير من الغموض والشكوك والتساؤلات، كانت باربرا ليف أول مسؤول أميركي يجلس معه وجها لوجه.
لم يكن الرجل آنذاك رئيسا، ولم يكن قد التقى أي مسؤول دولي رفيع، كما لم تكن واشنطن ولا العواصم الإقليمية الكبرى قد قررت بعد كيف ستتعامل مع المشهد الجديد في دمشق. كانت الأسئلة كثيرة: من هو الشرع عمليا؟ ما حجم نفوذه؟ هل يمثّل تهديدا أم فرصة؟ ومن يقف خلفه؟ ما مستقبل سوريا؟
اللقاء الأول بعد أسبوعين من هروب الأسد وقدوم الشرع إلى دمشق لم يكن بروتوكوليا أو مجاملة. فقد حملت ليف وفريقها مجموعة من الملفات الثقيلة: مكافحة الإرهاب، ملف الأميركيين المفقودين وفي مقدمتهم الصحافي أوستن تايس، الأسلحة الكيماوية، العلاقة مع الأكراد و"قوات سوريا الديمقراطية"(قسد)، وتنظيم المقاتلين الأجانب، ومراقبة الحدود مع العراق وتركيا، والعلاقات مع دول الخليج، ومستقبل الوجود الإيراني. تقول ليف في حديث مع "المجلة" إن الانطباع الأول كان حاسما: "فاجأني هدوءه واستعداده التفصيلي. لم يأتِ بشعارات، بل بخيارات عملية على الطاولة." وتضيف: "كان يدرك حجم الشكوك حوله، لكنه بدا ملمّا بالملف إلى درجة غير متوقعة."
وفي نهاية الاجتماع، اتُّخذ قرار أميركي رمزي لافت: إلغاء المكافأة المالية (10 ملايين دولار أميركي) المخصّصة للقبض على الشرع، في إشارة سياسية مبكرة إلى أنه لم يعد يُعامل كقائد فصائلي، بل كشريك محتمل في مسار سياسي وأمني واسع.
هذا الحوار الذي جرى في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، جاء قبل ثلاثة أيام من لقاء الرئيس أحمد الشرع والرئيس دونالد ترمب في البيت الأبيض، يوم الاثنين. وعلى الرغم من أن وجود الشرع في العاصمة الأميركية اليوم يبدو أمرا بديهيا، فإن الطريق إلى هذه اللحظة لم يكن كذلك؛ إذ باتت هذه أول زيارة في التاريخ لرئيس سوري إلى البيت الأبيض.
وتكشف ليف الكواليس التي قادت إلى أول ظهور دولي رفيع للشرع في الرياض يوم 14 مايو/أيار 2025، مؤكدة أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان هو من أقنع الرئيس دونالد ترمب بلقاء الشرع في الرياض ورفع العقوبات عن سوريا لـ "إعطائها فرصة". وتوضح: "منذ ذلك اللقاء تغيّرت المقاربة الأميركية من مراقبة حذرة إلى اختبار واقعي"، حيث كانت السعودية هي التي "فتحت الأبواب".
اليوم، ومع لقاء الشرع–ترمب في المكتب البيضاوي يوم الاثنين 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، ترى ليف أن الموعد يتجاوز البروتوكول إلى تثبيت مسار جديد: "إذا خرج الاجتماع بتفاهم واضح حول المسار الأمني، وترتيبات الشراكة ضد (داعش)، والتعاون الكيماوي، وبوابة اقتصادية ترفع بعض القيود، فسنكون أمام منعطف يمنح الحكومة في دمشق فرصة اختبار حقيقية." وترى أن الأمر مرتبط أيضا بملف الأكراد ودمج الخبرات الأمنية، "لأن الأساس هو طمأنة الحلفاء ومنع عودة إيران و(داعش) معا."
المقابلة التالية مع باربرا ليف لا تروي فقط قصة زيارة إلى دمشق، بل تشرح كيف تشكّلت الانطباعات الأولى عن الرجل الذي وجد نفسه فجأة في موقع إدارة دولة مُنهكة، وكيف استطاعت عاصمة عربية– الرياض– تحويل الشكوك الأولية إلى مسار سياسي يتجه الآن نحو البيت الأبيض، وتتحدث عن أفق توقيع اتفاق بين سوريا وإسرائيل. وتوضح: "ما أسمعه أن هناك عددا صغيرا من الجنود الأميركيين سيكونون هناك (في دمشق) للمساعدة في متابعة ترتيبات الأمن. الإدارة تريد إيجاد صيغة تمنع الضربات العسكرية الإسرائيلية تماما".
وهنا نص الحوار الذي جرى عبر تطبيق "زووم" يوم 7 نوفمبر:
* كنتِ أول مسؤولة أميركية تلتقي بأحمد الشرع، وأعتقد أنكِ في الاجتماع نفسه أخبرتِه عن إلغاء مكافأة العشرة ملايين دولار أميركي. هل يمكنكِ أن تسترجعي سياق ذلك الاجتماع وما دار فيه؟ ماذا حدث بعد ذلك؟ عمّ تحدثتم؟
- السياق، بطبيعة الحال، أننا استفقنا جميعا صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول على حدث شكّل صدمة كبرى. كنت حينها في المنطقة للمشاركة في حوار المنامة، وكان ذلك في اليوم الختامي للمؤتمر، يوم الأحد. كنت هناك لحضور جلسات المؤتمر، وكذلك لتقديم وداع رسمي لعدد من الوزراء والمسؤولين في الحكومة البحرينية الذين جمعتني بهم سنوات من العمل الوثيق.
بعدها، كنت في طريقي إلى عمّان للغرض نفسه، أي لقاء الملك عبد الله ووزير الخارجية أيمن الصفدي، ثم التوجه إلى العراق. وكان من المقرر أن يرافقني مسؤول رفيع من وزارة الخارجية.
ذلك الحدث، كما تعلم، كان استثنائيا بحق بالنسبة لنا جميعا، إذ استفقنا على وقع هذا الخبر. واصلت رحلتي إلى الأردن، حيث التقيت بزميلي، ثم توجهنا معا إلى بغداد.
وفي مرحلة ما خلال ذلك الوقت، تواصل معنا وزير (الخارجية أنتوني) بلينكن وسألنا: هل ينبغي أن آتي؟ وكانت إجابتنا المشتركة: بالطبع، فهذه لحظة مفصلية. اتفقنا على لقائه في أنقرة لإجراء مشاورات مع القيادة التركية، فهم، بطبيعة الحال، جيران مهمون لسوريا، وكانت لهم علاقات مع "هيئة تحرير الشام" وأحمد الشرع.
باختصار، أجرينا تلك المشاورات، ثم، وبناء على طلب الوزير، نظمت الحكومة الأردنية اجتماعا وزاريا طارئا يوم السبت التالي، أي بعد أقل من أسبوع. اجتمعنا خلاله مع وزراء من السعودية والإمارات وقطر ودول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى بعض المسؤولين الأوروبيين، وتركيا والعراق، ومصر، والأردن. امتدت النقاشات لساعات، وكان جو القاعة مشحونا بالكثير من القلق، والخشية مما قد يعنيه هذا الحدث.
لم يعبّر أحد عن أسفه على رحيل بشار الأسد، غير أن الجميع، باستثناء الأتراك، كانوا قلقين، وإن بدرجات متفاوتة، من احتمال أن يتولى هذا الجهادي ومجموعته من الجهاديين الحكم. لذلك، توافقنا على مقاربة موحدة، وقد عبّر البيان الصادر تلك الليلة عن هذا التوافق.




