عن عبد الكبير الخطيبي الذي سبق عصره وظل فكره على الهامش

كتابه "الاسم العربي الجريح" يترجم للمرة الأولى إلى الإنكليزية

REUTERS/Jean Blondin
REUTERS/Jean Blondin
عبد الكريم الخطيبي مع هيئة التحكيم في مهرجان مراكش السينمائي 2005

عن عبد الكبير الخطيبي الذي سبق عصره وظل فكره على الهامش

صدرت قبل أشهر قليلة الترجمة الإنكليزية لكتاب المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي "الاسم العربي الجريح"، الذي كان وضعه بالفرنسية في 1974 وترجم إلى العربية عام 1980. الترجمة التي صدرت عن جامعة "نورثويسترن" الأميركية، جاءت بتوقيع مات ريك، وهي تعيد الاعتبار إلى كتاب أقل ما يوصف به أنه كان علامة فارقة في زمنه، حتى بات من كلاسيكيات الفكر العربي المعاصر.

تعددية معرفية

رحل عبد الكبير الخطيبي عام 2009 تاركا خلفه الكثير من الأحلام الفكرية المعلقة. وعلى الرغم من رحيله المبكر، بالمقارنة مع مجايليه، يظل صاحب "الذاكرة الموشومة" أحد أكثر المفكرين العرب تأثيرا في بنية الثقافة العربية المعاصرة، رغم عدم الاعتراف بذلك، بحكم الإمكانات المذهلة التي ظل يحبل بها مشروعه الفكري الممجد للتفكيك والمدافع عن مفاهيم فكر الاختلاف في إطار ما بات يُعرف بـ"النقد المزدوج".

أحيانا وأنت تقرأ الخطيبي يخيل إليك أنك تفهمه، لكن في لحظة ما تشعر أنك داخل متاهة فكرية يصعب عليك الخروج منها، لأنها تستحوذ عليك وتهدم كل أفكارك المسبقة التي كونتها تجاه مفهوم أو موضوع ما.

ورغم الترجمات المختلفة التي أنجزها العديد من الكتاب والباحثين العرب للخطيبي ونسجوا معه صداقة حقيقية في حياته الفكرية مثل محمد بنيس وفريد الزاهي ومحمد برادة وأدونيس وغيرهم من الكتاب الذين ترجموا دراسات أو مؤلفات صاحب "المناضل الطبقي على الطريقة التاوية"، تبقى كتاباته شائكة، تفرض على القارئ أن يكون قارئا نهما لكتابات كل من موريس بلانشو وجاك دريدا ورولان بارت وجيل دولوز وغيرهم من المفكرين الذين يحضرون في ثنايا نصوصه، لكن عبر التحليل والمساءلة والنقد وليس من طريق الاجترار وتدوير الكلام.

فهذه الأسماء الفكرية الفرنسية القريبة من الخطيبي، تفكيرا وصداقة، جعلته مبكرا يجترح مشروعه الفكري الخاص الذي لا يقلد فيه أحدا، بقدر ما يحاول أن يجد له موطئ قدم داخل فكر الاختلاف الذي جعل منه علامة بارزة في مساره الفكري.

كتاباته متنوعة وتمتح مرجعياتها الفكرية من اهتماماته الذاتية التي يحولها إلى مختبر للتفكير ووسيلة لطرح أسئلة قلقة حول علاقة الممارسات الإبداعية والفنية بالفكر

ولعل أول انطباع يسجله القارئ وهو يتلمس مؤلفاته، أنه أمام مشروع غني ومتعدد يقيم في الشعر والرواية والنقد التشكيلي وأدب الرسائل والسيرة الذاتية وعلم الاجتماع. أي أن الخطيبي رغم حصوله على الدكتوراه في علم الاجتماع في موضوع الأدب المغاربي من جامعة "السوربون" الفرنسية، لم يقبل أن يكون أكاديميا بالمعنى الذي يطالعنا اليوم داخل الجامعات العربية. فكتاباته متنوعة وتمتح مرجعياتها الفكرية من اهتماماته الذاتية التي يحولها إلى مختبر للتفكير ووسيلة لطرح أسئلة قلقة حول علاقة الممارسات الإبداعية والفنية بالفكر.

لذلك، فإن القارئ الحريص على تأمل مجمل ما كتبه الخطيبي ونمط فكره، سيكتشف في لحظة ما، أن الرجل لم يكن يمارس تعددا معرفيا في ذاته أو نزوة عابرة بها يضمن وجوده وشرعيته داخل جغرافيات الثقافة العربية المعاصرة ككل، بقدر ما يكتب داخل وحدة تركيبية ونسق فكري مغاير، يجعله يبلور فكره من داخل أجناس أدبية ومؤلفات فكرية، تارة تأخذ شكل التحليل وتارة أخرى تأتي وفق منزع مجرد.

مفكر مختلف

شكلت اللحظة التي نقلت فيها كتابات الخطيبي إلى لغته الأم، حدثا بارزا في الثقافة العربية، لكونها أحدثت ضجة داخل فكر كان ولا يزال يتأرجح حول مشاريع تتأمل الخطاب الديني وتحاول قراءته وفق فكر فلسفي معاصر (بول ريكور على الخصوص) وبين مفكرين (حسين مروة والطيب التيزيني ومهدي عامل) عملوا جاهدين على وضع التراث العربي الإسلامي وفق رؤية ماركسية، لعبت في الحقيقة دورا كبيرا في تحديث الفكر العربي وإخراجه من القراءات التقليدية التي كانت تجد في الأدبيات الإسلامية مرجعا فكريا لها.

Martin BUREAU / AFP
الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في باريس عام 2003

يعتبر العديد من الأكاديميين أن سنة 1980 شكلت لحظة مفصلية في تلقي العرب لكتابات الخطيبي، ذلك أن شهرة الرجل طبقت الآفاق منذ اللحظة التي قرر فيها أن يكتب كتابه المتوهج بعنوان "الصهيونية والضمير غير السعيد" (1974) وتضمن الكتاب مقالته الشهيرة "دموع سارتر". وقد خلف هذا الكتاب جدلا كبيرا في فرنسا الى درجة انهالت بعض القوى اليمينية وأيضا اليسار الفرنسي بتوجيه نقد لاذع للخطيبي ولكل ما تضمنه الكتاب من مواقف سياسية جريئة في نقد إسرائيل.

غلاف كتاب "المغرب المتعدد"

لم يفكر المفكرون الفرنسيون وقادة الأحزاب السياسية والمؤسسات الثقافية آنذاك، أن ذلك جاء ضمن رؤية الخطيبي التي سيروج لها لاحقا من خلال كتابه التأسيسي "المغرب المتعدد" (1983) حيث عمل على ابتداع مفهوم "النقد المزدوج" الذي يقوم على وظيفتين، الأولى نقد وتفكيك الخطاب الكولونيالي والإمبريالي حول مفهوم الذات الغربية وميثولوجياتها، والثانية توجيه النقد نفسه لخطاب الثقافة العربية الإسلامية ومفاهيمها المؤسسة على الانغلاق حول الذات.

حقق هذا المفهوم شهرة واسعة داخل الفكر المعاصر وبدأت المؤلفات التي تصدر منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي تتحدث عن بعض من هذا النقد المزدوج الذي يقوم على آلية فكرية تحديثية تنتقد الآخر، لكنها لا تنسى أنه يعيش فينا ونعيش فيه.

في هذا المعنى، كان الخطيبي سابقا لعصره، إذ لم يكن من المفكرين العرب الذين تسهل قراءتهم بالعربية والفرنسية على حد سواء، لكون مفاهيمه صعبة وتحتاج إلى دربة فلسفية ومعرفة معمقة بتاريخ الفلسفة المعاصرة، مع العلم، أن كتاباته لم تأخذ نفسا فلسفيا، كما نراه عند جيل دولوز أو ميشال فوكو، وإنما ظلت تهجس بتوليفة فكرية، تجد أنفاسها في علم الاجتماع والسيميولوجيا والأنثروبولوجيا ونظريات الأدب. لذلك وجد القارئ نفسه أمام خلطة فكرية تزج به داخل سلسلة من المفاهيم والبراديغمات التي تساهم بشكل محايث في إنتاج خطاب فكري جديد داخل بيئة فكرية عربية، كانت تؤمن بالتقليد وتجعل منه شعارا لتلك المرحلة.

لم يكن من المفكرين العرب الذين تسهل قراءتهم بالعربية والفرنسية على حد سواء، لكون مفاهيمه صعبة وتحتاج إلى دربة فلسفية ومعرفة معمقة بتاريخ الفلسفة

ورغم مرور 16 عاما على رحيل الخطيبي، لا يكاد المرء يعثر على فكره داخل شعب الفلسفة أو علم الاجتماع في الجامعات المغربية، في وقت تحظى فيه مؤلفاته باهتمام كبير داخل مختبر الثقافة الغربية، كأن الرجل لم يكن بيننا يوما. وهذا التعتيم الذي يمارس على فكر الخطيبي من طرف أكاديميين يجدون فيه صعوبة على مستوى تصنيف فكره ضمن خانة الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، نابع من الجهل المخيف الذي أصبح يفرضه مفهوم "التخصص" على الباحث، بما يجعل أفق تفكيره محدودا وضيقا وعاجزا عن فهم التحولات التي تسم أنماط التفكير المعاصر، وخطوط التقاطع والتلاقي التي باتت تنتسج بين الفلسفة والتاريخ والسوسيولوجيا والأنثروبولوجيا.

لا يعترف الجامعيون في كون الخطيبي فيلسوفا ولا يعترف أصحاب علماء الاجتماع في كونه سوسيولوجيا حقيقيا وضع اللبنات الأولى والتأسيسية لعلم الاجتماع داخل المغرب، وذلك بسبب نظرته الفكرية العالمة لمفهوم السوسيولوجيا والطريقة التي بها ينبغي أن تمارس، من خلال تخليها الكلي عن الممارسات التقليدية التي تجعل منها مجرد أبحاث ميدانية خالية من المفاهيم الفكرية وعاجزة عن إنتاج خطاب فكري أصيل حول موضوع أو واقعة ما. لهذا نحتاج اليوم إلى إعادة قراءة الخطيبي وإدخال مشروعه الفكري ضمن المشاريع التي تدرس للطلبة، بما يجعل الرجل حاضرا داخل ثقافة عربية ظل حتى الرمق الأخير من حياته يدافع عنها وعن تاريخها وذاكرتها ورموزها وعلاماتها.

غلاف كتاب "الاسم العربي الجريح"

ثنائية الهامش والمركز

حين صدرت النسخة الفرنسية من كتاب "الاسم العربي الجريح" عام 1974 وقبل أن تصدر الترجمة العربية على يد الشاعر محمد بنيس عن "دار العودة"، وجدت الساحة الفكرية العربية نفسها أمام رجل فاق خياله الحدود التي قد يحلم بها أي مفكر بعده. إذ لم يتخيل الكتاب أن يأتي أحد من أحضان الثقافة الغربية (كما يصنفونه) ويجعل من الثقافة الشعبية موضع فحص فكري عميق. عمل الخطيبي في "الاسم العربي الجريح"' على نقد المفهوم الديني/ اللاهوتي للجسد العربي، وفي الوقت نفسه محاولة تفكيك المقاربات الإثنولوجية التي طالما احتقرت الموروث الشعبي وتعاملت معه بنظرة متعالية غير منصفة إلى الخزان الفكري الذي تضمره الثقافة الشعبية وإلى الممارسات الثقافية النوعية التي تحبل بها.

غلاف كتاب "ذاكرة الوشم"

دافع صاحب "كتاب الدم" في هذا الكتاب وغيره عن مفهوم الهامش، وجعل منه بمثابة البراديغم الذي منه تتبلور المفاهيم والرؤى والأفكار، حيث بدا الكتاب لحظة صدوره يقف ندا لكتاب ابن وطنه عبد الله العروي "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" (1967).

فإذا كان العروي في مجمل ما كتبه يدافع عن المركز ويعتبر أن التاريخ لا يمكن أن يكتب إلا من خلاله، حيث يرى في الفصل الرابع من كتابه هذا أن من يكتب في الأنثروبولوجيا يكتب خارج حدود التاريخ، فإن عبد الكبير الخطيبي انتقد تاريخانية العروي واعتبرها منهارة في أساسها. لذلك عمل على توسيع مفهوم الهامش والتركيز على الرموز والعلامات واللوحة والأوشام والجسد، بعدما جعل من هذه العناصر بمثابة مفاهيم مركبة للنظر تجاه الواقع.

"الاسم العربي الجريح" يقوم على فكرة قراءة الموروث المغربي وعلى خلق تواشج حقيقي بين الإنسان وجسده، بعيدا من أنماط المعرفة التي تفصل أجساد الناس من مجال التفكير

ذلك إن "الاسم العربي الجريح" يقوم على فكرة قراءة الموروث المغربي وعلى خلق تواشج حقيقي بين الإنسان وجسده، بعيدا من أنماط المعرفة التي تفصل أجساد الناس من مجال التفكير. حرص صاحب "صيف في استوكهولم" على أن يؤسس لنفسه مسارا فكريا أصيلا لا ينفي فيه الممارسات والظواهر التي تتبرعم على الهامش، إذ يعتبرها الخطيبي العنصر الحقيقي القادر على كتابة تاريخ حقيقي بعيدا من سلطة المركز ونخبويته الكاذبة.

MEHDI FEDOUACH / AFP
عبد الكريم الخطيبي مع هيئة التحكيم في مهرجان مراكش السينمائي 2005

من هنا، نفهم عمق الاهتمامات الأخرى في مشروع الخطيبي مثل انغماسه في السنوات الأخيرة من حياته داخل محترفات الفنانين الذين يرى معهم الخطيبي، بأن مفاهيم التفكير في الفن تنبع من داخل هذه المحترفات وليس من خارجها، أي أن العمل الفني، وهو يولد ويترعرع على يد الفنان داخل مرسمه، هو الذي يوجه مسار الفكر ويدفعه إلى خلق فوضى موسيقية داخلية ينزاح بها عن النمط الفكري المتصل والمتكرر، بدل أن يرنو الفكر إلى عملية إسقاط معرفي للمفاهيم والنظريات على جسد العمل الفني، فتصبح الكتابة هشة ومرتبكة وغير قادرة على ابتداع العمل من صلب العمل التشكيلي.

font change