مريام رييس لـ"المجلة": من يكتب الشعر يعيش منه مع أنه لا يكفي لتسديد إيجار البيت

ديوانها "مع" فاز بجائزة الشعر الوطنية في إسبانيا

غلاف ديوان "مع"

مريام رييس لـ"المجلة": من يكتب الشعر يعيش منه مع أنه لا يكفي لتسديد إيجار البيت

"كتابة سيرية تحمل بقوة عمق الحقيقة"، بهذه الكلمات وصف الناقد توا بليسا نصوص الشاعرة الإسبانية مريام رييس، في عام 2004، مشيرا إلى ديوانها "الجميلة النائمة" الصادر في العام نفسه. كان بليسا من أوائل النقاد الذين التفتوا إلى فرادة صوتها الشعري، وحداثة تجربتها.

مريام رييس (المولودة في إقليم غاليسيا، 1979) هي من أبرز الأصوات الشعرية المعاصرة في اللغة الإسبانية. شاعرة وفنانة بصرية في مجال الشعر البصري، تتنقل في كتاباتها بين الهم الشخصي والجماعي، مستكشفة موضوعات مثل الجسد والحب والمنفى واللغة والهوية. لا تكتفى رييس بالقصيدة على الورق، بل تنقل صوتها إلى الفضاء الرقمي، وتفعل النص الشعري في وسائط جديدة، تمزج فيها بين الكلمة والصورة والحركة والصوت.

فازت مريام رييس بـ"الجائزة الوطنية الاسبانية للشعر" لعام 2025 عن ديوانها المعنون "مع" Con الصادر عن "لا بيلا فيرسوفيا"، 2024. الجائزة التي تمنحها وزارة الثقافة الإسبانية، وتبلغ قيمتها 30 ألف يورو، جعلت من رييس ثامن امرأة تنال هذا التكريم في تاريخ الجائزة. مريام، قالت لـ"المجلة" عن فوزها: "ما زلت حتى الآن تحت تأثير الصدمة، بالتأكيد، إنها ليست صدمة، لكنها كانت بالنسبة إلي كذلك. إنها أعلى جائزة يمكن الحصول عليها عن كتاب شعري في إسبانيا. أشعر بالفخر والامتنان العميق".

انتماء مؤلم أم تحرر؟

ولدت رييس في مقاطعة غاليسيا في شمال غرب إسبانيا، لكنها هاجرت في سن الثامنة إلى فنزويلا، حيث درست الآداب في الجامعة المركزية هناك، قبل أن تعود إلى إسبانيا في سن الحادية والعشرين لتستقر في برشلونة وتتابع دراستها في قسم الآداب الإسبانية. تصف رييس تلك الفترة بأنها مفصلية في تشكيل هويتها، "إذ ولدت أولى قصائدي، وبدأ صوتي الشعري يستقي من منبعين ثقافيين مختلفين، رغم مشاركتهما اللغة، كما تأثرت كثيرا بتقاليد الهجرة الغاليسية وثقافتها في كراكاس".

بدأ صوتي الشعري يستقي من منبعين ثقافيين مختلفين، رغم مشاركتهما اللغة، كما تأثرت كثيرا بتقاليد الهجرة الغاليسية وثقافتها في كراكاس

ومن المعروف أن الغاليسيين المقيمين في فنزويلا هم أضعاف أولئك في إسبانيا، حيث شهدت مقاطعة غاليسيا موجات هجرة كبيرة إلى أميركا اللاتينية، خاصة إلى فنزويلا، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين. دفعت الأوضاع الاقتصادية الصعبة والفقر والبطالة الكثير من الغاليسيين إلى البحث عن فرص أفضل في الخارج. فكانت فنزويلا وجهة مفضلة بسبب الروابط الاستعمارية القديمة، وكذلك بسبب ازدهارها الاقتصادي في منتصف القرن العشرين.

غلاف ديوان "مع"

هذا التشكل المزدوج للشاعرة، بين إسبانيا وفنزويلا، جعل من هويتها كيانا متحولا، لا يمكن اختزاله في جنسية أو مكان واحد. هي تنتمي إلى أكثر من مكان، وفي الآن ذاته، لا تنتمي إلى أي منهما بالكامل. هذه الهشاشة في الانتماء، تتحول في شعرها إلى التلاقي بين الثقافتين الذي لم يكن مجرد خلفية حياتية للشاعرة، بل أصبح منبعا دائما، وعن ذلك تقول: "الهوية سائلة، وهي في حالة تحول دائم. أحيانا يكون الشعور بعدم الانتماء مؤلما، وأحيانا محررا".

منذ بدايتها، كتبت رييس انطلاقا من الجسد وعنه، بوصفه حاملا للذاكرة والألم، في ديوانها الأول "المرآة السوداء" (2001)، الذي أنجزت معظم نصوصه في كراكاس، يظهر الجسد والألم محورين أساسيين:

"جسدي يؤلمني
كأنه يتذكر بدلا مني.
جسدي يؤلمني
كأنه ليس لي."

غلاف ديوان "الجميلة النائمة"

أما في ديوانها "الجميلة النائمة" الذي أسلفنا ذكره، فتقول:

"ليس لي وطن/ ليس لي لغة / ليس لي جسد يعرف مكانه".

هذا النفي لا يعني بالضرورة الغياب، إنما هو اعتراف، وربما إعلان هوية جديدة، هوية عابرة، مفتوحة، لا تختزل في مكان ولا تقيد بحدود، اللغة فيها ليست مجرد أداة تواصل، بل جزء من الذات، والجسد ليس عضويا فحسب، إنما هو كيان شعري واجتماعي وأنثوي.

 

من الاعتراف إلى المفهوم

تتحدث رييس عن بداياتها في عالم القراءة، وتقول إن أول ما قرأته كان المسرح: شكسبير، لوركا، لوبي دي فيغا. ثم تأثرت لاحقا بأسماء مثل ألبر كامو، مارغريت دوراس، كلاريس ليسبكتور، سيلفيا بلاث، أليخاندرا بيزارنيك، ريلكه، بيسوا، آنا أخماتوفا، أوسيب ماندلشتام وغيرهم. هذا التنوع في التأثيرات يعكس انفتاحها الثقافي، ويظهر في تعدد أصواتها الشعرية، وفي قدرتها على الجمع بين الغنائي والتجريبي، بين البسيط والمركب.

سلكت طريقا شعريا وحياتيا انتقلت فيه من الاعتراف إلى المفهوم، لكن دائما من جذور حسية وجسدية

بمرور الوقت، تطورت كتابة رييس من قصائد قائمة على الاعترافات الشخصية إلى أشكال أكثر تجريدا ومفاهيمية، دون أن تفقد ارتباطها بالحواس والجسد. في هذا الجانب تقول الشاعرة لـ"المجلة": "سلكت طريقا شعريا وحياتيا انتقلت فيه من الاعتراف إلى المفهوم، لكن دائما من جذور حسية وجسدية". في ديوانها الحائز الجائزة الوطنية "مع" (2024)، تصل رييس إلى مرحلة من النضج الفني، حيث تفتح القصيدة لتشمل "الآخر"، كما تقول.

"أكتب بالجسد
وفي الجسد تمحى
الكلمة التي لم تنطق."
هنا، لا يعود الجسد وعاء للألم، بل يصبح وسيطا للغة، ومساحة للغياب والوجود في آن واحد. فالجسد، رغم أنه وسيلة للتعبير، لا يستطيع أن يحتفظ بالمعنى إلى الأبد، فهو عارض وفان، تنسى فيه الكلمات وتمحى بفعل الزمن أو الألم أو الصمت.

غلاف ديوان"إخلاءات"

شعر المنفى والتحول

تغوص قصائد رييس في تجربة المنفى، ليس فقط كحالة جغرافية، بل كلغة وهوية. إنها تكتب من موقع "الآخر"، ومن موقع التحول الدائم. هذا التوتر الهائل بين الجسد والكلمة، بين ما يقال وما لا يقال، يعبر عن جوهر تجربتها الشعرية، ففي ديوانها "أنا، الداخل، الجسد" (2013)، تكتب:

"اللغة زائدة.
الجسد ناقص.
ومع ذلك، أتكلم."

سجن القصيدة

منذ بدايات رييس في أوائل الألفية، خاضت تجربة الفيديو الشعري، حيث جمعت بين الصورة والصوت والأداء. بسؤالها عن هذه التجربة قالت: "كنت أعمل مصممة مواقع إلكترونية عندما نشرت كتابي الأول. لطالما أحببت الكتب، لكنني لم أرغب في أن تصبح صفحة الكتاب سجنا للقصيدة". بالنسبة إليها، الفيديو لا يكمل النص الشعري، بل يعيد كتابته بلغة أخرى، وتضيف: "أحيانا أصور مشاهد وأشعر أنني أدون الملاحظات، ثم أكتشف لاحقا أن القصيدة كانت موجودة هناك". القصيدة في رأيها لا تقرأ فحسب، إنما تشاهد وتحس، بل هي تجربة حسية كاملة. في أحد الفيديوهات الشعرية التي نشرتها بعنوان "العمق"، تكتب:

"في الجسد،

هناك جسد آخر

لا يرى".

غلاف ديوان "افعل ما أقول لك"

ما يميز هذه التجربة هو بساطتها، فرييس لا تعتمد على معدات احترافية، بل تسجل وتحرر بنفسها، بما هو متاح، مما يمنح العمل حسا يدويا، قريبا من روح القصيدة. الكثير من أعمالها صورت داخل أماكن: حمامات، ثلاجات، ممرات... كأنها تعيد اكتشاف الشعر في التفاصيل اليومية.

موضوعات

تتميز رييس بقدرتها على التنقل بين نبرات مختلفة في أعمالها، من الهمس إلى الصراخ، من الحميمية إلى القسوة. وتقول: "لا أختار النبرة، بل تفرض النبرة تفرض نفسها بطبيعتها".
أسلوب رييس يتميز بتعدد النبرات: أحيانا حميمي، هامس، عاطفي، وأحيانا شرس، صادم، احتجاجي. لكنها لا تختار هذه النبرة بوعي مسبق، بل، كما تقول، تفرض نفسها على نحو طبيعي حسب الحالة والقصيدة. "لا أعتقد أنني أختارها، بل تفرض نفسها بشكل طبيعي."، وهذا ما يجعل قصائدها غير متوقعة، حية، مليئة بالحركة الداخلية، ومتصلة دائما بالواقع العاطفي والنفسي.

أحيانا أصور مشاهد وأشعر أنني أدون الملاحظات، ثم أكتشف لاحقا أن القصيدة كانت موجودة هناك

ولدى سؤالنا لها عن يومها العادي، أجابت بجملة ساخرة وصادقة: "كل من يكتب الشعر يعيش منه، مع أنه لا يكفي لتسديد إيجار البيت". رييس لا تعيش من مبيعات الكتب، بل من أعمال أخرى تتيح لها "شراء وقت للكتابة". لكنها تدرك أن الكتابة لا تحتاج إلى وقت مادي فحسب، بل إلى مساحة ذهنية، يصعب توفيرها حين تكون منشغلا بأعمال أخرى. لهذا، يومها غير منتظم، غير قابل للتكرار. فهي تعيش بحسب ما تتيحه الحياة، وتحاول أن توفر لنفسها تلك اللحظات الثمينة التي يمكن فيها القصيدة أن تولد.

 Wikimedia Commons
مريام رييس

تقول رييس إنها في صدد إصدار روايتها الأولى، بعنوان "العمر السرمدي" La Edad Infinita. بهذه الرواية، تفتح رييس أفقا جديدا، لكنها لا تغادر الشعر كما أوضحت لنا، بل تعمل على توسع فضاءاته، وتمنح نفسها التعبير بأسلوب آخر دون أن تتخلى عن لغتها الحسية والعميقة.

غلاف ديوان"مضغوط على البارد"

في النهاية، سألناها أن تختزل شعريتها في كلمة واحدة. ترددت، ثم قالت: "مهمة صعبة! قبل سنوات كنت سأقول: الجسد. أما الآن، فلست متأكدة". وهذا التردد في حد ذاته يعكس طبيعة شعرها: متحول، منفتح، لا نهائي. فالشعر عندها ليس وصفا، بل سؤال دائم، تجربة وجود، وموقف من العالم. هو طريقة لفهم الذات، ووسيلة لمقاومة التبسيط، والاحتفاء بالتعدد.

font change