زيارة ولي العهد السعودي لأميركا... آفاق أوسع للعلاقات رغم التحديات

تجاوز قضايا الأمن والطاقة التقليدية

رويترز
رويترز
صورة للرئيس الأميركي دونالد ترمب مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وجمع من الوزراء والمسؤولين الكبار من حضور منتدى الاستثمار الأميركي-السعودي في واشنطن، 19 نوفمبر 2025.

زيارة ولي العهد السعودي لأميركا... آفاق أوسع للعلاقات رغم التحديات

شكلت زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى العاصمة الأميركية واشنطن محطة مفصلية في مسار العلاقة الممتدة منذ ثمانين عامًا بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية. وقد ينظر المؤرخون إلى هذه اللحظة باعتبارها نقطة تحول كبرى لكلا البلدين، بحسب ما ستسفر عنه الأشهر المقبلة من تطورات في القضايا الاستراتيجية الجوهرية.

أبرز ما ميز هذه الزيارة كان استمرار الجهود لتوسيع أسس الشراكة الثنائية بما يتجاوز مجالي الطاقة والأمن، لتشمل ميادين جديدة من التعاون في التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي والمعادن الاستراتيجية، إلى جانب مجالات الاستثمار الاقتصادي المستحدثة، وفي مقدمتها التزام معلن من المملكة بضخ ما يقارب تريليون دولار في الاقتصاد الأميركي. كما عكست الزيارة مؤشرات واعدة على تعميق التعاون الدفاعي والأمني، وفتح آفاق جديدة للتنسيق في ملفات مثل الطاقة النووية.

غير أن الأجواء الإيجابية، وصفقات القطاع الخاص، وفرص التصوير الإعلامي التي أحاطت بالزيارة، لا تكفي وحدها لدفع العلاقات إلى الأمام. فالتقدم المستدام يتطلب دبلوماسية مثابرة ومتأنية، تعمل على توضيح النقاط العالقة التي ما زالت من دون حسم، والتي ستشكل الإطار العام لهذه الشراكة لعقود مقبلة.

كتسلّق جبل شاهق: مسار العلاقات الأميركية – السعودية على مدى ثمانين عاما

من جانب آخر، يشبه التقدّم في العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، خلال العقود الثمانية الماضية، تسلّق جبل شاهق. فمنذ تأسيس هذه الروابط بلقاء الرئيس الأميركي فرانكلين ديلانو روزفلت والملك عبد العزيز على متن البارجة الأميركية "كوينسي" في قناة السويس عام 1945، سعى البلدان في معظم الأحيان إلى بلوغ قمم أعلى في بناء علاقة أكثر عمقا ومتانة، رغم ما اعترض الطريق من عثرات وانتكاسات بارزة.

ثلاث محطات صعبة شكّلت مفاصل رئيسة في هذه المسيرة:

الأولى عام 1973، حين فرضت منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك)، بقيادة السعودية، حظرا نفطيا ردا على قرار واشنطن تزويد الجيش الإسرائيلي بالسلاح خلال حرب أكتوبر/تشرين الأول. وقد تسبّب ذلك في أزمة طاقة خانقة داخل الولايات المتحدة، وفتح فجوة في الثقة بين الجانبين. إلا أن البلدين سرعان ما استعادا الزخم في علاقتهما عبر تعزيز التعاون بعد "الثورة الإيرانية" عام 1979، ثم خلال حرب الخليج عام 1991 عقب غزو العراق للكويت وتهديده للسعودية.

الانتكاسة الثانية وقعت مع هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وما تبعها من توتر، لا سيما في أعقاب غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003. ومع ذلك، شهدت العلاقة تقاربا تدريجيا من خلال شراكة أوثق في مكافحة الإرهاب، سواء ضد تنظيم "القاعدة" أو تنظيم "داعش" في العقد الثاني من الألفية.

الأجواء الإيجابية، وصفقات القطاع الخاص، وفرص التصوير الإعلامي التي أحاطت بالزيارة، لا تكفي وحدها لدفع العلاقات إلى الأمام. فالتقدم المستدام يتطلب دبلوماسية مثابرة ومتأنية

الفترة الثالثة امتدت من عام 2012 حتى عام 2022، ورافقها تصاعد التوتر بفعل أحداث إقليمية ومتغيرات داخلية أميركية. فقد أثارت سياسات إدارة باراك أوباما في التعامل مع الانتفاضات العربية، خصوصا في مصر، فضلا عن موقفها من الحرب في سوريا والاتفاق النووي مع إيران عام 2015، قلقا عميقا في الرياض.

وبرزت في العقد الأخير سياسات داخلية وخارجية جديدة في السعودية أثارت نقاشا واسعا في الأوساط الأميركية، في وقت كانت السياسة الداخلية في واشنطن تعاني من هشاشة وانقسام غير مسبوق.

شهدت ولاية دونالد ترمب الأولى جهودا متواصلة لتعزيز الشراكة، إلا أن سياساته حيال إيران والقضية الفلسطينية لم تُفضِ إلى استقرار ملموس في المنطقة. فقد تسببت سياسة "الضغط الأقصى" التي اتبعتها إدارته تجاه طهران في تهديد شركاء واشنطن في المنطقة.

منعطف مهم في السنوات الثلاث الأخيرة بين 2022 و2025

شهد عام 2022 تحولا مهما قاده الرئيس الأميركي جو بايدن، سعى من خلاله إلى تجاوز عقد من انعدام الثقة والشكوك في قضايا إقليمية محورية مثل إيران وسوريا والمسألة العربية–الإسرائيلية. فبعد أن أمضى عامه الأول في التركيز على الملفات الداخلية، من مكافحة جائحة "كوفيد" إلى إعادة تنشيط الاقتصاد بعد الإغلاق القسري، اتجه بايدن نحو انخراط استراتيجي أعمق في الشرق الأوسط، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية، وتجلى ذلك في زيارته إلى الرياض صيف ذلك العام.

في تلك الزيارة، وضع بايدن وفريقه الأسس لكثير من الخطوات التي اتخذتها إدارة ترمب الثانية مع السعودية خلال الأشهر العشرة الأولى من ولايتها. وقد بني هذا الإطار الدبلوماسي على أرضية سبق أن أرستها إدارة ترمب الأولى مع المملكة. وكثيرا ما تُغفَل هذه الحقيقة، أي التشابه والاستمرارية بين بايدن وترمب في التعامل مع السعودية، وسط سحب الانقسام الحزبي الحاد التي تخيم على المشهد الأميركي اليوم.

واس
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أثناء القاء الرئيس دونالد ترامب كلمته في المنتدى ويجلس الى جانبه وزير الخزانة الأميركي سكوت بيسنت، وإيلون ماسك في مركز كينيدي، واشنطن في 19 نوفمبر 2025

وقد حملت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن هذا الأسبوع عناوين لافتة، أبرزها تعهد المملكة بزيادة استثماراتها في الولايات المتحدة من 600 مليار إلى ما يقارب تريليون دولار. كما وقع البلدان اتفاقات في مجالات الذكاء الاصطناعي والمعادن الاستراتيجية، وهي ميادين تشكل ساحات تنافس جيوسياسي أوسع مع الصين.

كذلك وقع اتفاق دفاع استراتيجي يؤكد أن السعودية ترى في الولايات المتحدة شريكها الاستراتيجي الأول، ويتيح لشركات الدفاع الأميركية العمل داخل المملكة. وقد وافق ترمب أيضًا على بيع المقاتلة الأميركية الأحدث "إف-35" للسعودية. غير أن تفاصيل هذا القرار، من كيفية الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، إلى ضمان عدم وصول الصين إلى التكنولوجيا المتقدمة للطائرة، قد تستغرق سنوات لتتضح، فيما سيكون للكونغرس الأميركي دور حاسم في صياغة هذه الترتيبات.

وبالمثل، سيؤدي الكونغرس دورا في ما قد يتفق عليه البلدان بشأن التعاون النووي المدني. ففي هذه الزيارة، وقع الطرفان إعلانا مشتركا يضع إطارا للتعاون النووي المدني، لكنه لم يرتق إلى مستوى اتفاق رسمي بسبب استمرار الخلافات حول تفاصيل أساسية.

وخلاصة القول، إن زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان هدفت إلى توسيع مجالات التعاون بين البلدين بما يتجاوز ركائز الأمن والطاقة التقليدية، غير أن الطريق لا يزال قائما لاستكمال التفاصيل التي تتطلبها هذه الأطر العامة.

تحديات محتملة على طريق الارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى مستوى أعلى

قد تمثل الزيارة الأخيرة الذروة التي بلغها البلدان حتى الآن في صياغة علاقاتهما الثنائية، غير أن الكثير من العمل لا يزال مطلوبا لتحقيق تقدم ملموس في تفاصيل الأطر العامة التي طرحت خلالها. وإلى جانب استكمال تلك التفاصيل، يتعين على الطرفين البقاء متيقظين إزاء المطبات المحتملة التي قد تحول دون بلوغ كامل الإمكانات الكامنة في هذه العلاقة.

أول المخاطر الرئيسة يكمن في البيئة الإقليمية نفسها فمع اقتراب عام 2025 من نهايته، تبدو الأوضاع أكثر استقرارا مما كانت عليه في بدايته، لكن هذا الاستقرار هش وقابل للاهتزاز. فوقف إطلاق النار في غزة وجنوب لبنان ما زال قائما، غير أن تثبيت هذه التفاهمات وتحويلها إلى إنجازات راسخة يتطلب جهدا كبيرا، تماما كما هو الحال مع سلسلة الاتفاقات الإطارية الأميركية-السعودية التي أعلنت هذا الأسبوع.

في ملف إسرائيل وفلسطين، ما زالت فجوة كبيرة قائمة بين السعودية وإدارة ترمب. فقد بذلت المملكة جهودا واسعة دوليا للترويج لـ"حل الدولتين" الذي يفضي إلى قيام دولة فلسطينية، بينما اتخذت إدارة ترمب خطوات لعزل القيادات الفلسطينية ومنعت منح تأشيرات دخول للفلسطينيين إلى الولايات المتحدة.

REUTERS
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدث خلال منتدى الاستثمار السعودي الأميركي في واشنطن العاصمة

 

كثيرا ما تُغفَل هذه الحقيقة، أي التشابه والاستمرارية بين بايدن وترمب في التعامل مع السعودية، وسط سحب الانقسام الحزبي الحاد التي تخيم على المشهد الأميركي اليوم

أما إيران، فهي في أضعف موقع لها منذ "ثورة" 1979، ولا توجد استراتيجية واضحة لمعالجة الأسئلة العالقة بشأن برنامجها النووي وأدوارها الإقليمية. تميل السعودية إلى نهج التهدئة والدبلوماسية مع إيران، لكن من غير الواضح أن إسرائيل وإدارة ترمب تؤيدان هذا المسار.

الخطر الثاني، يبرز داخل الولايات المتحدة نفسها فهناك احتمال حقيقي أن تتحول السعودية مجددا إلى قضية خلافية بين الحزبين "الديمقراطي" و"الجمهوري". كما حدث في ولاية ترمب الأولى، مع اقتراب انتخابات منتصف المدة عام 2026، وما يرافقها من سباق رئاسي مفتوح تتسم فيه الانتخابات التمهيدية بالحدة والتنافس.

وخلال زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، عبّرت شخصيات ديمقراطية بارزة في الكونغرس، مثل السيناتورة جين شاهين، العضوة البارزة في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، عن انتقاداتها لتحركات الرئيس ترمب لتعميق التعاون مع السعودية في مجالي الدفاع والطاقة النووية المدنية من دون الرجوع إلى الكونغرس أو طلب موافقة مجلس الشيوخ.

هذه الانتقادات، إلى جانب المخاوف من تداخل مصالح أعمال عائلة ترمب مع الاتفاقات الحكومية، تشير إلى احتمال واقعي بأن تصبح السعودية مجددًا موضوعا ساخنا في السياسة الأميركية مع اشتداد الحملات الانتخابية.

ختاما، سلطت زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن الضوء على الإمكانات الكبيرة لارتقاء العلاقات الثنائية إلى مستوى أعلى في قضايا محورية، لكن في الوقت ذاته يبرز حجم العمل غير المنجز المطلوب لتحقيق  تلك الإمكانات.

font change

مقالات ذات صلة