جحيم غزة وصراع الذاكرة في أحدث روايات رشيد بنزين

كونية المأساة في "الرجل الذي كان يقرأ الكتب"

الروائي رشيد بنزين

جحيم غزة وصراع الذاكرة في أحدث روايات رشيد بنزين

تضع رواية "الرجل الذي كان يقرأ الكتب"، للفرنكو مغربي رشيد بنزين، قارئها أمام رهان وجودي لا يبدو أن الواقع يؤيده، حيث يبرز الأدب صرحا من الكلمات ضد ضجيج العالم, فهو في روايته هذه الصادرة عن دار "رومان جيار" الفرنسية، يصوغ وثيقة فلسفية عميقة تصف بالكلمات صرخة إنسانية مدوية من قلب جحيم غزة، بل كأنه فيها ينقل بأمانة مرعبة الحوار الصامت بين عدسة تسعى لالتقاط اللحظة، وكلمة تصر على استدامة الذاكرة، في حوار يذكرنا بأن الكرامة البشرية لا تقاس بحجم الخراب، بل بمدى القدرة على القراءة والمقاومة.

غزة مسرح العبث ومختبر الإنسانية

منذ الوهلة الأولى، يغرقنا بنزين في مشهدية بصرية آسرة، حيث تتحول غزة إلى ما يشبه مختبرا إنسانيا امتحنته قسوة التاريخ. فهي ليست مجرد بقعة جغرافية، بل كيان روحي مثخن بالجراح: "مقبرة تبدو فيها حتى الظلال ضائعة"، حيث الأنقاض ليست مجرد ركام، إنما شواهد على حياة كانت".

يصف الراوي جوليان، وهو مصور أجنبي، المدينة بعبارات تلامس عمق المأساة: "واجهات ممزقة ومفتوحة كجثث الحيوانات النافقة"، و"العيون المفقوءة للنوافذ" التي تحدق في فراغ لا متناه.

في هذا المشهد الذي يذكرنا بأطلال ما بعد الكارثة في أدب صمويل بيكيت، يظهر نبيل، بائع الكتب، شخصية مسيحية تتقمص جسد ديوجين عصري يواجه الظلام بنور الكلمات، فالتناقض بين فوضى الخارج وسكينة الداخل لدى نبيل هو المحور الذي يدور حوله النص. يجلس نبيل أمام متجره المتهدم، مستندا إلى الجدار "كأنه يتوحد مع المكان"، فهو ليس مجرد بائع، بل حارس للمعرفة، رجل تآكل جسده بفعل المنفى والزمن، لكن روحه صقلتها قراءة متواصلة لكتاب واحد.

هذا التوازي الجريء والضروري بين تجربة معسكرات الاعتقال وحالة اللاجئين الفلسطينيين، يضع المأساة الغزية في سياق منطق الإبادة الذي يواجه الإنسانية جمعاء

اللقاء بين المصور ونبيل هو اشتباك معرفي بين المرئي والمخفي. المصور يسعى إلى الصورة، إلى اللقطة التي تختزل الحقيقة، بينما نبيل يصر على القصة، على ما هو مخفي خلف السطح. يرفض نبيل أن يختزل إلى بورتريه فولكلوري سخيف، مؤكدا أن قيمة البورتريه لا تكتمل إلا بمعرفة الوجود الكامل الذي يكمن وراءه. هذا التضمين لفعل الشهادة، حيث يجب على المصور أن يستبدل عدسته بأذنه، ونظره بإنصاته، هو جوهر الرواية. فالحقيقة الغزّية لا تكمن في الأنقاض أو في ما تلتقطه العين والعدسات من صور، بل في قصص الأرواح المكسورة والمعاد بناؤها، وهي قصص لا يمكن التقاطها إلا عبر اللغة.

AFP
بورتريه لرشيد بنزين

خيط آريادني في متاهة التاريخ

يتكشف سرد نبيل عبر عناوين الفصول التي اختارها الروائي، والتي هي في الواقع عناوين أعمال أدبية كبرى: "على هذه الأرض" لمحمود درويش، "أسطورة القرون" لفيكتور هوغو، "هاملت" لوليام شكسبير، "إن كان هذا إنسانا" لبريمو ليفي، سفر أيوب (الكتاب المقدّس)، "الحريق" لمحمد ديب، "بيت العودة" لجان بول كوفمان، "أسير عاشق" لجان جينيه، "وقائع التين الشوكي" لسحر خليفة، و"مائة عام من العزلة" لغابرييل غارثيا ماركيز، فهذه الأعمال ليست مجرد إشارات، بل هي "خيوط آريادني" التي تقودنا عبر متاهة التاريخ الفلسطيني.

يستخدم بنزين هذه العناوين كمفاتيح تأويلية تضيء مراحل حياة نبيل وتاريخ شعبه، من "على هذه الأرض" لمحمود درويش، الذي يرسخ السرد في واقع المنفى والهوية، إلى "مائة عام من العزلة" لماركيز، الذي يستحضر القدر ودورة العنف التي لا تنتهي، مرورا بـ"أسطورة القرون" لفيكتور هوغو، الذي يضع المعاناة في منظورها التاريخي الطويل. لكن الاختيار الأكثر إيلاما وعمقا هو استحضار "إن كان هذا إنسانا" لبريمو ليفي الذي يعد أقوى شهادة كتبت عن معسكرات الاعتقال في الحرب العالمية الثانية. فهذا التوازي الجريء والضروري بين تجربة معسكرات الاعتقال وحالة اللاجئين الفلسطينيين، يضع المأساة الغزية في سياق منطق الإبادة الذي يواجه الإنسانية جمعاء، ليذكرنا بأن نزع الإنسانية هو عملية عالمية لا تقتصر على جغرافيا واحدة. كما أن "سفر أيوب" يقدم تأملا في المعاناة والبحث عن المعنى في قلب المحنة، بينما يستكشف "هاملت" المعضلة الأخلاقية وثمن الالتزام.

الأدب في منطق رواية بنزين هو أداة للوضوح والبقاء، يسمح لنبيل (الفلسطيني) بالحفاظ على كرامته في مواجهة نزع الإنسانية، وتذكر ما يعنيه أن تكون إنسانا حتى عندما يتآمر كل شيء لسلبك إنسانيتك. هكذا تصبح القراءة شبكة تفسير للواقع، مما يسمح لنبيل بإعطاء معنى لما لا معنى له، وتحويل الفقدان إلى إرث.

غلاف رواية "الرجل الذي كان يقرأ الكتب"

مثقف عابر للحدود

لا يمكن فهم العمق الفلسفي والسياسي لرواية "الرجل الذي كان يقرأ الكتب"، إلا باستحضار سيرة مؤلفها، ففضلا عن كونه روائيا، فإن بنزين باحث في تاريخ الإعلام وعالم سياسة ومفكر فرنسي-مغربي، تتركز أبحاثه على التأويل المعاصر للقرآن والحوار بين الأديان. هذه الخلفية الفكرية الثرية هي التي تمنح الرواية ثقلها وشرعيتها المعرفية، وتجعلها تتجاوز حدود الأدب لتلامس الفكر،  فبصفته أحد المفكرين الجدد، يدافع عن قراءة مستنيرة للنص الديني، قراءة تحرر الإيمان من الجمود وتفتح آفاق الاجتهاد.


هذا المسعى التأويلي يجد صداه القوي في شخصية نبيل، بائع الكتب، الذي لا يكتفي بقراءة الكتب، إنما يقرأ العالم من خلالها

 هذا المسعى التأويلي يجد صداه القوي في شخصية نبيل، بائع الكتب، الذي لا يكتفي بقراءة الكتب، إنما يقرأ العالم من خلالها، فشخصيته هي تجسيد للمثقف الذي يحمل على عاتقه مسؤولية التفسير والتحرير الفكري. إنه يمثل المقاومة ضد الجهل المقدس وضد التفسيرات الحرفية التي تغذي العنف، وهو ما يتماهى مع مشروع بنزين الفكري في مواجهة الأصولية على اختلاف أنواعها ومنابعها.

كما أن بنزين، من خلال أعماله السابقة مثل "رسائل إلى نور" و"صمت الآباء"، يركز على قضايا الذاكرة، والمنفى والصراع بين الأجيال، وضرورة المصالحة مع التاريخ. هذه الثيمات تتجسد في الرواية عبر قصة نبيل وصديقه حافظ، وعبر تاريخ فلسطين الذي يروى من خلال الأدب، فنبيل المولود عام 1948 يحمل في سيرته الذاتية الرمزية تاريخ النكبة بأكمله. واختيار الكاتب للأدب العالمي من شكسبير إلى ماركيز كإطار لسرد التاريخ الفلسطيني لا يأتي مصادفة، بقدر ما هو تأكيد أن المأساة الفلسطينية تتجاوز المحلية، إلى الفضاء الكوني، ويجب أن تقرأ وتفهم من خلال عدسة الإنسانية جمعاء.

AFP
الروائي الفرنكو مغربي رشيد بنزين

هكذا يمكن اعتبار هذه الرواية امتدادا لمشروع بنزين الفكري الأوسع: مشروع نزع الإنسانية عن الصراع. فكما يرى بنزين أن "نزع الإنسانية عن الفلسطينيين يستتبع نزع الإنسانية عن الإسرائيليين"، فإن روايته تسعى إلى استعادة الإنسانية المفقودة عبر استحضار الكرامة الفردية لنبيل وعائلته. إنها دعوة ضمنية للمتلقي الغربي والعربي على حد سواء، لإعادة النظر في السرديات السائدة والبحث عن الحقيقة في التفاصيل الإنسانية الصغيرة، لا في الشعارات الكبرى.

مأساة الالتزام وقوة النقل

يمكن قراءة قصة نبيل بوصفها قصة مأساة شخصية وجماعية، تتجسد في فقدان صديقه حافظ، الصحافي الذي أدى التزامه إلى سجنه ثم موته. ترمز قصة حافظ، الذي أراد وصف الواقع، وفضح المظالم، إلى مصير العديد من المثقفين والناشطين الذين تكمم أفواههم بالعنف، لتضعنا أمام الثمن الباهظ للالتزام في زمن الحرب.

شخصية نبيل، الأستاذ الذي أصبح بائع كتب، هي شخصية الناقل بامتياز. فهو لا ينقل الكتب فحسب، إنما ينقل طريقة لقراءة العالم. ولفتته بتقديم كتاب "الوضع البشري" للمصور ليست عابرة، إذ تشكل دعوة إلى قراءة نشطة وملتزمة، حيث يضيء النص القديم الحاضر. الكتاب هو ملجأ ضد الجنون، ولكنه أيضا مرآة تعكس صورة إنسانيتنا أو غيابها.

AFP
من مشاهد الدمار في غزة

رواية "الرجل الذي كان يقرأ الكتب" هي، في نهاية المطاف، فعل إيمان بقوة الكلمات، إيمان يذكرنا بأن الهمجية لا تنتصر إلا عندما ينطفئ اللسان والذاكرة. من خلال نبيل، يضعنا رشيد بنزين أمام مرآة الوعي، مجبرا إيانا على النظر إلى واقع غزة كمأساة إنسانية يتردد صداها مع أعظم أعمال الإنسانية.

حتى عندما تسحق الحجارة وتختفي الأرواح، تبقى الكلمات شاهدة، تنتقل من يد إلى يد، كآخر معاقل الذاكرة والإنسانية في مواجهة الفناء

هذا الإيمان بالكلمة يتجسد في أبهى صوره وأكثرها إيلاما في خاتمة الرواية. فبعد أن ينقطع الاتصال بنبيل عقب أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، يعود المصور جوليان في عام 2025 ليجد الخراب المطلق: مكتبة نبيل ومقهى حافظ ليسا سوى ركام من غبار. الأجساد محيت، والوجوه اختفت، لكن الإرث لم يمت. ففي قلب هذا الدمار، يظهر طفل صغير يركض حافي القدمين، ويقدم للمصور "كنزه" الذي عثر عليه: بضع صفحات ممزقة من كتاب لمحمود درويش، كانت تحمل رائحة نبيل المألوفة. في تلك اللحظة، لا تعود الرواية مجرد قصة عن رجل يقرأ الكتب، بل تصبح وصية خالدة: حتى عندما تسحق الحجارة وتختفي الأرواح، تبقى الكلمات شاهدة، تنتقل من يد إلى يد، كآخر معاقل الذاكرة والإنسانية في مواجهة الفناء.

font change

مقالات ذات صلة