زيارة البابا إلى لبنان... هل "المقاربات الجديدة" ممكنة حقا؟

الاستعصاء يفترض أن يشجع الفاتيكان على مواكبة الأزمة

أ.ف.ب
أ.ف.ب
البابا ليو الرابع عشر يلوّح للمؤمنين لدى وصوله بسيارته البابوية لحضور قداس على الواجهة البحرية لبيروت في 2 ديسمبر 2025.

زيارة البابا إلى لبنان... هل "المقاربات الجديدة" ممكنة حقا؟

لقد وضع البابا ليو الرابع عشر في ختام زيارته إلى لبنان الإصبع على الجرح عندما قال إن الشرق الأوسط يحتاج إلى مقاربات جديدة، وهو ما يحفز فعلا على السؤال عما إذا كانت المقاربات الجديدة ممكنة أيضا في لبنان الذي زاره البابا لثلاثة أيام، أم إن البلد سيبقى أسير المراوحة والانقسامات التقليدية وضعف المخيلة السياسية في لحظة حرجة جدا وغير مسبوقة منذ تأسيس الكيان اللبناني، فحتى خلال الحرب الأهلية لم يكن السؤال عن مستقبل لبنان مطروحا كما هو اليوم، فخلال الحرب كان لبنان استثناء في المنطقة من حيث عدم استقرار أوضاعه وانفلات العنف الأهلي والتدخلات والاحتلالات أما اليوم فالمنطقة بأسرها في مرحلة انتقالية تشهد التصفيات النهائية على مراكز النفوذ الإقليمية الجديدة، في ظل استنفار إسرائيلي على تغيير الوقائع لا السياسية وحسب بل الجغرافية أيضا، وليس في فلسطين وحسب بل في سوريا ولبنان أيضا، وهذا جديد من حيث انضمام سوريا إلى جغرافيا العبث الإسرائيلي. وبالتالي فإن لبنان البلد الأكثر هشاشة من حيث الانقسامات الداخلية والاهتمام الدولي به، يعوم في بحر هائج، من دون مظلة إقليمية فعلية ومن دون رادع لإسرائيل التي لم تعد تعترف بحدود "سايكس-بيكو" كما قال المبعوث الأميركي توم باراك، وهذا أمر سيكون لبنان أكثر المعنيين به من حيث سير أزمتيه الخارجية والداخلية معا.

صحيح أن زيارة البابا ولّدت انطباعا عموميا بأن لبنان ليس متروكا لمصيره وأن ثمة في العالم من يكترث له، ولو كان الفاتيكان لا يملك دبابات (!) ولكنه يبقى قوة ضغط دولية تستطيع أن تضع ملفا يهمها على طاولة الدول الكبرى وبالأخص الغربية. لكن الصحيح أيضا أن الزيارة كشفت عن عمق الأزمة في لبنان خصوصا إذا ما استحضرت زيارة البابا يوحنا بولس الثاني في عام 1997، فمنذ ذلك التاريخ تقريبا أو بعده بسنوات قليلة، غرق لبنان في أزمة سياسية عميقة ودموية غداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان، وحتى اللحظة لم يخرج منها.

العالم كله يتغيّر من واشنطن إلى الصين، ومن الاتحاد الأوروبي وروسيا إلى جنوب أفريقيا والهند والبرازيل، فهل يستطيع الفاتيكان أمام كل هذه المتغيرات ألا ينتج "مقاربات جديدة"؟

تلك الزيارة "الاستثنائية" حملت دعما غير مسبوق لمسيحيي لبنان الذين عارضوا الوصاية السورية فاستبعدت قياداتهم الرئيسة من الحكم، ولكن بالرغم من ذلك ظلوا يتمتعون بحيوية سياسية واجتماعية، أي إنهم وإن كانوا أكثر الجماعات عرضة للإقصاء عن الحكم والقمع السياسي والأمني و"التهميش"، فإنهم وعلى الرغم من ذلك لم تكن الهجرة خيارهم شبه الوحيد، ولاسيما الشباب منهم، كما هي الآن بعد الأزمة الاقتصادية وتفجير مرفأ بيروت. ولعلّ هذا الانتقال لمسيحيي لبنان من "التهميش" إلى "الهجرة" هو ما يجعل الفاتيكان مهتما بلبنان كآخر المعاقل الرئيسة للمسيحيين في المنطقة، ولكن إلى أي حد سيستطيع قلب المعطيات ومعاندة الأرقام وخلق الفرص؟ فهذا الانتقال عينه هو دليل على ضعف أدوات الكرسي الرسولي أمام أزمة مثل الأزمة اللبنانية، لا تقتصر على المسيحيين وحسب، وتتداخل فيها صراعات الداخل والخارج.

رويترز
الرئيس اللبناني جوزيف عون يستقبل البابا ليو الرابع عشر لدى وصوله إلى مطار رفيق الحريري الدولي، خلال رحلته الرسولية الأولى، في بيروت، لبنان، 30 نوفمبر 2025

لكن هذا الاستعصاء يفترض أيضا أن يشجع الفاتيكان والبابا ليو الرابع عشر شخصيا على مواكبة الأزمة اللبنانية وربما إدخال تعديلات على آليات عمل الدبلوماسية الفاتيكانية التي تميل إلى التحفظ إجمالا، ولكن العالم كله يتغيّر من واشنطن إلى الصين، ومن الاتحاد الأوروبي وروسيا إلى جنوب أفريقيا والهند والبرازيل، فهل يستطيع الفاتيكان أمام كل هذه المتغيرات ألا ينتج "مقاربات جديدة"، خصوصا أن بقاء المسيحية في المشرق العربي حيث أبصر يسوع المسيح النور يفترض أن يكون أولوية للكنيسة الرسولية، فأي مسيحية من دون المسيحية المشرقية؟

نحتاج حقا إلى فهم كيف يفكر البابا الجديد، وماذا يقصد بالمقاربات الجديدة، وكيف ينظر إلى السلام في المنطقة، وإلى تاريخ المسيحيين وحاضرهم ومستقبلهم ودورهم فيها

بيد أن ذلك كله في المقابل لا يعفي المسيحيين المشرقيين وبالأخص اللبنانيين من مسؤولياتهم، أولا في تعريف أزمتهم، وثانيا في تعريف دورهم في لبنان والمنطقة، وهو عمل يبدو أنه لا يزال بعيدا وليس على قائمة أولوياتهم. مع العلم أن مواجهة أزمات معقدة كتلك التي يعيشها لبنان والمنطقة ليس بالأمر السهل، وتتطلب فعلا "مقاربات جديدة"، من حيث الفهم والبحث عن حلول، وهي ليست دائما متوفرة وقد لا تكون متوفرة أيضا، لكن ثمة حاجة لإعادة الاعتبار للتفكير بعمق أكبر، ولتنقية الأجواء من الآراء المشوشة والمتوترة التي يبدو وكأنها تفرض نفسها في المشهد العام أو أنها تعكس قيم المجتمع نفسه، كأن تتعالى التهديدات بالقتل علنا وبالسيوف لشخص أقام عملا فنيا اعتُبر أن فيه مسا بشخص السيد المسيح. وهذا قد يبدو لوهلة تفصيلا بسيطا أمام هول الأحداث التي تحصل في لبنان ومن حوله، ولكنه في النهاية يعكس ديناميات وتحولات اجتماعية وسياسية موجودة وفاعلة لا يمكن فصلها عن الإطار العام للممارسة السياسية المسيحية حتى من أكثر دوائرها "حرفية" وعقلانية.

أ.ف.ب
البابا ليو الرابع عشر وصل إلى القاعة الباباوية لحضور قداس على الواجهة البحرية لبيروت في 2 ديسمبر 2025

لكن في الوقت عينه فإن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل يمكن البحث في أزمة المسيحيين بمعزل عن أزمة لبنان ككل، وعن أزمة المنطقة ككل؟ في الواقع هناك ميل مسيحي لبناني تاريخي إلى عزل أنفسهم عن تطورات المنطقة، حتى وإن أخفقوا في التعامل معها كما حصل في حرب عام 1975، والتي كانت الدليل الساطع على حجم  التداخل بين المجالين اللبناني والإقليمي، وهو أمر لا يزال ساريا حتى الآن مع اختلاف القوى والشخصيات والسياسات. أما الآن فإن المصطلح الرائج هو مصطلح "الحياد"، والذي يعيد عمليا نفس المغالطة المنطقية والسياسية التاريخية للمسيحيين اللبنانيين في ظنهم أنهم يستطيعون عزل أنفسهم في لبنان من الناحية السياسية وبمعزل عن سائر اللبنانيين. طبعا هذه معادلة مركبة ولا يتحمل مسؤوليتها المسيحيون لوحدهم، ولكنها معادلة لا يمكن أن تسلك اتجاها واحدا ولا يمكن أن تطرح كما لو أنها بداهة، لا تستوجب التفكير فيها ولا ربطها بمعادلات أخرى في لبنان والمنطقة.

وهنا نحتاج حقا إلى فهم كيف يفكر البابا الجديد، وماذا يقصد بالمقاربات الجديدة، وكيف ينظر إلى السلام في المنطقة، وإلى تاريخ المسيحيين وحاضرهم ومستقبلهم ودورهم فيها. وهذا أيضا عمل شاق، إذ ليس المسيحيون كتلة ثابتة اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا وليس المسلمون كتلة ثابتة من هذه النواحي، وليست العلاقات والعيش بين المسيحيين والمسلمين ثابتة ولا تتأثر بالمتغيرات والتحولات في المنطقة والعالم، وهي علاقات وعيش لم يكونا مرة في خضم فقدان المعنى كما هما الآن في وقت يستعصي الانتقال إلى الدولة الوطنية المنشودة ناهيك بتعريف علاقتها مع الدين، وهذا وحده يفترض أن يقلق الفاتيكان وأن يحثه على التحرك، رغم صعوبة الموقف وتعدد الأسباب وضعف الوسائل، إلا أن الخشية من الاكتفاء بالصور والكلمات كما لو أن اجتماع رؤساء الطوائف كاف وهم أصلا جزء من التركيبة السياسية المأزومة والتي تستولد الأزمات من كل نوع.

إن كانت الطائرات الإسرائيلية قد "احترمت" زيارة البابا، إلا أنها لا شك تخطط لجولات جديدة وبوتيرة أعنف ربما

ولذلك لم يكن ليكون مستغربا لو أطلق البابا "حالة طوارئ"، في لبنان ليس بسبب أوضاع المسيحيين فيه وحسب بل بسبب وضعه كبلد وكدولة، خصوصا في ظل استمرار إسرائيل بقصف واحتلال الأراضي اللبنانية، وإن كانت الطائرات الإسرائيلية قد "احترمت" زيارة البابا، إلا أنها لا شك تخطط لجولات جديدة وبوتيرة أعنف ربما. وهنا السؤال الأساسي حول المقاربات الجديدة التي دعا البابا لاعتمادها في المنطقة، إذ كيف يمكن "تجاوز العنف والانقسامات في الشرق الأوسط"، في وقت أن إسرائيل تشهد تحولات جذرية تأخذها إلى أقصى اليمين القومي والديني بحيث يسود منطق أن "ما لا يمكن تحقيقه بالقوة فبمزيد من القوة"؟ هذا سؤال أساسي لا يمكن تجاوزه عند البحث فعلا عن مقاربات جديدة للصراع لا يمكن أن تنطلق من دون مقاربة جديدة لعقل إسرائيل بعد "السابع من أكتوبر". أما بالنسبة للبنان فإنّ استمرار الهجمات الإسرائيلية هو إضعاف للدولة اللبنانية وليس لـ"حزب الله" وحسب- للمفارقة فإن إسرائيل نفسها تقول إنه يعيد بناء نفسه- ولذلك فإن المنطق القائل إن الحل في تسليم "الحزب" لسلاحه هو منطق مختل لأنه لا يأخذ بالاعتبار الدوافع الإسرائيلية كلها انطلاقا من استراتيجيتها للهيمنة الإقليمية والتي بدأت تثير حفيظة الدول الإقليمية الكبرى، وهو ما يفسر جزءا من الحركة السعودية والتركية تجاه إيران. وبالتالي فإن المقاربة الجديدة المطلوبة في لبنان هي في مواكبة هذا الحراك الإقليمي، من حيث وعي إن مقاربة سلاح "حزب الله"  مختلة، من قبل "الحزب" الذي لا يمكنه أن يستبقي سلاحه دون استخدامه في وقت أن إسرائيل تواصل هجماتها في لبنان ومن قبل خصومه الذين لا يستقيم منطقهم في حال لم يبحثوا عن مخارج للفصل بين المشكلة الداخلية لسلاح "حزب الله"، والذي هو نفسه مسؤول عنها بالدرجة الأولى، وبين أن استمرار إسرائيل في قصف الأراضي اللبنانية هو عدوان ضد لبنان كشعب ودولة قبل أن يكون ضد "حزب الله"، لأنّ تعايش لبنان مع الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية سيقضي على أي فرصة لنهوضه، تماما كما هي الحال في سوريا التي لا يمكن للحكم الجديد فيها أن "يتأقلم" مع التوغلات والهجمات الإسرائيلية في أراضيها. ولذلك ثمة حاجة فعلا إلى "مقاربات جديدة"، وبمستويات متعددة، وطنية وإقليمية... لكن في الشق اللبناني فإن الاستعصاء قد يكون أكثر رسوخا في ظل سواد منطق الاستقطاب وثنائية الخير والشر، ولا يقتل السياسة و"المقاربات الجديدة" أكثر منهما!

font change