الانكشاف الأوروبي إزاء خطة ترمب للسلام في أوكرانيا

"خطة ويتكوف" ستشكل نقطة تحول للعلاقات عبر الأطلسي

أ.ف.ب/المجلة
أ.ف.ب/المجلة

الانكشاف الأوروبي إزاء خطة ترمب للسلام في أوكرانيا

تجد أوكرانيا نفسها أمام معادلة معقدة بعد الكشف عن "خطة ترمب للسلام"، في 21 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بخطوطها العريضة غير النهائية. وبرز انعكاس تموجات العلاقة بين دونالد ترمب وفلاديمير بوتين على المقاربة الأوروبية لحرب أوكرانيا التي تقترب من ختام عامها الرابع.

أيا تكن النتيجة التي ستؤول إليها المناورات الدائرة، يبدو الانكشاف الاستراتيجي الأوروبي واضح المعالم إزاء أساليب سيد البيت الأبيض.

دبلوماسية ترمب "المتقلبة"

يشكل عهد ترمب الثاني كابوسا للدبلوماسية الأوروبية. إذ يتراوح الأداء الأميركي بين الاستفزازات، والإذلال وازدراء المؤسسات متعددة الأطراف، والبرغماتية التجارية.

في مواجهة تصرفات رئيس الولايات المتحدة غير المتوقعة، تتكيف أوروبا مع مطالبه من أجل الحفاظ على الرابط الحيوي بين ضفتي الأطلسي.

بعد الإعلان عن الخطة الجديدة حول حرب أوكرانيا، كانت الصدمة للوهلة الأولى وساد الارتباك عند الأوروبيين، بالرغم من تكرار حالات مماثلة منذ فبراير/شباط الماضي وتلك المشادة الشهيرة بين ترمب وفولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي.

وهذه المرة، لم يكن هناك شك في أن وثيقة النقاط الثماني والعشرين هي نتاج قمة ألاسكا الأميركية-الروسية في أغسطس/آب الماضي، وأنها- من صياغة ما اعتبره أحد الظرفاء- "الذكاء الاصطناعي الروسي"، لأنها تعكس بوضوح طموحات موسكو. يُولي هذا النص وزنا كبيرا لمعظم مطالب روسيا. فهو يُقيّد القدرات الدفاعية لأوكرانيا، ويدعو إلى انتخابات جديدة في هذا البلد (الذي يُفترض أنه ذو سيادة). ويطالب الأوكرانيين بقبول اقتطاع جزء من أراضيهم، سواء دخلها الجيش الروسي حتى الآن أم لم يدخلها بعد.

مهما كان الضعف الأوكراني والانكشاف الأوروبي، يبدو فلاديمير بوتين حانقا من مقاومة أوروبا لتسوية على حساب كييف

من الواضح أن واشنطن كانت تُعدّ لفرض ما سمي "خطة ويتكوف" (موفد ترمب ستيف ويتكوف) على الأوكرانيين قبل التدخل الأوروبي. ولهذا توجب على الأوروبيين استخدام أقصى درجات الدهاء الدبلوماسي لإعادة صياغة الخطة من دون إثارة غضب نظرائهم الأميركيين. وصرح دبلوماسي أوروبي قائلا: "إنه نوع من الموازنة بين أمن أوكرانيا وتأثيره على الأمن في أوروبا، ومن ناحية أخرى، الحفاظ على العلاقات عبر الأطلسي. إنه المشي على حبل مشدود".

ويبدو أن الذي سمح بزيادة هامش الأوروبيين، هو بروز اعتراض على الخطة ضمن المؤسسات الأميركية، وغضب بين أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين أنفسهم الذين يعتبرون في الوضع الراهن، أقرب حلفاء الأوروبيين حيال هذه المسألة.

من جهته، يبدو زيلينسكي في موقف لا يحسد عليه، وقد قال بصراحة إنه في حيرة من أمره بين "فقدان الكرامة" أو "فقدان شريك رئيس" (الولايات المتحدة الأميركية). وقد أقر الرئيس الأوكراني أن بلاده تمر بأخطر لحظة في تاريخها. 

اللحظة سيئة للقيادة الأوكرانية، إذ أتت الخطة بينما يواجه زيلينسكي فضائح فساد تُضعف حكومته، وقد خسر مدير مكتبه ومعاونه المقرب والمحاور مع الأوروبيين.

حتى إشعار آخر، يستمر الأوروبيون في عدم قبول احتمال فرض حل على أوكرانيا يشبه "الاستسلام". لكن قدرة أوروبا محدودة إزاء رغبة ترمب في مكافأة القوة الفظة الروسية على حساب الضحية الأوكرانية. ومن دون مواربة، اعتبر وزير الخارجية الفرنسية جان-نويل بارو أن أي استسلام لأوكرانيا من شأنه أن يكون استسلاما لأوروبا أيضا.

أ.ف.ب
الرئيس الأميركي دونالد ترمب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد وصولهما إلى قاعدة إلمندورف- ريتشاردسون المشتركة في أنكوريج، ألاسكا، في 15 أغسطس 2025

على صعيد آخر، يجوز الشك في أن الكرملين يراهن على أن تسمح له هذه الخطة مهما كان مصيرها بدق إسفين جديد في العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا. من هذا المنظور، يتشارك بوتين وترمب الرؤية العالمية نفسها، حول أولوية القوة. ويراهن سيد الكرملين أيضا على خلخلة الوضع داخل المعسكر الأوكراني نفسه. من هنا تأتي مطالبة القوات الأوكرانية بالانسحاب من باقي منطقة دونباس، قبل تطبيق وقف إطلاق النار. ويمكن للمرء أن يتخيل التكلفة السياسية الباهظة التي سيتكبدها السيد زيلينسكي نتيجة لمثل هذا القرار في نظر الرأي العام الأوكراني والجيش الأوكراني. وهناك بنود أخرى في الخطة تثير الانقسام مثل استخدام اللغة الروسية، وقضية الأقليات، والتأكيد على حقوق الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وكل ذلك من المرجح أن يهدف إلى زعزعة استقرار التماسك الاجتماعي الأوكراني. وبالمثل، فإن شرط إجراء انتخابات بعد ثلاثة أشهر من تطبيق وقف إطلاق النار يُمثل تحديا. وعلاوة على ذلك، فإن الصياغة التي تستبعد أي انضمام لأوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي لن تعوض بضمانات أمنية كافية.

مهما كان الضعف الأوكراني والانكشاف الأوروبي، يبدو فلاديمير بوتين حانقا من مقاومة أوروبا لتسوية على حساب كييف. وبرز حنق القيصر الجديد عندما وجه قبل اجتماعه مع الموفدين الأميركيين في الثالث من ديسمبر/كانون الأول، تحذيرا للأوروبيين وصل إلى حد القول إنه "مستعد لخوض حرب مع أوروبا" إذا رغبت في ذلك.

إنه تصريح يثير الرعب من تفاقم دورة عودة الحروب، لكنه في الحقيقة لا يختلف عن التحذيرات الكثيرة التي صدرت منذ بداية غزو أوكرانيا، والهادفة إلى بثّ الذعر في الرأي العام الغربي.

يراهن المسؤولون الأوروبيون على نفاد صبر دونالد ترمب على زعيم الكرملين. وفي جنيف، اعتقد الدبلوماسيون الأوروبيون أنهم حققوا نصرا في إقرار وثيقة مُلحقة بخطة السلام المُعدّلة

من وجهة نظر موسكو، تُعتبر القضية الأوكرانية في المقام الأول قضية سياسية وآيديولوجية. بينما يتجاهل الرئيس الأميركي التاريخ والآيديولوجيا. ولهذا يريد أي "صفقة" تقربه من روسيا استراتيجياً واقتصادياً واستثمارياً، ولا تراعي بالضرورة مصالح الأوروبيين 

 أوروبا وسيناريوهات تطور المسألة الأوكرانية 

يتضح تبعا لنتائج الاجتماعات الأخيرة وخاصة اجتماع موسكو بين فلاديمير بوتين وموفدي دونالد ترمب ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر، وكذلك اجتماعات جنيف بين الأميركيين والأوروبيين والأوكرانيين، أن الأمور لم تحسم، وأنه من بين 28 نقطة في المسودة الأولى، ما زالت هناك 19 نقطة بعد مشاورات أميركية مع الجانب الأوكراني. وتبدو النسخة الأخيرة أقل ملاءمة لموسكو. وعلّق المستشار الدبلوماسي للكرملين، يوري أوشاكوف، قائلا: "بعض نقاط [الخطة المكونة من 28 نقطة] إيجابية. ومع ذلك، فإن كثيرا من النقاط الأخرى تتطلب نقاشا خاصا بين الخبراء". كل ذلك يترك اللعبة مفتوحة. 

لقد أصبح الأوروبيون الآن على دراية تامة بكيفية التكتيك. وواجبهم الدبلوماسي هو تجنب إثارة قطيعة عبر الأطلسي، بل بذل كل ما في وسعهم لجذب الإدارة الأميركية، من أجل إعادتها إلى مواقف أكثر ملاءمة لأوكرانيا.

أ.ف.ب
صورة جماعية لقادة الاتحاد الأوروبي في المستشارية ببرلين، حيث يجتمعون لإجراء محادثات حول كيفية إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية المطولة، في 15 ديسمبر 2025

يراهن المسؤولون الأوروبيون على نفاد صبر دونالد ترمب على زعيم الكرملين. وفي جنيف، اعتقد الدبلوماسيون الأوروبيون أنهم حققوا نصرا في إقرار وثيقة مُلحقة بخطة السلام المُعدّلة، عندما صاغ ماركو روبيو وزير الخارجية الأميركي بخط يده ورقة ضمانات لأوكرانيا (بالطبع توقيع ماركو روبيو بالأحرف الأولى لا يُعادل تصديق دونالد ترمب).

بانتظار ردود كل طرف على الصيغ المقترحة يمكن الحديث عن ثلاثة سيناريوهات ممكنة لتطور الوضع: 

السيناريو الأول: هناك احتمال أن يتمكن الأوروبيون والأوكرانيون، في نهاية المطاف، من إعادة بناء جبهة موحدة نوعا ما مع الولايات المتحدة، واتخاذ موقف حازم ضد موسكو. يؤدي هذا السيناريو إلى شكل من أشكال الاستمرارية في السياسة الغربية.. لدى الكرملين سببٌ أكبر للخوف من مثل هذا السيناريو، إذ سيجد نفسه أمام هذه المعضلة الجوهرية: أيهما سيتصدع أولا، عسكريا أم اقتصاديا، في المواجهة المستمرة منذ أربع سنوات؟ 

السيناريو الثاني، وهو الأكثر ترجيحا: أن تكون الكلمة الفصل لبوتين. في هذا الصدد، يمكن مقارنة ذلك بالخطة الأميركية لغزة. يُذكر أنه على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول الماضي، التقى ترمب بقادة مجموعة من الدول العربية والإسلامية، وتمكنوا من تعديل مسار الخطة الأولية التي وضعها البيت الأبيض، إلى أن التقى الرئيس الأميركي بنتنياهو. وبقبوله مطالب الأخير، تخلى ترمب بشكل كبير عن التنازلات التي قدمها للدول العربية والإسلامية قبل أيام قليلة.

أيا كان السيناريو الذي سيسود في النهاية، وهو بلا شك مستوحى من عدة سيناريوهات، فإن "خطة ويتكوف" ستشكل نقطة تحول ليس فقط لأوكرانيا، بل أيضا للعلاقات عبر الأطلسي

بناء على هذه السابقة، من الممكن تماما أن يُغير بوتين النص المتفق عليه بين الأميركيين والأوكرانيين في جنيف، محولا إياه إلى موقف مشترك بين موسكو وواشنطن، ربما في صورة إعلان مشترك، يُفرض على أوكرانيا.

والأدهى أن تستغل موسكو غموض بعض البنود لمصلحتها بمجرد التوصل إلى وقف إطلاق النار.

ويتلاقى هذا السيناريو مع خلاصة حديثة لصحيفة "التلغراف" مفادها أن روسيا حققت الانتصار في الحرب الأوكرانية، وأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو من سيحدد شروط السلام. وأكد تقرير الصحيفة أن أوروبا تفتقر إلى الموارد المالية والعسكرية اللازمة لمواصلة دعم أوكرانيا! 

السيناريو الثالث المُحتمل: ينهار اتفاق موسكو وواشنطن، لسبب أو لآخر، لكن دونالد ترمب يُقرر فك ارتباط الولايات المتحدة تماما بالصراع. نسمعه بالفعل يقول أحيانا عبارات مثل: "إذا أرادوا مواصلة الحرب، فليفعلوا ذلك من دوننا". سيكون هذا هو السيناريو الأخطر على أوكرانيا، التي تحتاج مع ذلك إلى وقف إطلاق نار في المستقبل القريب، وعلى الأوروبيين، تحمل عبء الصراع بمفردهم.

أيا كان السيناريو الذي سيسود في النهاية، وهو بلا شك مستوحى من عدة سيناريوهات، فإن "خطة ويتكوف" ستشكل نقطة تحول ليس فقط لأوكرانيا، بل أيضا للعلاقات عبر الأطلسي.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب يلتقي بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على مائدة الغداء في غرفة مجلس الوزراء بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة، الولايات المتحدة الأمريكية، في 17 أكتوبر2025

في الواقع، تشير النقطة الرابعة من "الخطة" إلى أن المناقشات ستُجرى "بين (الناتو) وروسيا، بوساطة الولايات المتحدة". لا شك أن الإدارة الأميركية الحالية لم تعد تعتبر نفسها ركيزة الأمن الأوروبي إلى جانب الحلفاء، بل في أحسن الأحوال "طرف ثالث موثوق به" بين الأوروبيين والروس. كما تُرسّخ أن الحماية الأميركية مشروطة بالدفع. ولذا يجب على الأوروبيين إدراك وضعهم المتغير في نظر واشنطن: فهم ما زالوا تابعين، ولم يعودوا حلفاء أو شركاء حقيقيين. وإحدى الترجمات القريبة لهذه المتغيرات هو أنه يتعين على قادة الاتحاد الأوروبي، بمناسبة قمتهم يومي الخميس والجمعة في بروكسل، اتخاذ قرار بشأن استخدام الأصول الروسية المودعة لدى مؤسسة "يوروكلير" لدعم أوكرانيا، والتي عمد الأوروبيون إلى تجميدها حتى نهاية الحرب الأوكرانية بعد أن درج تجميدها كل ستة أشهر.

font change