عاد الغاز الإسرائيلي إلى الواجهة، لا بوصفه حلاً تقنياً لأزمة طاقة سورية ولبنانية، بل كأداة سياسية في لحظة إقليمية دقيقة، تزامناً مع إلغاء "قانون قيصر" الأميركي وتوقيع اتفاق جديد لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر.
مشروع "الأنبوب العربي"، الذي طُرح للمرة الأولى عام 2021 لنقل الغاز من مصر إلى لبنان عبر الأردن وسوريا، يعود إلى الأروقة التفاوضية بصيغة أكثر حساسية. غاز إسرائيلي بغطاء أميركي. غير أن ما تغيّر لا يقتصر على طبيعة الغاز، بل يشمل البيئة السياسية، إذ بات ملف الطاقة مدخلاً لإعادة صياغة المقاربة الأميركية في ظل توجه إدارة دونالد ترمب لدعم الحكم السوري الجديد بقيادة أحمد الشرع وتكريس الهزائم الإيرانية وهندسة شرق أوسط جديد.
طوال سنوات، شكّل "قانون قيصر" العمود الفقري لسياسة العزل الأميركية لـ"سوريا الأسد". ورغم الحديث المتكرر عن إعفاءات، بقي القانون سيفا يقطع أي انخراط اقتصادي منظم مع دمشق. إلغاؤه اليوم يعكس تحوّلاً في التفكير داخل واشنطن في التعاطي مع سوريا ما بعد الأسد.
هنا، يكتسب مشروع الغاز وظيفة جيوسياسية تتجاوز مسألة الطاقة. وإدخال الغاز الإسرائيلي في المعادلة نقل المشروع إلى مستوى أكثر حساسية، وحوّله إلى أداة أميركية غير معلنة بين دمشق وتل أبيب. فواشنطن تراهن على استخدام الطاقة كحافز لتحريك مسار تفاهمات أمنية، لا تصل حاليا إلى اتفاق سلام، لكنها تؤسس لوقائع جديدة.
غير أن هذا المسار يصطدم بعقدة الانسحاب والتموضع العسكري الإسرائيلي، إذ تصر دمشق على العودة إلى خطوط ما قبل 7 ديسمبر/كانون الأول، فيما تسعى تل أبيب إلى تكريس احتلالها "المنطقة العازلة" ومرصد جبل الشيخ ومناطق توغلت فيها بعد 8 ديسمبر. هنا يتحول الغاز إلى ورقة مقايضة تُستخدم لتخفيف الضغوط الاقتصادية مقابل مرونة سياسية وأمنية مضبوطة. اقتراح واشنطن، هو أداة تحفيز ناعمة لضم سوريا في شبكة مصالح إقليمية تضيق فيها هوامش عودة النفوذ الإيراني.
في لبنان، يكتسب المشروع بعداً إضافياً لا يقل أهمية. فواشنطن لا تنظر إلى أزمة الطاقة بوصفها أزمة خدمات فحسب، بل باعتبارها أحد أسلحة نزع سلاح "حزب الله". ومن هذا المنطلق، يندرج الدعم الأميركي للمفاوضات بين لبنان وإسرائيل، ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة تثبيت الدولة اللبنانية كمحاور وحيد، وتقوية الجيش. وفي هذا المعنى، يصبح الغاز أداة لإعادة رسم التوازنات اللبنانية بعد نكسات "الحزب" وإيران.
ليس تفصيلاً أن تكون شركة "شيفرون" الأميركية، المشغّلة لحقل ليفياثان، في صلب هذه المعادلة المصرية-الإسرائيلية، وأن تُبدي اهتماماً متزايداً بالاستثمار في سوريا
ضمن هذا المشهد المشرقي، يأتي الإعلان الإسرائيلي عن توقيع اتفاق جديد لتوريد الغاز الطبيعي إلى مصر، بقيمة تقارب 35 مليار دولار، ليضيف بعداً مكملا إلى الصورة. فالصفقة، التي وُصفت بأنها الأكبر في تاريخ إسرائيل، لا تقتصر على بعدها الاقتصادي، بل تؤكد انتقال الغاز الإسرائيلي إلى مرتبة ركيزة إقليمية معترف بها. كما أن توسيع اتفاق عام 2019، ورفع الكميات المورّدة اعتماداً على إنتاج حقل ليفياثان، يعنيان عملياً تثبيت مصر بوابة لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، في لحظة يبحث فيها الغرب عن بدائل للغاز الروسي.
هذا التطور الذي يواكب احتدام الصراع على غاز المتوسط وترسيم الحدود البحرية بين قوى إقليمية أخرى مثل تركيا واليونان وقبرص وسوريا ولبنان وليبيا، عزز موقع القاهرة كمركز إقليمي للطاقة، لكنه في الوقت نفسه يوفّر الغطاء السياسي واللوجستي لمسار "الأنبوب العربي". وليس تفصيلاً أن تكون شركة "شيفرون" الأميركية، المشغّلة لحقل ليفياثان، في صلب هذه المعادلة، ولا أن تُبدي اهتماماً متزايداً بالاستثمار في سوريا بعد لقائها الرئيس أحمد الشرع، ضمن اهتمام دمشق بحل مشكلة الطاقة عبر الغاز من أذربيجان أو قطر برعاية تركية، إلى حين حل مشاكل إنتاجه محليا.
تعود جذور مشروع الغاز إلى الصفقة الأردنية–الإسرائيلية عام 2014 لـ"ترسيخ محور الاعتدال في الشرق الأوسط" بين دول عربية وإسرائيل
ولفهم ما يحصل، يمكن العودة إلى التاريخ. ففي عام 2021، أبلغ آموس هوكشتاين، أحد كبار دبلوماسيي الطاقة في وزارة الخارجية الأميركية، بيروت بأن "خط الغاز العربي" مستثنى من عقوبات "قانون قيصر" الخاصة بسوريا، إلا أن وزارة الخزانة الأميركية رفضت منح الموافقات اللازمة. حالياً، ما عزّز إحياء هذا المسار هو إلغاء "قيصر" بعد تصويت الكونغرس وموافقة الرئيس ترمب.
أما جذور مشروع الغاز والهندسة الإقليمية، فتعود إلى الصفقة الأردنية–الإسرائيلية عام 2014 لـ"ترسيخ محور الاعتدال في الشرق الأوسط بين الدول العربية المعتدلة وإسرائيل"، إذ رعى هوكشتاين في 2012 مفاوضات بين تل أبيب وعمّان، أسفرت عن اتفاق بين شركة الكهرباء الأردنية وتجمع شركات حقل ليفياثان، ممثلة بشركة أميركية لتوفير الغاز لإنتاج الكهرباء.
لا يعكس موت "قانون قيصر" وإحياء الغاز الإسرائيلي انفراجاً تقنياً، بل تحوّلاً استراتيجياً في إدارة الملفات وهندسة الشرق الأوسط
وتوالت بعد ذلك اتفاقات بين شركات مصرية وإسرائيلية، إلى أن تم التوصل مطلع عام 2018 إلى اتفاق الغاز الثنائي، ثم أعلنت القاهرة أن "استيراد الغاز من إسرائيل يجعلها مركزاً إقليمياً للطاقة ولاعباً في غاز شرق المتوسط"، عبر إعادة تصديره إلى أوروبا، وتأسيس منتدى غاز شرق المتوسط مطلع عام 2019.
حاليا، لا يعكس موت "قانون قيصر" وإحياء الغاز الإسرائيلي و"الأنبوب العربي" والربط الكهربائي السوري-الأردني-اللبناني انفراجاً تقنياً، بل تحولاً استراتيجياً ترمي واشنطن عبره إلى ربط ملفات الطاقة والجغرافيا والمياه الإقليمية لهندسة الشرق الأوسط. سوريا تعود إلى الخريطة بوصفها عقدة عبور وتنافس، ولبنان يُدفع نحو مسار اقتصادي–تفاوضي يحدّ من نفوذ "حزب الله"، ومصر تُكرَّس مركزاً إقليمياً للطاقة، والأردن ممرا للغاز والكهرباء، فيما يتحول الغاز إلى لغة السياسة الجديدة. طاقة مقابل استقرار، واقتصاد مقابل نفوذ، في لحظة تعيد فيها واشنطن رسم أدواتها وأولوياتها في المنطقة.