حينما يعكف المراقبون والمحللون الاقتصاديون مستقبلا على قراءة التحولات السعودية الكبرى، لا شك أنهم سيتوقفون طويلا عند لحظة إطلاق "رؤية 2030" في عام 2016، باعتبارها المنعطف الأبرز الذي أعاد تشكيل ملامح الاقتصاد والمجتمع، ونقل الدولة من حالة الاعتماد على المورد الواحد إلى آفاق التنوع والاستدامة.
غير أن اختزال المشهد السعودي الحديث في هذه المحطة فحسب قد يُحدث قصورا في فهم سياق التطور التراكمي، فمع وقوفنا اليوم على مشارف عام 2026، وتجاوزنا منتصف الطريق نحو مستهدفات الرؤية، فإن القراءة الموضوعية تستدعي توسيع العدسة الزمنية لتشمل الربع الأول من القرن الحادي والعشرين كاملا.
إن ما تشهده الرياض و"نيوم" وكافة أرجاء المملكة من ورشة بناء كبرى وتحولات تقنية ولوجستية، ليس نبتة منقطعة الجذور، بل هو حصاد لمسار تحديثي طويل ومدروس، انتقل من مرحلة التأسيس التعليمي والبنية التحتية في العقد الأول من الألفية، وصولا إلى مرحلة الانطلاق الرقمي والتنويع الاقتصادي الشامل في العقد الثاني وما تلاه. نحن أمام قصة دولة تعيد استثمار مقدراتها بذكاء، ليس عبر هندسة السياسات المالية فحسب، بل من خلال تأسيس اقتصاد ما بعد النفط المرتكز على البيانات، والذكاء الاصطناعي، والسياحة، وجودة الحياة.
يمكن قراءة هذه الحقبة الممتدة لربع قرن عبر تقسيمها إلى مرحلتين تتكاملان في الغاية الاستراتيجية المتمثلة في بناء اقتصاد تنافسي عالمي. تميزت المرحلة الأولى، من مطلع الألفية وحتى 2015، بالاستثمار المكثف في رأس المال البشري، عبر برامج الابتعاث وتأسيس الجامعات. بينما جاءت المرحلة الثانية التي انطلقت في 2016، لتكون مرحلة جني العوائد، وتوظيف هذه العقول والطاقات في بناء منظومة اقتصادية وتقنية حديثة، تُرسخ مكانة المملكة المؤثرة ضمن أقوى اقتصادات "مجموعة العشرين".
من إدارة الموارد إلى كفاءة الأداء المؤسسي
ولفهم الديناميكيات العميقة لهذا التحول، يتعين النظر أولاً في جوهر التغير الذي طرأ على فلسفة الإدارة الحكومية. إذ يمكن وصف ما حدث بأنه عملية عقلنة (Rationalisation) شاملة لأجهزة الدولة. ففي السابق، انصب التركيز بشكل أساسي على توزيع عوائد الموارد الطبيعية للحفاظ على نمط تقليدي من الاستقرار التنموي. أما اليوم، وبقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان كمهندس لهذه الرؤية، فقد انتقلت المملكة إلى نموذج الإدارة بالأهداف (Management by Objectives)، واعتماد مؤشرات الأداء الرئيسة (KPIs) كمعيار حاكم للنجاح والتقييم.



