هكذا واكبت السياسة الأميركية بالشرق الأوسط في ربع قرن

ترمب يعيد واشنطن إلى قواعد اللعبة القديمة

اندري كوجوكارا
اندري كوجوكارا

هكذا واكبت السياسة الأميركية بالشرق الأوسط في ربع قرن

في عام 2000، كان الفصل الثاني من ولاية بيل كلينتون يقترب من نهايته، وكان يبذل جهودا محمومة للتوصل إلى اتفاق نهائي بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك وياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية. فريق كلينتون، شأنه شأن الإدارات السابقة، كان يرى أن حل الدولتين سيمهد الطريق لاتفاق شامل بين إسرائيل والدول العربية يرسخ استقرارا دائما في المنطقة. وفي اجتماعات كامب ديفيد الأخيرة، انغمس كلينتون شخصيا في تفاصيل الخرائط والحدود، متفحصا أحياء وشوارع بعينها في القدس، محاولا صياغة تسوية نهائية بين باراك وعرفات. لاحقا حمّل كلينتون عرفات مسؤولية الفشل، لكن كتابا جديدا لمساعده روبرت مالي يشكك في هذا الحكم.

بيل كلينتون يسعى إلى حل الدولتين

وبينما كان كلينتون يسعى إلى حل الدولتين، كان يمارس ضغوطا على صدام حسين للتعاون مع تحقيقات الأمم المتحدة بشأن برنامج الأسلحة العراقية للدمار الشامل. وقد أطلق بضع ضربات صاروخية، لكنه تجنب أي تدخل بري أميركي في المنطقة. وكما فعل سلفه الرئيس جورج هربرت ووكر بوش، لم يرغب كلينتون في الانخراط في تغيير النظام أو في سياسات العراق الداخلية، بل فضل استخدام الضربات الصاروخية والعقوبات القاسية لانتزاع تعاون بغداد. وبررت وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت العقوبات على العراق، على الرغم من آثارها الكارثية على المدنيين العراقيين، بمن فيهم الأطفال.

بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، شنّ الرئيس جورج دبليو بوش غزواً شاملاً على أفغانستان والعراق. وتُرك العمل على حل الدولتين مؤجلا إلى أجل غير مسمى لصالح الحرب على الإرهاب

في الوقت نفسه، حافظ كلينتون ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت على عداء أميركي طويل الأمد تجاه إيران. وقد نبع هذا العداء من القلق إزاء دعم إيران لـ"حزب الله" والفصائل الفلسطينية الرافضة، إضافة إلى مؤشرات على اهتمام طهران ببرامج أسلحة الدمار الشامل. لذلك عرقل كلينتون صفقة بمليار دولار بين إيران وشركة النفط الأميركية "كونوكو" عام 1995، وهي الصفقة التي كان الرئيس الإيراني آنذاك أكبر هاشمي رفسنجاني يأمل أن تحسن العلاقات الثنائية. وبدلا من ذلك، شددت إدارة كلينتون العقوبات على إيران في إطار سياسة "الاحتواء المزدوج" ضد العراق وإيران معا.

رويترز
الرئيس الأميركي بيل كلينتون متوسطا رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك والرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في كامب ديفيد خلال محادثات السلام في 11 يوليو 2000

لم يكن كلينتون معنيا بدفع الإصلاح السياسي في دول المنطقة. فعندما كنتُ أعمل في السفارة الأميركية بالجزائر بين 1994 و1997 وسط أهوال الحرب الأهلية حيث ارتكب الإرهابيون وقوات الأمن الحكومية فظائع، لم يُثر أي مسؤول رفيع في واشنطن مع المسؤولين الجزائريين مسألة انتهاكات الحكومة. وكان الأمر نفسه مع الحكومات القمعية مثل عراق صدام. ولاحقا، شاركتُ في الفريق الأميركي الذي أدار المبادرة الثنائية الخاصة بين نائب الرئيس آل غور والرئيس المصري حسني مبارك، لكن التركيز الأميركي كان منصبا على تحرير الاقتصاد المصري لا على حقوق الإنسان. فقد كان التصور السائد في واشنطن أن السلام الشامل في المنطقة مقرونا بالنمو الاقتصادي، لا احترام الحقوق المدنية والإنسانية، هو ما سيحقق الاستقرار المنشود.

الحادي عشر من سبتمبر يغيّر كل شيء

بعد الهجمات الإرهابية التي أودت بحياة نحو ثلاثة آلاف شخص في 11 سبتمبر/أيلول 2001، شنّ الرئيس جورج دبليو بوش غزواً شاملاً على أفغانستان والعراق. وتُرك العمل على حل الدولتين مؤجلا إلى أجل غير مسمى لصالح الحرب على الإرهاب. ومن اللافت أن البيت الأبيض لم يكن يمتلك أدلة قوية على تورط صدام حسين مع تنظيم "القاعدة"، لكنه برر الغزو على أساس أن صدام قد يتعاون يوما مع "القاعدة". وثمة حقيقة تستحق التنويه وهي أن اثنين من كبار الدبلوماسيين الأميركيين المتخصصين في الشرق الأوسط، وليام بيرنز ورايان كروكر، تمكنا من إقناع وزير الخارجية كولن باول بمخاطر غزو العراق، غير أن باول لم يتمكن من إقناع بوش. أما النصر السريع الذي توقعه بوش في العراق وأفغانستان بفضل الهيمنة العسكرية الأميركية، فقد كان سرابا.

في بدايات "الربيع العربي"، منح أوباما من المكتب البيضاوي دعما علنيا قويا للمظاهرات، رغم أنه لم يكن ينوي التدخل عسكريا

وعلى نطاق إقليمي أوسع، رأت إدارة بوش أن الإحباط السائد في الشوارع العربية من حكومات قمعية وفاسدة هو مصدر الإرهاب. وفي تحول كبير عن نهج إدارة كلينتون، كثّفت إدارة بوش الضغط السياسي على كثير من الحكومات، بما فيها حلفاء قدامى. ففي عام 2005 ألغت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس زيارة إلى مصر بعدما رفض الرئيس حسني مبارك عقد مؤتمر لحقوق الإنسان في القاهرة واعتقل المعارض السياسي أيمن نور. وفي عام 2002 نشر البيت الأبيض مبادرة الشراكة الشرق أوسطية ضمن إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية، وأوكل إدارتها إلى أحد الموالين للحزب الجمهوري، بهدف تعزيز حقوق الإنسان في المنطقة.

رويترز
جنود أميركيون من الكتيبة الثانية، يستمعون لأوامر رؤسائهم قبل القيام بدورية في بغداد، 14 أغسطس 2007

وعندما عدت إلى الجزائر سفيرا عام 2006، كانت واشنطن، على عكس فترة خدمتي الأولى، مستعدة لإثارة قضايا حقوق الإنسان والحريات المدنية مع السلطات الجزائرية. كما أتاحت المبادرة تدريب عناصر من المجتمع المدني الجزائري، مثل الصحف المستقلة، على إدارة الأعمال والتنظيم. ثم عندما عدت إلى السفارة الأميركية في بغداد عام 2008، بلغت ميزانيتنا المخصصة لتعزيز حقوق الإنسان والمجتمع المدني في العراق سبعين مليون دولار سنويا، وهو مبلغ مذهل. ولكن لسوء الحظ، أُهدر الكثير من المال على مجموعات لم تكن جادة أبدا.

أوباما غيّر سياسة بوش

دخل باراك أوباما البيت الأبيض مصمما على إنهاء الحروب في الشرق الأوسط. فقد انطلق من قناعة أن المنطقة ليست سوى مجتمعات منقسمة ليس في وسع الولايات المتحدة إعادة تشكيلها. وعلى خلاف الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون، لم يُبد أوباما اهتماما بحل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، ولم يقدّم أي دعم لجهود وزير خارجيته الثاني جون كيري في إطلاق مبادرة عام 2013.

رويترز
الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في فلوريدا، في 26 يونيو 2012

في المقابل، رأى أوباما ووزيرة خارجيته الأولى هيلاري كلينتون أن ضعف الحوكمة في المنطقة يرتبط مباشرة بعدم الاستقرار. ففي 12 يناير/كانون الثاني 2011 ألقت كلينتون خطابا حادا في الدوحة انتقدت فيه فسادا حكوميا وقمعا، وذلك غداة فرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، وقبل شهر من إطاحة الجيش المصري بالرئيس حسني مبارك وسط اضطرابات القاهرة. وفي بدايات "الربيع العربي"، منح أوباما من المكتب البيضاوي دعما علنيا قويا للمظاهرات، رغم أنه لم يكن ينوي التدخل عسكريا. وبعد سنوات، جادلته في المكتب البيضاوي حول جدوى أن يطالب الرئيس الأميركي علنا زعيما بالتنحي إذا لم يكن ينوي التدخل، محذرا من أن تجاهل الزعيم لمثل هذا المطلب سيُظهر الرئيس ضعيفا ويمنح المعارضة المحلية آمالا زائفة. لكن أوباما أصر على أن الرئيس الأميركي يجب أن يطالب باحترام حقوق الإنسان علنا من دون التزام بالتدخل. ففي يناير/كانون الثاني 2011 دعا مبارك إلى الرحيل، سوى أن الذي أطاح به كان الشارع المصري والجيش المصري، لا واشنطن.

يحبّ ترمب الاعتماد على قوات العمليات الخاصة الأميركية الصغيرة، لكنه يتجنب خوض حرب برية جديدة واسعة في الشرق الأوسط

وحين امتد "الربيع العربي" إلى ليبيا، قبل أوباما على مضض دورا لوجستيا واستخباراتيا لدعم التدخل الدولي ضد معمر القذافي في مارس/آذار 2011. وقد علّق أحد مسؤولي إدارته بأن أميركا كانت تقود الأوروبيين وحلفاء عربا من الخلف. وأخبرتني هيلاري كلينتون عام 2012 أن الخبراء العسكريين توقعوا انهيار الجيش الليبي خلال أسابيع، لكن الحملة استمرت سبعة أشهر حتى قُتل القذافي على يد المتمردين. وقد أدت القراءة الخاطئة للوضع الليبي، وذكريات حرب العراق، وغياب الدعم السياسي الداخلي لأي تدخل ضد بشار الأسد، إلى إحجام أوباما عن الدفاع عن الخط الأحمر الذي رسمه ضد استخدام الأسد للأسلحة الكيماوية عام 2013.

رويترز
غروب الشمس فوق شمال غزة، كما تُرى من الجانب الإسرائيلي من الحدود، في 28 يوليو 2025

لم يُبد أوباما استعدادا للتدخل بقوة إلا في مواجهة تنظيم "داعش". ولكن من المفيد التذكير بأن تدخلا سياسيا أميركيا خاطئا كان قد ساعد التنظيم في بداياته. فقد قرر نائب الرئيس جو بايدن أن تدعم واشنطن بقوة ولاية جديدة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بعد انتخابات 2010، لأن بايدن ومستشاريه اعتقدوا أن المالكي وحده قادر على تشكيل حكومة بسرعة، بما يضمن الاستقرار ويتيح التفاوض مع واشنطن حول مستقبل القوات الأميركية في العراق. لكن تجديد المالكي قمعه للمجتمعات السنية في العراق ساعد "داعش" على تجنيد عناصره حتى اجتاح غرب العراق وشرق سوريا بين 2013 و2014. وزادت هجمات باريس وبروكسل بين 2014 و2016 من القلق في واشنطن والعواصم الأوروبية. وعلى خلاف ليبيا، كان أوباما مستعدا لقيادة تحالف دولي ضد "داعش" من المقدمة.

بعد أربع سنوات من خطاب كلينتون في الدوحة ومن قيادة واشنطن من الخلف في ليبيا، أضحى أوباما أكثر ميلاً إلى التعاون مع أنظمة سلطوية، وتوقفت المطالب الجدية بالإصلاح من جانب واشنطن. ومع ذلك، ظل أوباما مترددا في استخدام قوات برية كبيرة. وبدلا من ذلك، اعتمد الأميركيون على ميليشيا يقودها الأكراد في سوريا، وعلى تنسيق غير مباشر مع ميليشيات شيعية في العراق. وقد قاد ذلك التعاون مباشرة إلى تعقيدات سياسية وأمنية لاحقة في كلا البلدين.

سياسة ترمب تعيد تشكيل مقاربة كلينتون

يحبّ ترمب الاعتماد على قوات العمليات الخاصة الأميركية الصغيرة، لكنه يتجنب خوض حرب برية جديدة واسعة في الشرق الأوسط. وفي هذا يشبه كلينتون وأوباما وبايدن. ضرباته ضد أهداف نووية إيرانية في يونيو/حزيران الماضي كانت قوية وسريعة، ثم سرعان ما أعلن استعداده للعودة إلى المفاوضات. يعتقد ترمب أن ميزان القوى العسكري حين يميل ضد دولة ضعيفة سيدفعها إلى تقديم تنازلات كبيرة لضمان اتفاق. هذا التصور ينطبق على أوكرانيا كما على إيران في الملف النووي. غير أن ما لا يدركه ترمب هو أن الطرف الأضعف قد يختار الانتظار، بحثا عن دعم خارجي أو ترقبا لضعف خصومه. ما لم يسقط النظام في إيران، فلن يحصل ترمب على اتفاق نووي معها، ولا على جائزة نوبل التي يتوق إليها.

تحت إدارة ترمب، استأنفت واشنطن العمل على إيجاد اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن جهوده اقتصرت على غزة. لا توجد مؤشرات على إيمانه بحل الدولتين

في الوقت نفسه، يسعى ترمب بحماسة إلى إبرام صفقات تجارية مع دول المنطقة، خصوصا في الخليج. مبادراته الخاصة ورؤيته لمصالح تجارية مشتركة حلّت محل برامج اقتصادية مثل مبادرة غور-مبارك التي ركزت على التنمية.

 التركيز على الأرباح التجارية أزاح حتى الدعم اللفظي لحقوق الإنسان في العالم. ففي عام 2019 وصف ترمب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنه الرئيس المفضل، وهو تصريح لم يكن ليصدر عن جورج بوش أو أوباما أو بايدن.

رويترز
ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترمب في صورة مع عدد من الحضور خلال منتدى الاستثمار الأميركي- السعودي في واشنطن، الولايات المتحدة الأميركية، في 19 نوفمبر 2025

وفي مؤتمر بالرياض العام الماضي، قال ترمب إن التقدم في المنطقة جاء من شعوبها، لا من تدخلات الغرب وبنّائي الدول والمحافظين الجدد الأميركيين.

وتحت إدارة ترمب، استأنفت واشنطن العمل على إيجاد اتفاق سلام بين إسرائيل والفلسطينيين، لكن جهوده اقتصرت على غزة. لا توجد مؤشرات على إيمانه بحل الدولتين. بل يأمل أن يؤدي وقف إطلاق النار في غزة، وخطوات صغيرة نحو إدارة فلسطينية تحت إشراف خارجي، إلى جانب تطوير تجاري أجنبي هناك، إلى إقناع دول عربية بالانضمام إلى "اتفاقات أبراهام" وتطبيع العلاقات مع إسرائيل. يفترض ترمب خطأ أن دولا عربية أخرى، خصوصا الخليجية، ستتبع السعودية بسرعة، مانحة إياه جائزة نوبل. لكن إسرائيل، بعد عقود من الدعم المالي والعسكري الأميركي، باتت القوة العسكرية المهيمنة في المنطقة، ولا ترى أي حافز للتنازل عن الأرض مقابل السلام كما كان الحال عام 1979. وهناك مؤشرات على أن بعض الدول العربية تخشى التهديدات العسكرية الإسرائيلية بقدر خشيتها من إيران. ومع ذلك، يراهن ترمب وفريقه على أن  دولا عربية ستقبل تنازلات عربية في الأرض مقابل التطبيع مع إسرائيل. ذلك مجرد أمل، وليس تحليلا مدروسا.

font change

مقالات ذات صلة