السودان... حين تصبح تسمية القاتل أولى خطوات النجاة

خطاب الوسطاء في الأزمة السودانية لا يزال مشوشا

أ.ف.ب
أ.ف.ب
نازحون سودانيون فروا من الفاشر بعد سقوطها في أيدي قوات الدعم السريع، إلى بلدة طويلة في إقليم دارفور غربي السودان الذي مزقته الحرب في 28 أكتوبر 2025

السودان... حين تصبح تسمية القاتل أولى خطوات النجاة

في لحظات الاختبارات الوطنية الكبرى، تصبح الأسئلة الأخلاقية أكثر حدة من البيانات السياسية. وفي السودان اليوم، وسط دخان الحرب الكثيف، يطلّ السؤال الأكثر جوهرية في كل نزاع مسلح ليصبح جوهر البحث عن مداخل لحلول الأزمة: سؤال حماية المدنيين من غوائل الحرب.

هذا السؤال، البسيط في ظاهره، هو في الحقيقة مفتاح الحل لكل ما يحدث. إذ إن الدافع الأساسي للمطالبة بإيقاف الحرب هي عواقبها الكارثية على السودانيين والتي حولت السودان إلى أكبر كارثة إنسانية في وقتنا المعاصر. حوالي 14 مليونا تشردوا من ديارهم داخل وخارج السودان، مئات الآلاف من القتلى الذين فقدوا حياتهم، وأرقام كارثية لضحايا العنف الجنسي والاغتصاب والتعذيب والاختفاء القسري بالإضافة إلى دمار غير مسبوق في البنية التحتية والمنشآت المدنية.

ولكن لا يمكن الحديث بشكل جاد وحقيقي عن حماية المدنيين ما لم نحدد الجهة التي تهددهم فعلياً وتحديد ممن ومن ماذا يجب حمايتهم، وما لم نعترف بأن بعض الأطراف التي ترفع شعار الحماية هي ذاتها مصدر الخطر. وبالرغم من أن البوصلة البسيطة لحركة المواطنين فراراً من مناطق سيطرة ميليشيا "الدعم السريع" إلى مناطق سيطرة الجيش الحكومي توفر إجابة مباشرة على هذا السوال، فإن خطاب الوسطاء في الأزمة السودانية لا يزال ملتبسا حول هذه القضية.

تُظهر التجارب التاريخية، من سيراليون إلى ليبيا، أن وجود المقاتلين الأجانب والمرتزقة في النزاعات الداخلية يفتح الباب أمام أنماط العنف الأكثر توحشاً وانفلاتاً

ويزيد من تعقيدات مسألة حماية المدنيين في السودان، توارد المقاتلين الأجانب والمرتزقة إلى صفوف ميليشيا "الدعم السريع" بتسهيلات وتعاقدات قامت بها شركات أجنبية  عبر وسطاء لتوريد مرتزقة من كولومبيا للقتال في صفوف ميليشيا "الدعم السريع".

تُظهر التجارب التاريخية، من سيراليون إلى ليبيا، أن وجود المقاتلين الأجانب والمرتزقة في النزاعات الداخلية يفتح الباب أمام أنماط العنف الأكثر توحشاً وانفلاتاً. فالمقاتل الذي لا يحمل انتماءً للمجتمع الذي يقاتل فيه، لا تحكمه كوابح الضمير الجمعي ولا يخشى عواقب ما يفعله على مستقبله أو مكانته الاجتماعية. حين يغيب هذا الانتماء، تكون الجريمة بلا وصمة ويتحول العنف إلى ممارسة بلا ذاكرة، والانتهاك إلى فعل بلا كلفة سياسية أو اجتماعية. ومن هنا تبدأ كارثة غياب أي حس بالمسؤولية تجاه الإنسان المحلي.

AFP
عناصر من "قوات الدعم السريع" في السودان

لكن العنف الذي يحدث في السودان يقدم حالة أكثر تعقيداً من وجود المرتزقة. فالعنف هنا ليس بلا انتماء، بل هو مؤدلج بطابع فاشي ومشحون بخطاب تفوق عرقي متوارث منذ سنوات الجنجويد الأولى. فميليشيا "الدعم السريع" ليست جيشًا نظاميًا منفلت الانضباط، بل هي تنظيم فاشي مشبّع بفكرة تفوق جماعة على أخرى، وبقناعة عميقة بأن القتل والترويع وسيلتان لإخضاع الآخر، وليس جريمة مُدانة. وهذا ما يجعل سلوكها في الميدان يتجاوز الانفلات الفردي إلى منهجية العنف كأيديولوجيا.

نسخ متطابقة من مأساة واحدة

من الجنينة إلى الخرطوم، ومن الجزيرة إلى الفاشر، تكررت المشاهد نفسها كأنها نسخ متطابقة من مأساة واحدة: قرى تُحرق، نساء يُغتصبن، مدنيون يُقتلون بدم بارد. لا تبدو هذه الأفعال عشوائية، بل منسوجة بخيط واحد من الكراهية المنظمة. ما حدث في الجنينة في مايو/أيار ويونيو/حزيرن 2023 ضد مجتمع المساليت لم يكن مجرد تجاوز ميداني، بل جريمة إبادة جماعية ذات منطلقات عنصرية واضحة. وما جرى في الفاشر عند دخول ميليشيا "الدعم السريع" في أكتوبر/تشرين الأول 202 يثبت أن هذا العنف ليس استثناءً بل قاعدة. بالأساس يقوم خطاب ميليشيا "الدعم السريع" على التحشيد الإثني ضد الآخر المختلف، وتبرير العنف والانتهاكات ضده، سواء في الخرطوم أو في الجزيرة أو في دارفور أو كردفان.

أ.ب
المنطقة المحيطة بمقر الفرقة السادسة للجيش السوداني في الفاشر، السودان، في 26 أكتوبر 2025

إن أخطر ما يحيط بهذه الجرائم ليس فقط فظاعتها، بل الغطاء السياسي والدبلوماسي الذي يحول دون مساءلتها ويسمح بمواصلة ارتكابها تحت ستار من الحصانة المؤسسية. فحين يختار المجتمع الدولي الصمت أو الغموض في توصيف الجريمة، يتحول إلى شريك ضمني في استمرارها. مثال ذلك ما حدث في تغريدة السفير الأميركي جون غودفري في الأيام الأولى للحرب، حين أشار إلى حوادث الاغتصاب والعنف الجنسي باعتبارها انتهاكات مرتكبة بواسطة "أطراف مسلحة غير محددة"، رغم أن كل التقارير كانت تشير بوضوح إلى تورط ميليشيا "الدعم السريع" في العنف الجنسي والنهب الممنهج. هذه اللغة الملتبسة ليست مجرد خطأ في التعبير، بل هي تواطؤ بلغة القانون، لأنها تمنح الجناة شعورًا بالأمان لأنه لا أحد يقوم بتسميتهم وتحميلهم مسؤولية هذه الجرائم.

وهكذا، حين تغيب الإشارة الواضحة للطرف السياسي المتورط في الانتهاكات، يغيب الردع. وتختفي المسؤولية خلف الرسائل الموجهة إلى كافة الأطراف، وتتكرر الجرائم كأنها قدر لا فاعل له. فالإفلات من العقاب لا يكتفي بتشجيع الجناة، بل يُنتج ثقافة كاملة من تطبيع العنف، حيث يتحول القتل والاغتصاب والنهب إلى أدوات تفاوض ضمنية في لعبة السلطة.

ما جرى في الفاشر عند دخول ميليشيا "الدعم السريع" في أكتوبر 2025 يثبت أن هذا العنف ليس استثناءً بل قاعدة

في الفاشر، تَجسّد هذا التطبيع بأبشع صوره. فالمدينة التي ظلت محاصرة 18 شهراً تحت حماية الجيش النظامي، شهدت، بمجرد دخول ميليشيا "الدعم السريع"، واحدة من أبشع المذابح. في المستشفى السعودي وحده، قُتل أكثر من 460 مدنيًا كانوا يتلقون العلاج، لا لأنهم مقاتلون، بل لأنهم موجودون في المكان الخطأ حين دخل السلاح الخطأ. لا يمكن الحديث عن طرفي حرب يرتكبان الانتهاكات هنا. لا يمكن مساواة السلاح الذي حمى المدنيين بالسلاح الذي ذبحهم على أسِرّة المرض.

وهذا يقود إلى جوهر النقاش: حماية المدنيين ليست تجريدا عموميا أو فكريا يمكن التلاعب به باللغة والكلمات المنمقة بل هو مطلب مادي مباشر يعتمد على تحديد مصدر الخطر على المدنيين والجهة التي تمارس العنف ضدهم. وفي السودان اليوم، لا لبس في أن الخطر الأكبر يأتي من ميليشيا "الدعم السريع" وهي التي ارتكبت المجازر ضدهم مرارا وتكرارا. فبحسب الإحصاءات الموثقة، تتحمل هذه الميليشيا نحو80  في المئة من الانتهاكات ضد المدنيين منذ اندلاع الحرب. وبالتالي فإن أي حديث عن حماية المدنيين دون تحديد آليات واضحة للتعامل مع هذه الميليشيا هو تحايل لغوي يطمس الحقيقة لصالح التوازن السياسي.

ومن هنا يصبح أول شروط حماية المدنيين ليس وقف إطلاق النار، بل خروج ميليشيا "الدعم السريع" من المناطق المدنية. فبقاء الميليشيا داخل الأحياء والمناطق السكنية لا يعني سوى استمرار الخطر على السكان، وتحويل المدنيين إلى رهائن في يد ميليشيا ليست ذات أي التزام أخلاقي.

أ ف ب
امرأة سودانية تحمل لافتة كُتب عليها باللغة العربية "#أنقذوا_الفاشر" خلال احتجاج منظم ضد انتهاكات قوات "الدعم السريع" بحق أهالي الفاشر، في مدينة القضارف شرقي السودان، في 6 نوفمبر 2025

لكن الأخطر من بقاء الميليشيا هو محاولة بعض القوى السياسية والدولية تقنين سيطرتها على المناطق المدنية التي أحتلتها بالقوة. هذا المسار لا يصنع سلاماً، بل يحاول التطبيع مع الجريمة وفرض نتائجها كأمر مقبول. وهو أشبه بتسليم الضحايا للجلادين مقابل وعد زائف بالاستقرار. إن من يقبل بهذا المنطق لا يبحث عن سلام، بل يسعى لأن يصبح قتل الضحايا صامتاً من دون ضجة.

الحماية الحقيقية تبدأ بالعدالة وبإبعاد السفاحين عن أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة وليس بتركهم تحت سيطرتهم. حين تُسمّى الجريمة باسمها، ويُسمّى مرتكبها بصفته، يبدأ الطريق نحو سلام حقيقي. أما محاولات ادعاء الحياد السياسي بين أطراف مختلفة، فهي الشكل الأنيق من التواطؤ الأخلاقي مع المجرمين.

إن ما يعيشه السودان اليوم ليس مجرد حرب على السلطة، بل امتحان للقيم الإنسانية ذاتها: هل يمكن للعالم أن يقف ضد الفاشية حين ترتدي عباءة محلية؟ وهل يملك الشجاعة لتسمية من يقتل السودانيين دون مواربة؟ أم إن العالم سيستمر في السماح لهذه الميليشيا بالتمدد ومواصلة ارتكاب المجازر تحت مظلة ادعاءاتها.

font change

مقالات ذات صلة