سوريا: موازنة 2024 تعكس عمق الأزمة الاقتصادية

خفض الدعم كان له آثار اجتماعية خطيرة ... و90% من السكان تحت خط الفقر اليوم

AFP
AFP
سائقو سيارات الأجرة يدفعون سياراتهم التي نفد وقودها إلى محطة بنزين في العاصمة السورية دمشق في 16 أبريل 2019.

سوريا: موازنة 2024 تعكس عمق الأزمة الاقتصادية

أقرّ مجلس الوزراء السوري في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مشروع موازنة الدولة لسنة 2024 بقيمة 35.5 تريليون ليرة سورية. وشكّل ذلك زيادة كبيرة للغاية في القيمة الاسمية (من دون إجراء تعديل مراعاة للتضخّم) على موازنتي 2022 و2023 بقيمة 16.550 تريليون ليرة سورية و13.325 تريليون ليرة سورية على التوالي.

وترتبط الزيادة الهائلة في القيمة الاسمية للموازنة بالانخفاض الكبير في قيمة العملة الوطنية السورية، التي انخفضت ما يزيد على 315 في المئة منذ بداية السنة. أما القيمة الحقيقية ( بالدولار الأميركي)، فقد تراجعت قيمة مشروع موازنة 2024 من 5.52 مليارات دولار أميركي في سنة 2023 إلى 3.1 مليارات دولار أميركي في سنة 2024، على أساس سعر الصرف الرسمي البالغ 11,557 لبرة سورية للدولار الواحد عند الإعلان عن الموازنة. ويشكّل ذلك انخفاضاً بنسبة 45 في المئة في عام واحد.

هيكل الموازنة الفارغ

مع أن مشروع الموازنة لا يكشف عن كل تفاصيل الاعتمادات المخصّصة، فإنه يمكن تحليل التوجّهات الأساسية. أولاً، تنقسم الموازنة إلى 26.5 تريليون ليرة سورية (ما يعادل 2.3 مليار بسعر الصرف الرسمي 11,557 ليرة سورية لكل دولار أميركي) للنفقات الجارية، و9 تريليونات ليرة سورية (ما يعادل نحو 0.8 مليار دولار) للنفقات الاستثمارية.

ومقارنة بموازنة سنة 2023، ارتفع الإنفاق الجاري والاستثماري بالقيمة الاسمية بنسبة 96 في المئة و200 في المئة على التوالي في مشروع موازنة 2024. وارتفعت حصّة الإنفاق الاستثماري من إجمالي الموازنة مقارنة بالسنوات السابقة، من 15 في المئة و18 في المئة في سنتي 2022 و 2023 على التوالي إلى 25 في المئة في سنة 2024. وذلك يشير إلى مزيد من استثمارات الدولة في الاقتصاد، لكن لا توجد معلومات متاحة حتى الآن عن مرحلة التنفيذ. كما أن الاستثمارات الفعلية والحقيقية ظلت على العموم أقل بكثير من المبالغ المدرجة في الموازنة منذ سنة 2011.

تقدّر إيرادات السنة المقبلة بـ 26 تريليون ليرة سورية (أي أقل من 2,25 مليار دولار) منها 15 تريليون ليرة سورية من الإيرادات الجارية (ضرائب ورسوم وغيرها)

وتبلغ مخصّصات الدعم الاجتماعي في موازنة العام المقبل 6.2 تريليونات ليرة سورية (ما يعادل 540 مليون دولار)، منها 2 تريليون ليرة لدعم المشتقّات النفطية، و103 مليارات ليرة للخميرة، و75 مليار ليرة لدعم المناطق المتضرّرة بالزلزال، و50 مليار ليرة سورية للصندوق الوطني للمعونة الاجتماعية (برامج دعم المتقاعدين العسكريين والنساء والشركات الصغيرة)، و75 مليار ليرة سورية للانتقال إلى الري الحديث، و75 مليار ليرة أخرى لصندوق دعم الإنتاج الزراعي، و7 مليارات ليرة سورية لصندوق التخفيف من آثار الجفاف والكوارث الطبيعية على الإنتاج الزراعي. ومع ارتفاع مخصّصات الدعم الاجتماعي قليلاً بالقيمة الاسمية مقارنة بسنة 2023، فإن قيمتها الحقيقية تراجعت بشكل ملحوظ من 1.64 مليار دولار أميركي (بسعر الصرف الرسمي البالغ 3015 ليرة سورية آنذاك) في موازنة 2023 إلى 0.54 مليار دولار أميركي، وهو ما يمثّل انخفاضاً حاداً بنسبة 67 في المئة.

AFP
النقل المشترك في وضع مزري

فيما يتعلق بالإيرادات، صرّح وزير المالية السوري كنان ياغي بأن إيرادات السنة المقبلة تقدّر بـ 26 تريليون ليرة سورية (أي أقل بقليل من 2.25 مليار دولار) منها 15 تريليون ليرة سورية من الإيرادات الجارية (ضرائب ورسوم وغيرها)، و11 تريليون ليرة سورية إيرادات استثمارية، أي إيرادات نشاط شركات القطاع العام. وتلك زيادة كبيرة بالقيمة الاسمية مقارنة بتوقّعات إيرادات العام الماضي البالغة 11.69 تريليون ليرة سورية (ما يعادل 3.9 مليار بسعر الصرف الرسمي في هذه الفترة). وربما تكون هذه الزيادة مرتبطة بارتفاع الرسوم والضرائب في مختلف القطاعات، بما في ذلك على سبيل المثال القانون رقم 19 الذي أصدره بشار الأسد في 29 أكتوبر 2023 والذي يقضي برفع رسوم الخدمات القنصلية ورسوم الأعمال بنسبة تصل إلى 100في المئة.

أخيراً، يتوقّع أن يرتفع العجز من 4.86 تريليونات ليرة سورية (ما يعادل 1.62 مليار دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي في هذه الفترة) إلى 9.5 تريليونات ليرة سورية (ما يعادل 800 مليون دولار أميركي). ويمثّل ذلك انخفاضاً بالقيمة الحقيقية بنحو 51 في المئة. وفي السنوات السابقة، كان من المتوقّع تمويل العجز نقداً من الاحتياطيات، التي تمثّل في الغالب الأموال التي طبعها مصرف سوريا المركزي، والقروض المحلية من خلال سندات الخزينة والقروض الخارجية. ولم تقدّم الموازنات السابقة أي تفاصيل حول تركيبة هذا البند.

مع أن الموازنة شهدت ارتفاعاً مستمراً بالعملة الوطنية بين سنتي 2012 و2024 فإن قيمتها بالدولار الأميركي شهدت انخفاضاً كبيراً من 24,1 مليار دولار أميركي إلى 3,1 مليارات دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي

انخفاض قيمة الموازنة بالدولار

مع أن الموازنة شهدت ارتفاعاً مستمراً بالعملة الوطنية بين سنتي 2012 و2024من 1.326 تريليون ليرة سورية إلى 35.55 تريليون ليرة سورية، فإن قيمتها بالدولار الأميركيشهدت انخفاضاً كبيراً من 24.1 مليار دولار أميركي إلى 3.1 مليارات دولار أميركي بسعر الصرف الرسمي في السوق الذي حدّده مصرف سوريا المركزي. ويظهر مشروع الموازنة الحالي استمرار بعض الديناميكيات والأنماط المتعلّقة بالموازنات السابقة. 

في أعقاب الانتفاضة في مارس 2011، شكل الإنفاق الجاري القسم الأكبر من النفقات، في حين لم يمثّل الاستثمار سوى حصة صغيرة جداً. ويصرف مجمل مخصّصات الحكومة تقريباً (من حيث النفقات المخطّطة) على إدارة مؤسسات الدولة وتشغيلها؛ وصندوق الدين العام؛ والأجور والتعويضات؛ ودعم مختلف المنتجات.

شكّل صندوق الدين العام أهم مخصّصات موازنة 2023 إذ بلغت نحو 30في المئة من إجمالي المخصّصات. ويضطلع الصندوق على العموم بمنح القروض للجهات العامة التابعة للدولة لتمويل مشاريعها الاستثمارية. وقد خصّصت خدمات صندوق الدين العام في الموازنات المتعاقبة (جزئياً أو كلياً) بشكل رئيسي للمشاريع الاقتصادية والمؤسسات ذات الصلة بالمياه الصالحة للشرب والصرف الصحي في كل محافظة، وغيرها من المؤسسات الرسمية. غير أن المبالغ المشار إليها على العموم في مختلف قطاعات الموازنات السابقة لهذه البنود لم تتوافق مع المبلغ الإجمالي المعلن لملف صندوق الدين العام في الموازنة الإجمالية. وتفسير هذا الاختلاف على الأرجح أن المبلغ غير المحدّد للصندوق في الموازنة قد زاد كثيراً لأنه يغطي منذ سنة 2018 نفقات وزارة الدفاع ورئاسة الجمهورية في قوانين الموازنة السنوية. وكانت وزارة الدفاع ورئاسة الجمهورية تحدّد بوضوح في بنود منفصلة في الموازنة حتى سنة 2017. وبين سنتي 2017 و2023، شهدت الأموال المخصّصة لصندوق الدين العام في الموازنات السورية زيادة كبيرة، إذ تجاوزت الزيادة 2300%. وما تزال مخصّصات صندوق الدين العام في مشروع موازنة 2024 غير معروفة.

AFP
أحد مطاعم العاصمة دمشق في 10 أبريل 2012.

انخفاض الدعم الاجتماعي والنفطي

وانخفضت حصّة الدعم الاجتماعي في الموازنة إلى 18في المئة في مشروع موازنة 2024 مقارنة بموازنة 2023 التي شكلت فيها 29.6 في المئة من إجمالي المخصّصات. وعلى نحو ذلك، انخفض دعم المشتقّات النفطية من 3 تريليونات ليرة سورية إلى 2 تريليون ليرة سورية (وهو ما يمثّل انخفاضاً بالقيمة الحقيقية من 1 مليار دولار إلى 0.17 دولار بناء على الأسعار الرسمية في كلتا الفترتين). ويشكّل دعم المشتقّات النفطية، وخاصة زيت الوقود وزيت الغاز، حصّة كبيرة من الموازنة العامة للدولة منذ مدة طويلة قبل سنة 2011: ففي سنة 2010، أنفق 15.5في المئة على دعم المشتقّات النفطية (117 مليار ليرة سورية، أو 2.46 دولار أميركي في ذلك الوقت). ومع انخفاض استهلاك المشتقّات النفطية نسبياً منذ سنة 2011، بسبب النزاع والأزمة الاقتصادية، فإن حصّة دعم المشتقّات النفطية ظلت تمثّل 18.1في المئة من إجمالي الموازنة في سنة 2023. غير أن حصّتها النسبية من إجمالي الموازنة بلغت 5.6% فحسب في مشروع موازنة سنة 2024. وكما ذكرنا في مقالة سابقة، فإن ذلك يدل على استمرار الإجراءات التقشّفية التي تستهدف دعم المنتجات الأساسية مثل المشتقّات النفطية والخبز. وانخفض إجمالي الدعم في الموازنة السورية بالقيمة الحقيقية من 5.3 مليارات دولار في سنة 2011 إلى 540 مليون دولار في سنة 2024.

اقرأ أيضا: سوريا: بلاد الحروب الكثيرة والنُخب الغافلة

وفي الأعوام القليلة الماضية، ارتفعت أسعار المشتقّات النفطية المدعومة (وغير المدعومة) مراراً وتكراراً. وتهدف الحكومة بهذه التدابير إلى خفض الدعم، ومعه النفقات العامة المخططة. وبالإضافة إلى ذلك، شهدت كمية المشتقّات النفطية المدعومة المخصّصة للأفراد على البطاقة الذكية انخفاضاً متزايداً.

ارتفعت سلة الغذاء المرجعية القياسية لشهر سبتمبر 2023 بنسبة 100 في المئة منذ يناير 2023، وتضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالسنة السابقة، لتصل إلى 938,000 ليرة سورية (ما يعادل 81 دولارا أميركيا)

تقرير برنامج الغذاء العالمي

تجدر الإشارة إلى أن الرغبة في خفض الدعم والتدابير المتخذة لتحقيق ذلك بدأت قبل سنة 2011، خصوصا فيما يتعلّق بالمشتقات النفطية. وفي هذا الإطار، استُخدمت حجج عديدة ضد دعم المشتقّات النفطية: أنها تشكّل عبئاً مفرطاً على موازنة الدولة؛ ولا تستفيد منها الطبقات الاجتماعية الأكثر حرماناً في المجتمع؛ وأنها تشجّع تهريب الديزل من سوريا إلى الدول المجاورة؛ وأنها تضرّ بالبيئة. تستنزف احتياطيات المياه. وقد طُرحت تعويضات عن تخفيض الدعم ونُفّذت في بعض الأحيان، مثل المعونة النقدية المباشرة للمزارعين وزيادة الرواتب. وفي نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أعلن المسؤولون السوريون، في مناسبات عدة، أن معظم منتجات الطاقة، وخصوصا المشتقّات النفطية، ستباع بسعر السوق بحلول سنة 2015. وانسجاماً مع هذه السياسات، رفعت الحكومة أسعار المنتجات النفطية (والأسمدة) في سنتي 2008 و2009. وأدى اندلاع الصراع في سنة 2011 إلى إبطاء هذه العملية. غير أن المسؤولين أخذوا يعلّلون قفزات الأسعار وتوزيع الحصص على الأفراد والقطاعات الاقتصادية (الخاصة والعامة) بظروف الحرب ونقص النفط. 

إن منح العلاوات لموظفي الدولة والمتقاعدين وزيادة الرواتب لم يعوّض عن خفض الدعم. كما كان له آثار اقتصادية واجتماعية خطيرة على السكان. فارتفاع أسعار المشتقّات النفطية على يؤثّر على جميع مستويات هيكل الإنتاج، بما في ذلك أجور العمال، ورسوم النقل، والمولدّات، والحياة اليومية للسكان على العموم. وعلى سبيل المثال، يؤثّر ارتفاع أسعار المشتقات النفطية سلباً على المشاريع الزراعية والصناعية برفع تكاليف الإنتاج.

سلة الغذاء ارتفعت 100% في 9 أشهر

شهدت تكلفة المعيشة ارتفاعاً كبيراً منذ بداية العام، لا سيما نتيجة لخفض الدعم. فقد ارتفعت سلة الغذاء المرجعية القياسية لشهر سبتمبر 2023 بنسبة 100في المئة  منذ يناير 2023، وتضاعفت ثلاث مرات مقارنة بالسنة السابقة، لتصل إلى 938,000 ليرة سورية (ما يعادل 81 دولارا أميركيا). وكما ذكر تقرير برنامج الغذاء العالمي، إلى جانب انخفاض قيمة العملة الوطنية السورية، فإن "تخفيضات دعم الوقود في الأشهر الأخيرة أدت إلى مزيد من الضغوط التضخّمية على تكلفة السلة".

ويضيف التقرير أن تكلفة المعيشة "تضاعفت تقريبا في الأشهر التسعة الأولى من سنة 2023، وزادت أربعة أضعاف في عامين". على سبيل المثال، وصل سعر ديزل التدفئة في السوق غير الرسمية إلى مستوى قياسي جديد في سبتمبر 2023، بعد التخفيضات الكبيرة في دعم الوقود. وبلغ سعر السلعة 11,797 ليرة سورية للتر الواحد، مرتفعاً بنسبة 29 في المئة عن الشهر السابق، وتضاعف منذ بداية السنة.

AFP
أحد أسواق العاصمة دمشق في 19 مايو 2019، خلال شهر رمضان المبارك.

هزال الدولة وتضاؤل المساعدات

تعكس ديناميكية مشروع موازنة سنة 2024 الضعف المستمر للدولة السورية وقدراتها الاقتصادية، بالإضافة إلى التدهور المستمر لاقتصاد البلاد. وفي ظل عدم تحقيق إيرادات كبيرة نتيجة الحرب؛ لا سيما في قطاعي النفط والغاز والسياحة، عمدت الحكومة السورية باستمرار إلى خفض فاتورة الدعم في محاولة لتحقيق استقرار الليرة السورية، وزيادة إيرادات الدولة، وخفض النفقات الحكومية المخططة، ومراكمة العملات الأجنبية. غير أن ذلك فشل فشلاً ذريعاً حتى اليوم، في حين انعكس سلباً على الطبقات الشعبية السورية. ويعيش أكثر من 90 في المئة من السكان تحت خط الفقر اليوم.

اقرأ أيضا: الاقتصاد العربي بين الحرب والسلام

من المرجّح وفي الواقع أن يستمر الرفع التدريجي لدعم المشتقات النفطية، والسلع الأخرى أيضاً. وقد أدّت التدابير الرامية إلى تقليص الدعم أو إنهائه على العموم إلى تعميق الصعوبات والتحدّيات الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها السكان، وخاصة إذا لم تكن مصحوبة بتعويضات حيوية. وفي غياب أي انتعاش اقتصادي، ستواجه قطاعات كبيرة من المجتمع، التي تعاني من الفقر والبطالة، صعوبات أكبر في دفع ثمن تحويل التكاليف من الدولة إلى السكان، في حين سيزداد الاعتماد على المساعدات الإنسانية، التي تتضاءل، والتحويلات المالية التي يرسلها المغتربون.

font change

مقالات ذات صلة