قطاع التكنولوجيا في غزة نافذة أمل للمستقبل

الدمار الرهيب لم ينل من عزيمة الشركات الناشئة الفلسطينية

قطاع التكنولوجيا في غزة نافذة أمل للمستقبل

بعد أسبوع واحد من اندلاع الحرب بين "حماس" وإسرائيل، بدأت في الظهور عناوين رئيسة على مواقع إلكترونية دولية متخصصة في الأعمال والتكنولوجيا تشير إلى التأثير الضار للحرب في ريادة الأعمال بقطاع التكنولوجيا الفلسطيني. "صناعة التكنولوجيا المتنامية في فلسطين تتحطم حرفياً بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس"؛ "اقتصاد التكنولوجيا في غزة يتعثر بسبب الحرب بين إسرائيل وحماس"؛ "ودّعوا صناعة التكنولوجيا الناشئة في فلسطين"؛ "البيئة الحاضنة للشركات الناشئة مثلت في فلسطين أملاً اقتصادياً لكن الحرب تفتتها".

هذه بعض العناوين الرئيسة التي تنشرها المواقع الإلكترونية الخاصة بـ"فوربس" و"بزنس إنسايدر" وغيرهما منذ أكتوبر/تشرين الأول. ما من أحد ينكر أن الحرب تخلف أثراً كارثياً في اقتصاد غزة وفي صناعة التكنولوجيا هناك. لكن على عكس ما قد توحي به عناوين كهذه، ليست الحرب نهاية ريادة الأعمال الفلسطينية في مجالات كثيرة، بما في ذلك صناعة التكنولوجيا. لا يزال القطاع مرناً، وتُبذَل بالفعل جهود نشطة للمساعدة في الحفاظ عليه، وهو يستحق التقدير والاستثمار.

تُعَدّ صناعة التكنولوجيا إحدى الطرق التي يتمكن بها العاملون المهرة في الضفة الغربية وقطاع غزة من كسب لقمة العيش، في سياق تخضع فيه الفرص الاقتصادية للقيود بسبب الاحتلال الإسرائيلي. تتطلب أنشطة مثل التصنيع، توافر مبانٍ لإيواء المساحات اللازمة للعمل والآلات التي تكون في الغالب باهظة الثمن، وتتطلب أيضاً تمتع العاملين بحرية الانتقال من منازلهم إلى أمكنة العمل. تحد القيود التي تفرضها إسرائيل على حركة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وكذلك على تدفق البضائع، من نمو أنشطة كهذه. الزراعة هي نشاط آخر ليست ممارسته سهلة تحت الاحتلال بسبب تعقيد سلسلة الإمداد، ناهيك بتحديات أخرى.

في المقابل، لا يتطلب عمل المرء في قطاع التكنولوجيا كمهندس أو مطور للبرمجيات، بنية تحتية مادية كبيرة أو كثيراً من التنقل. يسمح الاتصال بالإنترنت والكومبيوتر المحمول لخبير ماهر في التكنولوجيا بالعمل مع عملاء عالميين من دون الحاجة إلى مغادرة منزله. يفيد تقرير صادر عن المنظمة الأميركية غير الحكومية، "أنيرا" (المعونة الأميركية للاجئين في الشرق الأدنى) نُشِر عام 2022 بأن 97 في المئة من قطاع التكنولوجيا الفلسطيني يعمل من دون وجود شركات مادية.

تملك الضفة الغربية إمكان الوصول إلى الجيل الثالث فقط، بينما تقتصر غزة على الاتصال بالجيل الثاني

حاولت إسرائيل الحد من فرص كهذه للفلسطينيين في الأراضي المحتلة من خلال رفض السماح لتلك الأراضي بالحصول على اتصال بالإنترنت بتقنية الجيل الرابع. ذلك أن إسرائيل تسيطر على البنية التحتية للإنترنت والاتصالات في الأراضي المحتلة. وعلى الرغم من إعلان الإدارة الأميركية طرح الجيل الرابع هناك في حلول نهاية عام 2023، تملك الضفة الغربية إمكان الوصول إلى الجيل الثالث فقط، بينما تقتصر غزة على اتصال بالجيل الثاني. مع ذلك، وعلى الرغم من بطء الاتصال بالإنترنت، تَدرَّب العديد من الفلسطينيين تكنولوجياً واستخدموا مؤهلاتهم لتوليد الدخل من تنفيذ مشاريع لصالح عملاء دوليين. وعلى الرغم من صعوبة تحقيق مستوى المهارات المطلوبة للتمكن من العمل عند هذا المستوى، تتمكن أعداد متزايدة من الفلسطينيين من التدريب والعمل في هذا القطاع. ويقدّر تقرير "أنيرا" أن قيمة قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في فلسطين تضاعفت بين عامي 2008 و 2018.

بارقة أمل من "كوب 28"

خلال مؤتمر الأطراف "كوب 28" الأخير في دبي، حضرتُ حلقة نقاش حول المنظومة الإيكولوجية الفلسطينية لريادة الأعمال أدارها راتب ربيع، الرئيس التنفيذي لحاضنة الأعمال غير الربحية التابعة لبنك فلسطين، "مركز إنترسكت للابتكار" (Intersect Innovation Hub). ضمّت المناسبة متحدثين فلسطينيين ودوليين من مستثمرين إلى عاملين في منظمات غير حكومية. إحدى المتحدثات، ألي بيرنز، تدير شركة أميركية تُسمَّى "فيلدج كابيتال" (Village Capital)، وهي أكبر شركة في العالم تدعم الشركات الناشئة المبكرة التي تستهدف التأثير في مجتمعاتها. تربط الشركة رواد الأعمال بالمستثمرين والموجهين لبناء منظومات إيكولوجية قابلة للحياة لريادة الأعمال. فلسطين هي واحدة من المناطق التي بدأت فيها الشركة العمل فيها قبل الحرب.

في المناسبة التي استضافها "كوب 28"، حرصت بيرنز على التأكيد أن التزام "فيلدج كابيتال" العمل في فلسطين لم يتغير على الرغم من الحرب، وشددت على أن فلسطين لا تزال مكاناً لفرص الاستثمار المؤثر اجتماعياً.

AP
مبرمجون فلسطينيون في ورشة عمل في مدينة رام الله، الضفة الغربية.

هذا المستوى من الثقة في قطاع التكنولوجيا الفلسطيني، لا يعززه فقط أصحاب المصلحة الراغبون في فعل الخير، في النهاية، يتعلق العمل بالبحث عن الربحية والنجاح. ويؤكد المستثمر حبيب حزان، أحد المتحدثين في المؤتمر المذكور أعلاه، أن المستثمرين الدوليين لا يتواصلون مع أصحاب الأعمال الحرة والشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا في فلسطين لمجرد أنهم يقدمون قيمة في مقابل المال بسبب انخفاض الرواتب والتكاليف في فلسطين مقارنة ببعض الأماكن الأخرى في العالم، بل لأنهم يقدمون عائداً مرتفعاً على الاستثمار.

وأوضح حزان، الشريك العام الإداري لدى "صندوق ابتكار" لرأس المال الاستثماري الوحيد من نوعه في فلسطين الذي تأسس عام 2016، أن سوق التكنولوجيا المحلية في فلسطين صغيرة جداً، لذلك يتعين على الشركات الناشئة الفلسطينية، منذ البداية، مقارنة جودتها بشركات نظيرة على المستوى الإقليمي، إن لم يكن الدولي. إذا كانت الجودة التي تقدمها ليست على الأقل على قدم المساواة مع تلك الخاصة بالشركات النظيرة في أماكن أخرى من الشرق الأوسط، فلن تجذب المستثمرين الدوليين، على حد قوله، وتعني ظروف السوق هذه أن الشركات الناشئة الفلسطينية المستدامة جذابة للشركات الخارجية والمؤسسين.

للمزيد إقرأ: هكذا اخترق "سايبر حماس" أسرار الجيش الاسرائيلي

ليس القطاع الخاص وحده هو الذي يستثمر في الشركات الناشئة الفلسطينية. ترى مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي،التي تصف نفسها بأنها "أكبر مؤسسة تنموية عالمية تركز حصراً على القطاع الخاص في البلدان النامية"، أن في الاقتصاد الرقمي الفلسطيني فرصة للنمو. عام 2022، قدرت المؤسسة أن القطاع يملك إمكانات غير محققة يمكن أن تفضي إلى توليد مزيد من فرص العمل، وزيادة فرص العمل للنساء، وتحسين النمو الاقتصادي في فلسطين، إذا جرى تسخيرها في شكل مناسب.

حاجة قطاع التكنولوجيا إلى الحد الأدنى من البنية التحتية المادية تعني أنه من المرجح أن يتعافى بسرعة بعد الحرب، على الرغم من الدمار الرهيب في غزة.

وتشارك منظمات غير حكومية دولية أيضاً في دعم القطاع إلى جانب شركات متعددة الجنسيات وشركات خاصة. عام 2011، أسّست المنظمة الإنسانية غير الحكومية الأميركية "ميرسي كورب" و"غوغل"، مسرّع الشركات الناشئة التكنولوجية الأول والوحيد في فلسطين – برنامج لتدريب الشركات الناشئة وتعزيز قدرتها لجعلها جذابة للمستثمرين – وهو ينمو منذ ذلك الحين ليشمل التعاون مع شركات كبرى أخرى مثل "مايكروسوفت" و"أمازون". وقام مسرع الأعمال الناشئة هذا، المسمى "غزة سكاي غيكس" (Gaza Sky Geeks)، بتدريب خمسة آلاف مبرمج ومطور في أنحاء قطاع غزة والضفة الغربية كلها.

للمزيد إقرأ: حرب غوغل والتكنولوجيا من غزة الى... لشبونة

AP
متدربون من برنامج التدريب الفلسطيني (PIP) في زيارة إلى مركز مايكروسوفت للبحث والتطوير في هرتسليا في 20 يوليو/تموز، 2016.

يعمل كل من أصحاب المصلحة الفلسطينيين والدوليين في قطاع التكنولوجيا الفلسطيني بنشاط لدعم القطاع خلال الحرب المستمرة. دمر القصف الإسرائيلي مقر "غزة سكاي غيكس"، وبات فريقه هناك غير قادر حالياً على العمل بسبب الحرب. وسلّم المسرّع المشاريع التي كان فريقه في غزة مسؤولاً عن إنجازها إلى شبكته في الضفة الغربية بغرض الحفاظ على العلاقة بين العاملين الفلسطينيين والعملاء الدوليين، ويعمل الآن لإنشاء آلية تعويض لفريقه في غزة لتخفيف خسارته للدخل. في المقابل، يعمل "صندوق ابتكار" مع "مركز إنترسكت للابتكار" لإنشاء صندوق طارئ للشركات الناشئة يهدف حالياً إلى توليد نصف مليون دولار من صناديق الاستثمار لصالح الشركات الناشئة الفلسطينية.

وتبقى مبادرة صندوق الطوارئ مفتوحة أمام المساهمات من أي أفراد أو شركات مهتمة بالاستثمار في الشركات الناشئة الفلسطينية. خلال المناسبة التي استضافها مؤتمر الأطراف الـ28 حول المنظومة الإيكولوجية الفلسطينية لريادة الأعمال، وذكّر ألآن القاضي، مدير "غزة سكاي غيكس"، الحضور بأن حاجة قطاع التكنولوجيا إلى الحد الأدنى من البنية التحتية المادية تعني أن من المرجح أن يتعافى بسرعة بعد الحرب، على الرغم من الدمار الواسع النطاق الذي يلحق بغزة.

هكذا يتبين أن الجمع بين المرونة والمواهب والفرص في المنظومة الإيكولوجية الفلسطينية لريادة الأعمال التكنولوجية، يجعل قطاع التكنولوجيا في فلسطين من السبل الحاسمة للمساعدة في الانتعاش والنمو الاقتصادي في قطاع غزة والضفة الغربية.

font change

مقالات ذات صلة