ماذا يريد "حزب الله" من "حرب الجنوب"؟

ما هي الآفاق السياسية للمواجهات؟

AFP
AFP
دخان على طول التلال في منطقة الناقورة بجنوب لبنان بعد قصفها من جانب إسرائيل في 24 ديسمبر

ماذا يريد "حزب الله" من "حرب الجنوب"؟

مع اجتياز الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عتبة الثمانين يوما، يزداد الحديث عن "انعطافة" فيها وهو ما اصطلح على تسميته بـ"المرحلة الثالثة"، الأمر الذي يطرح أسئلة كثيرة ليس بشأن مآلات الحرب في غزة وحسب، بل أيضا في جنوب لبنان، حيث يعد القصف المتبادل بين إسرائيل و"حزب الله" أكثر من مواجهات محدودة وأقل من حرب.

في غزة من الواضح أن إسرائيل وإن كانت لا تستطيع إقناع جمهورها بأنها حققت كل أهدافها من الحرب- ولعل أبرزها الهدف عالي السقف الذي وضعته في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهو القضاء على "حماس"– فإن بإمكانها القول إنها حققت "نجاحات" في قطاع غزة ولاسيما في شماله، إذ تتحدث الصحافة الإسرائيلية أنه بات في الإمكان العبور من "غلاف غزة" إلى مدينة غزة بسيارة غير مصفحة، وذلك للدلالة على انحسار قوة "حماس" في شمال القطاع. لكن ذلك لا يعني أن إسرائيل دمرت كل قدرات "حماس" هناك، إنما الكلام في تل أبيب أن الجيش الإسرائيلي بات قريبا جدا من إعلان هزيمة "حماس" في الشمال، وأن لواءَي "حماس" اللذين كانا يعملان في تلك المنطقة، بكل كتائبهما، توقفا عن العمل كـ"أطر قتالية".

بغض النظر عن مدى صحة هذه الرواية الإسرائيلية، وهو ما ستظهره الوقائع الميدانية شمالي غزة خلال الأيام القليلة المقبلة، بيد أنّ الأكيد أن حرب غزة على وشك الدخول في مرحلة جديدة، سيتخللها تراجع في كثافة القصف الإسرائيلي واتجاه تل أبيب إلى تنفيذ "عمليات موجهة" ضدّ "حماس"، وسط حديث عن إنشاء منطقة عازلة في شمال القطاع وربما في أماكن أخرى، فضلا عن تنفيذ الجيش الإسرائيلي انسحابات من تلك المنطقة.

إيران وإسرائيل وافقتا على المطلب الأميركي بعدم توسيع الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية

وهذا بالتوازي مع تزخيم المفاوضات لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار بين إسرائيل و"حماس" بوساطة مصرية وقطرية، وبدفع من الولايات المتحدة. كذلك فإنه من المتوقع أن تأخذ مسألة "اليوم التالي" في قطاع غزة حيزا أوسع من النقاش إقليميا ودوليا. واللافت أن "حماس" نفسها أعطت إشارات أولية عن استعدادها للانضواء في منظمة التحرير الفلسطينية، فضلا عن تواصلها مع جهات فلسطينية يمكن أن يكون لها دور معين في مرحلة ما بعد الحرب، وهذا كله يصب في إطار التحضير لـ"اليوم التالي"، حتى إن الحديث عن إعادة إعمار غزة بدأ يسلك طريقه إلى وسائل الإعلام.
لكن ذلك كله لا يزال مجرد كلام لا أفق واضحا لكيفية ترجمته على أرض الواقع، في وقت تتراوح فيه مقاربات وضع غزة بعد الحرب، بين دفع الأميركيين باتجاه بناء بنى تحتية سياسية في القطاع تمنحه فرصة التحول إلى سنغافورة، وتحول غزة إلى صومال ثانية لجهة "فقدان السيطرة والحوكمة"! 

جنوب لبنان

هذا في غزة، ماذا عن جنوب لبنان؟ وبالتحديد ماذا ستكون انعكاسات بدء "المرحلة الثالثة" من الحرب في جنوب لبنان؟
في الواقع، إن ثمانين يوما من الحرب كانت كفيلة بتأكيد أنّ جبهتي غزة وجنوب لبنان كانتا منفصلتين أكثر منهما متصلتين، بمعنى أن المواجهات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية أخذت منذ البداية مسارا خاصا، وتحديدا بالنسبة إلى "حزب الله" وإيران، وبالدرجة الثانية بالنسبة إلى إسرائيل التي التزم رئيس وزرائها بالطلب الأميركي بعدم فتح حرب شاملة على الحدود الشمالية لبلاده. وهو أمر لم يبادر إليه "حزب الله" بطبيعة الحال، ما يؤكد أن الطرفين، كل بحسب حساباته وأسلوبه، موافقان على المطلب الأميركي بعدم توسيع الحرب وتحويلها إلى حرب إقليمية.

AFP
صورة من داخل منزل شبه مدمر تظهر آثار القصف على بلدة مركبا جنوبي لبنان في 20 ديسمبر

هذا عائد بشكل أساسي إلى الحسابات الكبرى لإيران، إذ سرعان ما ظهر بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول أن طهران قبلت بالتضحية بـ"حماس القديمة" وأنها غير مستعدة للدفاع عنها إلى النهاية والدخول في حرب شاملة- بشكل مباشر أو غير مباشر عبر وكلائها في المنطقة- يمكن أن تكون بالنسبة إليها بمثابة "انتحار استراتيجي" في ضوء الاستنفار الأميركي الذي أعقب "طوفان الأقصى". وهو ما يحيل إلى الملامة التي وجهها المرشد الإيراني إلى قيادة "حماس" لأنها لم تُخطر طهران بهجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وهي ملامة أقرب إلى تنصل إيراني من مسؤولية الدفاع عن "حماس" بما يفوق رغبة طهران بالانخراط في الحرب. 
ذلك أمر كانت له انعكاسات مباشرة على الوضع في جنوب لبنان، باعتبار أن إيران لا تريد التفريط في قدرات "حزب الله" في معركة لا تعتبرها وجودية، لكنها تفضل أن تبقي هذه القدرات كذخيرة استراتيجية دفاعية وهجومية في حال واجهت طهران تهديدا داخل أراضيها وبالتحديد من قبل الأميركيين.

مجريات التمديد لقائد الجيش جوزف عون أعطت إشارة إلى وجود أرضية لتقاطع المصالح الإيرانية الأميركية في لبنان

إن تحديد سقف المواجهات على الحدود اللبنانية الإسرائيلية كان قرارا إيرانيا صافيا، ناهيك بأن طهران لا تريد أن تنهك "حزب الله" في الداخل اللبناني بفعل الحرب ما قد يؤثر على تحكمه في مفاصل السياسة والأمن داخل لبنان، باعتبار أن سيطرة "الحزب" على بيروت مكسب استراتيجي كبير لإيران لا ترغب أبدا في التفريط به، بل إنها- على العكس- تسعى إلى تحصينه. ولذلك فقد حاولت منذ بداية الحرب أن يصب مسار المواجهات في الجنوب في إطار تعزيز سطوة "حزب الله" على لبنان. بمعنى أن أي مفاوضات لاحقة بشأن لبنان ستأخذ في الحسبان "عدم تهور الحزب" في الجنوب، وهو ما يستحق عليه جائزة ترضية من خلال قبول واشنطن بترتيب سياسي مستقبلي للحكم المنهار في بيروت يكون لـ"حزب الله" حصة الأسد فيه. 
ولا ريب أن مجريات التمديد لقائد الجيش جوزف عون أعطت إشارة قوية إلى وجود أرضية صالحة لتقاطع المصالح الإيرانية الأميركية في لبنان، باعتبار أن "الحزب" وافق على التمديد لعون بعدما دفعت واشنطن باتجاهه. 
طبعا هذا ليس مسارا سهلا ولا يمكن توقع أن تتم بلورته بسرعة في ضوء الاستنفار الإسرائيلي على الحدود الشمالية ومطالبة تل أبيب بتطبيق القرار 1701 الذي يقضي بانسحاب "حزب الله" إلى شمال نهر الليطاني، إن لم يكن بالدبلوماسية فبالقوة.

AP
آلية لـ"اليونيفيل" تمر بالقرب من شجرة ميلادية بمدينة مرجعيون جنوبي لبنان في 21 ديسمبر

وهذا كلّه لا يزال حتى الآن في إطار التهويل والضغط على "حزب الله" للتراجع عن الحدود لكنه لن يتراجع، فلا شيء يضطره إلى ذلك قبل قبض أثمان سياسية في لبنان، وربما فإن هذه الأثمان ستشمل طهران بحيث تستحصل هي الأخرى على مكاسب إقليمية جراء دفع "حزب الله" إلى إظهار ليونة معينة حيال تطبيق القرار 1701.
لكن في مطلق الأحوال، فإنه لن يتم تعديل هذا القرار بحيث يصبح تحت الفصل السابع أو بحيث تعطى للقوات الدولية صلاحيات أوسع، بل إن أقصى ما يمكن تحقيقه هو التوصل إلى ضمانات إيرانية لإسرائيل عبر واشنطن بأن "حزب الله" سيحافظ على هدوء الجبهة في الجنوب كما في السابق، إن لم تبادر إسرائيل لاستفزازه. لكن لا يمكن الظن للحظة أن "الحزب" سيكون مستعدا للانسحاب من منطقة جنوب الليطاني وإعلان هذا الانسحاب، خصوصا أن إسرائيل نفسها تخرق القرار الدولي إياه عبر طلعاتها الجوية المستمرة فوق لبنان؛ ولا ريب أن كلام تل أبيب عن احتمال أن يشن "حزب الله" هجوما عليها شبيها بهجوم "حماس" مبالغ فيه، في حين أن مشكلة إسرائيل مع "الحزب" بالدرجة الأولى هي في صواريخه الدقيقة والتي تطالها حتى من منطقة شمال نهر الليطاني.

"حزب الله" يتحرك بين حدين: الحفاظ على سيطرته على لبنان والدفاع عن نظام إيران خارج حدودها

إذن الأكيد أن شن إسرائيل حربا واسعة ضد "حزب الله" هو سيناريو أصبح مستبعدا أكثر فأكثر، خصوصا في ظل غياب الضوء الأخضر الأميركي لتل أبيب لمثل هذه الحرب. لكن في المقابل فإن إسرائيل ستستمر في توجيه ضربات إلى "حزب الله" خلال "المرحلة الثالثة" من الحرب على غزة، كما أنها تسعى على ما يبدو إلى خلق واقع ميداني معين على الحدود من خلال حرق الأحراج لكشف البنى التحتية للحزب وقصفها، وكذلك من خلال استهداف المدنيين في المنطقة المحاذية للحدود، بما يوحي وكأن تل أبيب تحاول بناء ما يشبه المنطقة العازلة هناك.
لكن النقطة الأساسية تبقى أن "حزب الله" يتحرك في الجنوب بين حدين: الأول حدّ الحفاظ على سيطرته على لبنان بل وتعزيزها أكثر من خلال أي مفاوضات مستقبلية حول وجوده في منطقة جنوب الليطاني وحول الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل. والثاني حدّ البقاء ضمن الاستراتيجية الإيرانية الكبرى بوصفه درة التاج في "نظام الميليشيات" الإيراني الذي يهدف للدفاع عن نظام إيران خارج حدودها... وهنا يمكن استعادة الوظيفة التي حاول النظام السوري إعطاءها للمقاومة اليسارية في الجنوب منتصف الثمانينات، بحيث أرادها "مقاومة للتحريك وليس للتحرير"، أي للّعب على حبال مفاوضاته مع الأميركيين، والتي كان هدفه في جزء منها السيطرة على لبنان.

font change

مقالات ذات صلة