كذبة "اليوم التالي"!

كذبة "اليوم التالي"!

انطلقت منذ الأسبوع الأول لحرب غزة، أحاديث حول "اليوم التالي" وسيناريوهاته، فأُتخِمنا بمقابلات وندوات وحوارات وآراء وتحليلات وهلوسات وتخرّصات، فيما دماء الأبرياء أنهار جارية، في خضمٍّ مأسويّ هائل من الخراب المنهجيّ المنظّم الذي يهدف إلى جرف غزة من جذورها وتاريخها وتراثها و... أهلها.

قلب العالم السنة المشؤومة، ليبدأ "يوما تاليا"، وسنة جديدة. إنّما الحقيقة الأكيدة أن الذين قتلوا في غزة ولامس عددهم الإثنين والعشرين ألفا، والذين سيحملون تشوّهاتهم وإعاقاتهم وجروحهم الثخينة وخساراتهم المادية والمعنوية إلى آخر حشرجة من أعمارهم، لن يتسنّى لهم أن يستشرفوا آفاق "اليوم التالي" واحتمالاته الراعبة.

ترى، هل عرفت اسرائيل عبر كل تاريخها، "يوما تاليا" إلّا موسوما بالحرب والقتل الوحشي والدمار والإبادة والاستئصال؟ وهل قدّرت "حماس"، يا ترى، تكلفة "اليوم الحالي"، قبل أنْ تشرق عليها شمس "اليوم التالي"؟

لغة الأرقام هي لغة الأرقام الصادمة الصافعة المدوية، وهي لا تجامل، ولا تداري، ولا تأخذ بلغة الديبلوماسيات التي تتكلم عن "اليوم التالي"؛ من هذه الأرقام 22 ألف قتيل، منهم من لا يزال تحت الأنقاض، و56 ألف جريح ومعوق حتى كتابة هذه الكلمات. في لغة الأرقام أيضا، يتداول العارفون رقم 50 مليار دولار لإعادة إعمار القطاع المنكوب.

اذا وضعنا جانبا، الفاتورة الانسانية والبشرية الهائلة غير القابلة للتعويض، فإن الماكيافيليين يستسهلون الحديث عن الخسائر التي تقدّر عشرات المليارات، كما لو أنّها مضمونة ومحفوظة في حرز حريز! وكم يتغافلون ويتناسون أن حروب التدمير سهلة، في حين أن "حرب" البناء وإعادة الإعمار صعبة للغاية، ان لم تكن شبه مستحيلة، بل مستحيلة.

هل عرفت اسرائيل عبر كل تاريخها، "يوما تاليا" إلّا موسوما بالحرب والقتل الوحشي والدمار والإبادة؟ وهل قدّرت "حماس"، يا ترى، تكلفة "اليوم الحالي"، قبل أنْ تشرق عليها شمس "اليوم التالي"؟

شواهد الخروج المتعثّر من تحت الأنقاض كثيرة جدا؛ من سوريا الى السودان ومن اليمن وليبيا الى لبنان. فالتعافي من الحروب لا يتحقق بوعود معسولة، ولا بشيكات مصرفية مؤجلة، علما أن توفير التمويل الجدي والمستدام لإعمار الدول في عصرنا الحاليّ صار من أضغاث أحلام الزمن الجميل ليس إلا. 

إعادة البناء والتأهيل ليست نزهة، والبناء ليس محض اسمنت وحجر. ها هو فائض النماذج ماثل للعيان في أكثر من بلد ومكان. هل يستطيع أحدٌ أن يقول لنا أين صارت إعادة إعمار سوريا الموعودة؟ أو أن يصف لنا ما آلت اليه بيروت اليوم كقيمة حضارية، بعدما أصبح نسيجها الاجتماعي والعمراني والثقافي والاقتصادي أثرا بعد عين؟ وهل ثمة أحدٌ في مقدوره أن يقول لنا أيّ قيمة بقيت لحمص وحلب بلا الأهل والتاريخ والتراث والعادات والعمران؟ لا قيمة لمدينة من دون النسيج البشري والاجتماعي الأصلي. وماذا عن اليمن وليبيا والسودان؟

من يتأمل في تقديرات تكلفة إعادة الإعمار المتوقعة في هذه الدول، وفي غزة الآن، يدرك جيدا مدى التخرصات التي تحيق بـ"اليوم التالي" الموعود في كل من هذه الدول، في وقت لا تزال نيران الحروب مستعرة على أكثر من جبهة.

في سوريا المنكوبة من الشمال إلى الجنوب والتي تعيث فيها فسادا وخرابا، جيوش وميليشيات ومجموعات وجماعات متناحرة من كل حدب وصوب، تقدر تكلفة إعادة إعمارها بـ400 مليار دولار، كما اقر الرئيس السوري بشار الأسد عام 2018، بينما تحدثت تقديرات أوروبية وعربية أخرى عن تكلفة بنحو 800 مليار دولار، في ضوء الدمار القياميّ الذي دكّ معظم المدن السورية، ليمثل هذا الرقم التكلفة الأعلى في التاريخ الحديث.

 أيّ قيمة بقيت لحمص وحلب بلا الأهل والتاريخ والتراث والعادات والعمران؟ لا قيمة لمدينة من دون النسيج البشري والاجتماعي الأصلي. وماذا عن اليمن وليبيا والسودان ولبنان؟

أما التكلفة في ساحات النزاعات الساخنة فالأرقام مفتوحة على احتمالاتها؛ أكثر من 100 مليار دولار تحتاجها كل من اليمن والسودان، يضاف إليها نحو مليوني دولار يوميا ما دام الصراع مستمرا بين الجيش وقوات الدعم السريع في السودان. وليس معلوما كم يكلف الحوثيون اليمن من أثمان، برا وبحرا، وكم تزداد المجاعات وحالات الفقر المدقع والفرص الضائعة، وتتأرجح الأرقام ما بين 100 مليار ونصف تريليون دولار بالنسبة الى ليبيا، والمؤشرات تنذر بالمزيد في السنوات المقبلة ما لم يتم التوصل إلى اتفاق سلام اليوم. 

يحتاج العراق إلى نحو 88 مليار دولار اليوم لإعادة الاعمار، ويستجدي لبنان التمويل لجيشه واساتذته وقضاته وموظفيه، ولا مجيب. وها هي الهاوية تفغر فمها في جنوبه بدعوى دعم غزة، ولا تبشر سوى بالمهاوي التي لا قعر لها. أما مصر فترزح تحت جبل من الديون فاق الـ200 مليار دولار، 165 مليار دولار منها ديون خارجية، وتنتظرها سنة 2024 الفاصلة في مآل ديونها، وهي تتخبط في فوائدها ومأزق الجنيه المصري والمالية العامة منذ أكثر من عام. وفي تركيا التضخم 65 في المئة، ضاربا بعرض الحائط بالوعود الانتخابية لرئيسها رجب طيب أردوغان، والليرة التركية في الحضيض.

كل الأرقام والمعطيات تعني شيئا واحدا، هو أن إعادة الإعمار في غزة، كما في غيرها من الدول العربية، تحتاج أجيالا، كما أن استقطاب رؤوس الأموال يحتاج حروبا اقتصادية وتمويلية طويلة

هل يظن دعاة "اليوم التالي" أن غزة أعز من أوكرانيا على قلب أوروبا مثلا، وهي التي تحتاج الى نحو 411 مليار دولار، منها 135 مليار دولار لإصلاح الأضرار المباشرة التي لحقت بالمباني والبنية التحتية، بحسب تقديرات البنك الدولي؟

كل هذه الأرقام والمعطيات تعني شيئا واحدا، هو أن إعادة الإعمار في غزة، كما في غيرها من الدول العربية، تحتاج أجيالا، كما أن استقطاب رؤوس الأموال يحتاج حروبا اقتصادية وتمويلية طويلة مستقلة، وما سيتحقق لن يصل منه الا النذر اليسير، بعد أن ينهب في الطريق، وينخره الفساد والجهل والفوضى. 

وإذا وضعنا جانبا الأسئلة المؤرقة عن أي غزة يتحدثون، ومن سيحكمها، وكيف؟ يدرك خبراء الاقتصاد والتمويل جيدا أن عودة البناء لن تكون يسيرة، لا في غزة ولا في مدن ودول كثيرة، فهي ستجرجر عقودا، علما أن إعادة الإعمار تبدأ بالنهج السياسي والاقتصادي الذي سيعتمد، وشروطه وآجاله، ليكون شاملا ومنصفا ما أمكن، وهذا بالذات عنصر شائك، في وقت تنضب السيولة لدى معظم دول الكوكب. 

معظم البشر سيغمضون عيونهم في آخر ليلٍ من هذه السنة الآفلة، وهم يحلمون بتحقق أحلامهم وطموحاتهم في السنة التالية، علما أن أطفالا كثيرين أغمضوا عيونهم ولن يفتحوها بعد الآن، لا في "اليوم التالي"ولا في اليوم الذي يليه

لا شكّ في أن "اليوم التالي" هو مزيج من العوامل السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية التي تتحكم بوضع حد للحروب وبتأمين التمويل ومباشرة إعادة الإعمار، بدءا من الطريقة التي تنتهي بها هذه الحروب، وتوافر الموارد المالية التي تحتاجها الدول لإطلاق ورش البناء والاستقرار الوطني، وهذه كلها عوامل لا تتوافر في "اليوم التالي" بعد أن تعود آلات القتل الى ثكنها ويتوقف انهمار الصواريخ أو "البراميل"، وتهمد الحرائق.

 ... أما التجارب والعبر التي تستقى على أرض الواقع من دروس التاريخ، فلا تبشر بالخير. وها معظم البشر سيغمضون عيونهم في آخر ليلٍ من هذه السنة الآفلة، وهم يحلمون بتحقق أحلامهم وطموحاتهم في "اليوم التالي" من السنة التالية، علما أن أطفالا كثيرين أغمضوا عيونهم ولن يفتحوها بعد الآن، لا في "اليوم التالي"، ولا في اليوم الذي يليه.

font change