العلاقات العراقية- الأميركية... ما هي الخيارات الثلاثة؟

السياسة الخارجية لم تعد محصورة بيد الحكومة

EPA
EPA
عناصر من "الحشد الشعبي" يرددون شعارات ضد الولايات المتحدة أثناء تشييع إحدى قياداتهم ببغداد في 4 يناير

العلاقات العراقية- الأميركية... ما هي الخيارات الثلاثة؟

مع نهاية عام وبداية عام جديد، تبدأ القنوات الفضائية في ترويج لقاءات لقارئي الأبراج الفلكية أو لمنجمين ليقوموا بسرد توقعاتهم للمستقبل! وقد اهتم العراقيون بتنبؤات ميشال حايك، وليلى عبد اللطيف، وأبو علي الشيباني، رغم ما تحمله من تحذيرات وتهديدات للعراق وأمنه وسيادته.

ويبدو أن بداية عام 2024 لم تخيب تنبؤاتهم، إذ بدأت أحداثها تؤشر إلى الذهاب نحو تصعيد أمني خطير يهدد أمن العراق وسيادته، حيث تتواصل هجمات فصائل "المقاومة الإسلامية في العراق" على المقرات العسكرية الأميركية، وهو ما ترد عليه القوات الأميركية بتنفيذ هجمات ضد شخصيات ومقرات الفصائل المسلحة في العراق، حيث استهدفت في آخر هجوم لها قياديا في حركة "حزب الله– النجباء" داخل مقر "الحشد الشعبي" في العاصمة بغداد.

ليس المهم تنبؤات المنجمين ولا مصداقية روايتهم، وإنما تداعيات هذه الأحداث على تطورات الأوضاع الأمنية في العراق والمرتبطة باستمرار الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة في فلسطين؛ إذ يبدو أننا سنبقى لفترة طويلة ندور في تيه المواقف المتناقضة، فالتصريحات الحكومية والخطابات السياسية يبدو أنها متوافقة في العلن، ولكنها متناقضة على صعيد الواقع والتنفيذ!

يمكن القول إن العراق هو الدولة الوحيدة في العالم التي لا تضع معايير واضحة ومحددة للدول الصديقة والعدوة

والمشكلة الحقيقية هي في الموقف من الوجود العسكري الأميركي في العراق، إذ إن الحكومة العراقية تعده ضروريا وفقا لمبدأ المصالح الاستراتيجية والشراكة مع دولة كبرى ساهمت في تغيير نظام الحكم في 2003، وهي تملك الكثير من المفاتيح في حلحلة الأزمات السياسية والاقتصادية أو تصعيدها. لكن هذه الواقعية، لا يتحدث فيها السياسيون العراقيون بصوت عال، على عكس ما تتحدث به السفيرة الأميركية في بغداد آلينا رومانوسكي، والتي غالبا ما تذيل تغريداتها على منصة "إكس" بهاشتاغ: "#الشراكة_الأميركية_العراقية_الشاملة".

REUTERS
وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن خلال لقائه مع القوات الأميركية في سفارة الولايات المتحدة ببغداد، 5 نوفمبر 2023

في المقابل، بعد كل هجوم أميركي على شخصيات الفصائل أو مقرات "الحشد الشعبي"، تعيد قيادات "الإطار التنسيقي" خطاباتها بضرورة إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق، ومحاولة تسويق عدم شرعيته، ولذلك تجب مقاومته ورفضه! في حين أن الحكومة العراقية هي من طالبت بهذا الوجود بناء على "اتفاق الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون بين الولايات المتحدة وجمهورية العراق".

الأسئلة الحرجة

استلم غالبية العراقيين رسائل نصية على هواتفهم، تسألهم عما إذا كانوا "مع بقاء القوات الأميركية أم مغادرتها العراق". لم يتم تحديد الجهة التي روجت لهذا الاستفتاء، هل هي الحكومة العراقية، أم قوى وأحزاب سياسية؟ لكنها في النتيجة تعبر عن سياسة الهروب من مواجهة الأسئلة الحرجة التي تحتاج إجابات واضحة من الحكومة والقوى السياسية التي تشارك فيها، بشأن العلاقة مع الأميركيين، والموقف من الوجود العسكري الأميركي في العراق. 
اختصر المفكر الألماني كارل شميت الخاصية الجوهرية التي تُميز العمل السياسي بأنها تقوم على أساس "التمييز بين الصديق والعدو"، وهو تمييز يحدد شكل السياسة ومضمونها. وعلى ضوء هذا التمييز، يمكن القول إن العراق هو الدولة الوحيدة في العالم التي لا تضع معايير واضحة ومحددة للدول الصديقة والعدوة! فالموضوع خاضع لمزاج "الزعامات" السياسية أكثر من مبادئ واضحة تقوم على أساس تحديد مصلحة الدولة العراقية وسيادتها.

لا تريد قوى "الإطار التنسيقي" ولا حتى حكومة السوداني الإجابة بصراحة ووضوح عن علاقتها مع الولايات المتحدة، هل هي عدو أم صديق؟

تصريحات رئيس الوزراء محمد شياع السوادني، بعد استهداف أحد قيادات الفصائل المسلحة في العراق، كانت تحمل نوعا من المراوغة والتلاعب بالمصطلحات، عندما تحدث عن العمل لإنهاء الوجود العسكري لقوات التحالف الدولي في العراق؛ لأن من يقصف مقرات الفصائل المسلحة أو قياداتها هم الأميركيون وليس قوات التحالف الدولي. وأيضا، هذا الحديث يتناقض مع ما نشرته صحيفة "بوليتكو" (Politico) الأميركية، نقلا عن أحد مستشاري شياع السوداني وبرقية لوزارة الخارجية الأميركية، بأن حديثه عن إخراج القوات الأميركية هو للاستهلاك الإعلامي وإرضاء جمهور "الإطار التنسيقي"!

AP
خلال جلسة للبرلمان العراقي في 11 يونيو 2023

المشكلة في العراق هي غياب منطق الدولة في خطابات الساسة وتصريحاتهم؛ لأن موضوعا استراتيجيا يتعلق بشكل العلاقة وآفاقها مع دولة كبرى مثل الولايات المتحدة يجب أن تستحضر فيه العقلانية السياسية وليس الشعارات والمواقف الآيديولوجية التي تتماهي مع دولة أخرى على حساب مصلحة الدولة العراقية! 
وهنالك مشكلة أخرى تتعلق بتعدد الخطابات بشأن قضايا السياسة الخارجية وعلاقات العراق الإقليمية والدولية، إذ يبدو أن الموضوع غير محصور في الحكومة ووزارة الخارجية، وإنما كل "الزعامات" السياسية تحاول تقديم نفسها كعناوين موازية للحكومة في العلاقات الخارجية للعراق، وهذا السلوك السياسي بدأ يؤشر إلى هشاشة الدولة في العراق كونه يمثل وجود أكثر من مركز للقرار السياسي الخارجي. 
ولذلك، لا تريد قوى "الإطار التنسيقي" ولا حتى حكومة السوداني الإجابة بصراحة ووضوح عن علاقتها مع الولايات المتحدة، هل هي عدو أم صديق؟ وهل هي حليف أم شريك استراتيجي؟

من يرفع شعار العداء لأميركا والرفض للعلاقة معها لا يمكن أن يكون شريكا في هذه الحكومة التي تعترف بالتزامها مع الأميركيين على المستوى السياسي والاقتصادي

ثلاثة خيارات لا رابع لها

لا تدرك القيادات السياسية أن تكرار الخطابات الحماسية بشأن إخراج القوات الأميركية من العراق بات يفقد حضوره وأهميته لدى الرأي العام العراقي، وحتى في التداول الإعلامي. وذلك لأن تكراره في كثير من اللقاءات والمناسبات بدأ يفقد مصداقيته، لاسيما بعد أن أصبحت هذه القيادات تملك القرار السياسي داخل الحكومة والغالبية السياسية في البرلمان. 
والدمج بين "المقاومة" والسلطة لا يمكن أن يصمد كثيرا أمام امتحان المواقف السياسية التي تحتاج إلى قرار واضح وصريح لا إلى خطابات تريد الاحتفاظ بعنوان "المقاومة" وسلاحها في مواجهة الأميركيين، وفي الوقت ذاته الاحتفاظ بمكاسب السلطة ورفاهيتها ومغانمها التي تحتاج إلى الشراكة مع الأميركيين! 
إن الحكومة التي شكلها "الإطار التنسيقي" تعترف بالتزامها مع الأميركيين على المستوى السياسي والاقتصادي. ومن ثم، من يرفع شعار العداء لأميركا والرفض للعلاقة معها لا يمكن أن يكون شريكا في هذه الحكومة. وحسم هذه العلاقة لا يحتاج إلى كثير من التبريرات والفذلكات في الشعارات والخطابات، إذ توجد ثلاثة خيارات أمام الحكومة والقوى الرافضة للوجود الأميركي في العراق: 
الخيار الأول: إنهاء "اتفاق الإطار الاستراتيجي لعلاقة صداقة وتعاون بين الولايات المتحدة وجمهورية العراق"، ووفقا للمادة: 31- الفقرة 2 من هذا الاتفاق ينتهي العمل بها بعد مرور سنة واحدة من تسلم أحد الطرفين من الطرف الآخر بلاغا خطيا. وبذلك يمكن لرئيس الوزراء أو وزارة الخارجية العراقية مخاطبة الخارجية الأميركية برغبة العراق في إنهاء هذا الاتفاق، وانتظار عام واحد حتى يدخل الإنهاء حيز التنفيذ. وهذا الموقف لا يحتاج تصويتا من قبل البرلمان. 
الخيار الثاني: أن تتقدم الحكومة أو نواب "الإطار التنسيقي" في البرلمان بمشروع قانون إلى مجلس النواب للمطالبة بإنهاء وجود القوات الأجنبية في الأراضي العراقية. وهذا يحتاج إلى غالبية مطلقة حتى يكتسب صفة القانون. 
الخيار الثالث: إنهاء الازدواجية بين المواقف والخطابات، وحصر موضوع العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وآفاقها وحدودها بيد الحكومة الاتحادية، بحيث تكون هي المسؤولة عن مصلحة الدولة في تحديد طبيعة هذه العلاقة سواء كانت على مستوى شراكة أو تعاون أو تحالف استراتيجي.

يبدو أن الأميركيين لحد الآن يريدون البقاء ضمن استراتيجية "رد الفعل"، وليس توجيه ضربات استباقية ضد الفصائل المسلحة في العراق 

الخيارات الصعبة

منذ 2003 وحتى الآن، لم تطرح الولايات المتحدة الأميركية استراتيجية واضحة المعالم في التعامل مع العراق، إذ غالبا ما تكون مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة خاضعة للتعاطي مع الأحداث وتطوراتها. وخيارات المواجهة والتصعيد مع الجماعات المسلحة التي تهدد وجودها في العراق تخضع لحجم تأثير ذلك التهديد وليس وجودها من عدمه. ولذلك كان ردها واضحا على محاولة اقتحام مقر السفارة الأميركية في بغداد 2019، وأيضا كان الرد العسكري حاضرا بعد تكرار استهداف المقرات التي توجد فيها القوات العسكرية الأميركية بعد الحرب ضد غزة. ويبدو أن الأميركيين لحد الآن يريدون البقاء ضمن استراتيجية "رد الفعل"، وليس توجيه ضربات استباقية ضد الفصائل المسلحة في العراق.

AFP
عناصر من "الحشد الشعبي" خلال تشييع إثنين من مقاتليه ببغداد في 4 يناير

في المقابل، على الحكومة والقوى الرافضة للعلاقة مع الأميركيين والرافعة لشعارات محاربة أميركا وإخراجها من العراق، عدم الرهان على الصبر الاستراتيجي الأميركي تجاه ازدواجية المواقف أو تكرار استهداف مقرات وجودها الدبلوماسي والعسكري؛ لأن أوراق المواجهة بيد الأميركيين كثيرة ومتعددة، وربما لن يكون من ضمنها العمل العسكري؛ إذ إن هشاشة الاقتصاد العراقي بسبب ارتباطه بالدولار، من أخطر الأوراق السياسية الأميركية التي يمكن أن تؤثر على الاستقرار السياسي والاقتصادي في العراق، وتفتح أبواب المواجهة مع طبقات المسحوقين والفقراء الذين تجاوزت نسبتهم 20 في المئة من عموم المجتمع العراقي. 
وكذلك، خيارات التصعيد في المواجهة مع الأميركيين ربما سيكون الخاسر الأكبر فيها هو القوى السياسية الشيعية، لأن السياسيين الكرد حسموا أمرهم بالتحالف الاستراتيجي مع الأميركيين، وهم مقتنعون تماما بأن الحفاظ على مكاسبهم مرتبط بالحماية الأميركية أمام قوى إقليمية ترفض وجودهم في المنطقة. أما القوى السياسية السنية فتجربة الخراب والفوضى التي شهدتها محافظاتهم أيام سيطرة تنظيم "داعش"، تجعلهم يفكرون جديا بعدم تكرار تلك المآسي والبحث عن الحماية وضمان استمرارها، وأن لا يكونوا مصدر تهديد لاستقرار المنطقة. في حين ستكون القوى السياسية الشيعية أمام تحدٍ صعب،  في حال تفكك العراق. ومن ثم، ستكون في مواجهة صراع قوى السلاح على النفوذ والمغانم في المناطق الشيعية.

font change

مقالات ذات صلة