اقتصاد مصر في العهد المتجدد ... مكانك راوح

التزامات سداد الديون في 2024 أكثر من 30 مليار دولار

EPA
EPA
سفينة حاويات تابعة لشركة البحر الأبيض المتوسط للشحن (MSC) تعبر قناة السويس في اتجاه البحر الأحمر في الإسماعيلية، 22 ديسمبر/كانون الأول 2023.

اقتصاد مصر في العهد المتجدد ... مكانك راوح

بعد إعادة انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في مصر، تقف البلاد أمام أجندة اقتصادية واجتماعية طويلة ومستعصية، تزيد من حدتها وتحدياتها حرب غزة وأخطار المتعاظمة على الداخل المصري. كيف يمكن تجاوز أوضاع سعر صرف العملة الوطنية، أي مصير ينتظر الجنيه، في ظل التباين والتباعد بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء؟ يسعر الدولار الأميركي بنحو 30 جنيهاً في المصارف ورسمياً من قبل بنك مصر المركزي، في حين يتم تداول الدولار في الأسواق الموازية، أو السوداء، بنحو 50 جنيهاً. هذا التباين ناتج عن عدم توفر الدولار والعملات الأخرى لدى المصارف لكي تلبي متطلبات رجال الأعمال والمستوردين والصناعات التحويلية التي تحتاج للأموال للوفاء بالتزاماتها تجاه الغير خارج البلاد.

كذلك، هناك التزامات سيادية تجاه تسديد استحقاقات الديون الخارجية والتي بلغت أرقاماً فلكية وصلت إلى 165 مليار دولار، ومن المتوقع أن تكون التزامات سداد الديون خلال عام 2024 أكثر من 30 مليار دولار. وأضحت الديون تمثل نسبة هامة من الناتج المحلي الإجمالي تبلغ 88 في المئة. ولكي تتمكن مصر من مواجهة استحقاقات الديون فإن عليها أن تعزز الإيرادات السيادية، منها السياحة وإيرادات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج. وإذا لم تسعفها تلك الإيرادات إلى جانب إيرادات الصادرات، فإنها قد تضطر إلى الدخول إلى الدائرة الجهنمية للقروض مرة أخرى لكي تستطيع سداد الديون الحالية ومواجهة الالتزامات الأخرى.

EPA
في انتظار مآل الدولار، واجهة أحد محلات االصيرفة في القاهرة

ولا بد من الاشارة الى التحديات المستجدة التي تواجه قناة السويس بسبب الاعتداءات الحوثية في البحر الأحمر، حيث ان استمرار القرصنة والعمليات العسكرية في هذه المنطقة المائية من شأنه ان ينعكس بافدح الأضرار على مداخيل القناة الأساسية للاقتصاد المصري والتي بدات تلوح تداعياتها الكارثية في الأفق.

الديون الخارجية بلغت أرقاماً فلكية وصلت إلى 165 مليار دولار، واستحقاقات سداد الديون في 2024 أكثرمن 30 مليار دولار

المرحلة للقطاع الخاص

أكد البنك الدولي في تقرير خاص بمصر في عام 2023 على أهمية تبني برامج اقتصادية واستراتيجيات عمل واضحة تؤكد على دور القطاع الخاص في توفير فرص العمل، من خلال تعزيز بيئة أعمال تؤكد على تشجيع استثمارات القطاع الخاص. وأوصى التقرير بأهمية العناية بالتنمية البشرية وتحسين أوضاع الرعاية الصحية والخدمات التعليمية والحماية الاجتماعية. يضاف إلى ذلك، أهمية تطوير القدرة على مواجهة الصدمات الاقتصادية والتأقلم مع المتغيرات المناخية والتخفيف من الأثار الضارة لتلك الصدمات. بطبيعة الحال مثل هذه  التوصيات تتطلب توفر إدارة اقتصادية في مصر متوافقة مع التوجهات الإصلاحية وإمكانات لترشيد السياسات المالية بهدف خفض مخصصات الرواتب والأجور والدعومات وتشجيع الادخار. هناك أيضا ملف التخصيص وبيع الشركات الحكومية في قطاعات إنتاجية وخدمية ومرافق. 

قد يحقق التخصيص للدولة موارد مالية جيدة، خصوصاً إذا أقدمت شركات ومؤسسات عربية وأجنبية على اقتناء إصول مصرية. لا بد أيضا، تشجيع مؤسسات الجيش على بيع المنشآت التي تملكها والتحرر من دورها الاقتصادي الذي تكرس منذ بداية ثورة يوليو/تموز عام 1952. يمكن للقطاع الخاص، الوطني والأجنبي، أن يعزز دوره في مختلف القطاعات الأساسية في مصر، وهي الزراعة والنفط والغاز، وهي قطاعات تصديرية إلى جانب الأسمدة، والسياحة التي تمثل مصدراً هاماً لإيرادات العملة الأجنبية.

دأب عدد من الاقتصاديين المصريين على توجيه النقد للإدارة المصرية بسبب توسعها في إنجاز مشاريع البنى التحتية وتخصيص أموال ضخمة لها، وإهمال المشاريع التي توفر فرص العمل للمواطنين 

من صعب إلى أصعب

يذكر مراقبون اقتصاديون أن عام 2023 كان الأصعب منذ أكثر من عقد من الزمن، ويتوقع هؤلاء أن يكون عام 2024 أكثر صعوبة في ظل استعصاء الحلول الناجعة للمشكلات الاقتصادية الراهنة. قد يكون التضخم وارتفاع الأسعار، خصوصاً أسعار السلع الأساسية الغذائية وغيرها، من أهم المشكلات الحياتية التي يواجهها غالبية المواطنين من أصحاب  المداخيل المتواضعة أو المحدودة. وارتفعت الأسعار بفعل التغير في سعر صرف الجنيه والذي انحدرت قيمته أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى بشكل كبير خلال العام المنصرم. وإذا وافقت الحكومة المصرية على إنجاز عملية التعويم  المطلوبة من قبل صندوق النقد الدولي، فإن أسعار السلع والخدمات سترتفع بشكل كبير. 

لم تتمكن مصر من تحسين الأوضاع الاقتصادية لأسباب عديدة، منها ما هو متعلق بالخطط الاقتصادية، أو لأسباب موضوعية خارجية أو عالمية لا قدرة للدولة على التحكم فيها. هناك أسباب تتعلق بفقدان القدرة على معالجة أوضاع الصناعات التحويلية وتمكينها من تحسين الإنتاج وتعزيز القدرات التصديرية من السلع والبضائع المصنعة مصرياً بما يؤدي إلى تحسين الإيرادات السيادية للبلاد. تعطل دور الصناعات التحويلية ساهم أيضا بارتفاع الواردات من السلع والبضائع، ما رفع من قيمة فاتورة الاستيراد.

ودأب عدد من الاقتصاديين المصريين على توجيه النقد للإدارة المصرية بسبب توسعها في إنجاز مشاريع البنية التحتية وتخصيص أموال ضخمة لتلك المشاريع، في حين تم إهمال المشاريع التي توفر فرص العمل أمام المواطنين مثل الصناعات التحويلية أو الزراعة. ويزعم هؤلاء بأن ارتفاع حجم الديون الخارجية يعود أساساً للإنفاق على هذه المشاريع ومنها مشاريع الطرق أو بناء العاصمة الجديدة أو تنفيذ مشروع قناة السويس الموازية وغيرها من مشاريع. غني عن البيان أن هذه الانتقادات والطروحات مثيرة للجدل. ربما تكون المشاريع المشار إليها باهظة التكاليف ولكن لابد أن تكون ذات فوائد اقتصادية على المديين المتوسط والطويل وتدعم العديد من المشاريع الاستثمارية والصناعية والزراعية والخدمية عندما يقرر المستثمرون، خصوصاً مستثمرو القطاع الخاص، توظيف أموالهم في مشاريع تمكن من توفير السلع والبضائع المطلوبة والتي تحد من الاستيراد من الخارج. 

إلى الإصلاح در

قد يكون هناك إمكان للموازنة بين أهمية مشاريع البنية التحتية والمشاريع الأخرى الحيوية الصناعية والزراعية، وضرورة إصلاح سوق العمل للحد من البطالة والاعتماد على التوظيف في الحكومة والقطاع العام. لكن في ظل الأحوال الاقتصادية الراهنة، كيف يمكن الوصول إلى أوضاع ملائمة؟

من المهم أن تعي السلطات المصرية أهمية تعزيز الانفتاح الاقتصادي وتسهيل تدفق الاستثمارات الأجنبية وفي ذات الوقت ضرورة الالتزام بعمليات الاصلاح المالي والنقدي والتوافق مع توجيهات صندوق النقد الدولي والجهات الممولة الأخرى الحكومية والخاصة، مثل نادي باريس ونادي لندن.

ان الاستجابة لدعوات صندوق النقد الدولي للتعويم التام يجب أن تتم خلال عام 2024 من دون تردد

الرئيس عبد الفتاح السيسي، يفهم ويعلم ما هي متطلبات الإصلاح الاقتصادي والقوانين والإجراءات والتدابير التي يجب وضعها واتباعها لكي تتمكن مصر من تحقيق التنمية المستدامة. هناك مشكلات ومعضلات معلومة لا بد من التعامل معها، منها القضايا المتعلقة بالسياسات المالية والنقدية. هناك حاجة للحد من الانفاق العام وترشيد التوظيف في القطاع العام والدوائر الحكومية وتقنين الدعم السلعي ودعم الوقود أو استبداله بدفعات نقدية للمستحقين ودفع الأسعار للتفاعل مع العرض والطلب. أما السياسة النقدية، فيجب أن تؤكد على تعويم سعر صرف العملة بشكل تام ودون تردد، وهو الأمر الذي كان مكرساً منذ بداية عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، والذي يمثل السبب الرئيسي الذي دفع سعر صرف الجنيه إلى المستويات الحالية، حيث كان هناك إصرار على دعم سعر الصرف بتوفير الأموال مثل الودائع الدولارية من دول الخليج وغيرها، أو الاقتراض للتمكن من الحفاظ على سعر صرف غير واقعي.

 لذلك، فإن الاستجابة لدعوات صندوق النقد للتعويم التام يجب أن تتم خلال عام 2024 دون تردد. كذلك، فإن الحفاظ على مستوى معقول للتضخم لابد أن يقترن بتحديد سعر فائدة متحرك ومتوافق مع برامج الإصلاح النقدي. بطبيعة الحال، ربما يتفهم صندوق النقد الأوضاع المصرية ويقرر رفع شرائح الدين المعتمدة، والتي لم تصرف حتى الآن، من ثلاثة مليارات دولار إلى ستة أو ربما ثمانية مليارات، بما يساهم  في تحسين قدرة الحكومة المصرية على مواجهة المعضلات المستعصية.

جهود لتعزيز الثقة

حدد الرئيس المصري مشكلات أخرى وطالب المجتمع المصري بدعم جهود حكومته للتعامل معها. أهم المشاكل هي مشكلة النمو السكاني حيث قدر معدل النمو السكاني بـ1,7 في المئة سنوياً وهو معدل مرتفع بالنسبة لحجم سكاني تجاوز 105 ملايين نسمة. ولكي يصبح بالإمكان أن تتحسن الظروف المعيشية للمصريين، لا بد من ضبط إيقاع هذا النمو السكاني وتعزيز القدرة على التعامل مع متطلبات الحياة واستحقاقات التعليم والرعاية الصحية. بطبيعة الحال يتعين تحفيز الأداء لمختلف الأنشطة الحيوية وتعزيز الموارد السيادية التي ستعين على مواجهة التزامات البلاد. تواجه السياحة أزمة في الأجل القصير نتيجة لحرب غزة حيث انخفض تدفق السياح، وكانت الحصيلة من إيرادات السياحة بموجب بيانات البنك المركزي المصري للسنة المالية 2022/2023 نحو 13,6 مليار دولار. وتمثل قناة السويس مصدراً مهما للإيرادات السيادية، ويشير البنك المركزي بإنها بلغت 8.8 مليارات دولار خلال العام المالي نفسه، ما يشكل تحسناً ملحوظا.

أما تحويلات العاملين في الخارج فهي متعثرة، حيث أن الكثير من هؤلاء العاملين ينتابهم عدم اليقين بشأن سعر الصرف، مما يدفعهم إلى عدم تحويل الأموال. وقد انخفضت التحويلات نحو 10 مليارات دولار وبلغت 22 مليار دولار في الشهور الـ12 الماضية، ومصدرها مختلف الدول التي يعمل فيها المصريون. لا بد أن تقوم السلطات المصرية بجهود من أجل تعزيز ثقة المصريين باقتصاد بلادهم، ولا بد أن تكون الإدارة الاقتصادية الجديدة مؤهلة للتعامل مع مختلف الملفات الاقتصادية والاجتماعية وتجيد أساليب التعامل مع الدول ذات الصلة والمؤسسات الدولية. الرئيس المصري يعي هذه الأمور، لذا، يؤمل أن تتشكل حكومة جديدة تضع الأولويات بشكل منهجي وتعمل وفق برامج متسقة مع المانحين والدائنين وتنفذ برامج الخصصة وبيع الأصول وتحرير الاقتصاد المصري من هيمنة البيروقراطية.

font change

مقالات ذات صلة