التعميم 166 يشرب ما تبقى من دماء ودائع اللبنانيين

مزيد من الانحراف المصرفي وحلقة جديدة من الجريمة المتمادية لتذويب أموال المودعين منذ 2019

DPA
DPA
مودع لبناني يصرخ متألما من ضياع جنى عمره بين المصارف ومصرف لبنان والدولة اللبنانية في 19 يناير 2024

التعميم 166 يشرب ما تبقى من دماء ودائع اللبنانيين

في آخر العام المنصرم، انتهت المدة المحددة لتعميم مصرف لبنان الرقم 151 الذي أصدره الحاكم السابق للمصرف رياض سلامه في نيسان 2020، ثمّ عُدّل ومُددت آجاله مرات عدة، وكان يعرض على المودعين إجراء سحوبات نقدية من حساباتهم بالدولار - التي فتحت بعد وقوع الأزمة المالية في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 - بالليرة فقط، وبسعر صرف 15000 ليرة لبنانية للدولار الواحد، أي مع اقتطاع "هيركات" نسبته 85 في المئة من أصل المبلغ، كون قيمة الدولار في السوق الموازية حاليا هي 89500 ليرة.

بعد تردد وانتظار، أصدر مصرف لبنان السبت الماضي، التعميم 166 الذي يسمح بسحب مبلغ 150 دولارا شهريا فقط، ضمن شروط معقدة ومتعددة للمودعين، الذي فُتحَت لهم حسابات بالدولار لدى المصارف، ما بعد أكتوبر 2019، بطرق شتى، أكان عبر التحويل من الليرة أم شيكات وغيرها، (وهذا الحساب صار يسمى حساب "لولار" وقيمته الفعلية هي دون القيمة الحقيقية للدولار في السوق).

وكان القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان وسيم منصوري، تريث قبل بتّ مصير التعميم، في انتظار ما ستتمخض عنه جلسات مجلس النواب لإقرار موازنة 2024، بالنسبة الى سعر صرف الدولار لدى المصارف، وكان يأمل أن يوازن بين تبعات تكبير حجم الكتلة النقدية بالليرة بشكل غير مدروس على الاستقرار النقدي، في حال اعتماد سعر صرف السوق للسحوبات بالدولار، وبين اعتماد اقتطاع واقعي ("هيركات") من أموال المودعين، لا يملك أحد القرار في شأنه وتحديد نسبته إلا المجلس النيابي ضمن إطار معين، الأمر الذي لم يحصل.

ومعلوم أن مجلس النواب تقاعس، عن سابق تصور وتصميم، عن إصدار قانون الـ"كابيتال كونترول" منذ نشوء الأزمة المالية والمصرفية عام 2019، ما دفع مصرف لبنان الى إصدار تعاميم بديلة تنظم عمليات السحب من حسابات الدولار المفتوحة بطرق مختلفة بعد اندلاع الأزمة، على نحو يمكن المصارف من التزامها.

Reuters

في العودة الى جلسة مناقشة الموازنة اخيرا أعلن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أن "ليس هناك نية لتثبيت سعر الصرف، حيث دفعت أثمان باهظة نتيجة ربطه بشكل جامد بالدولار"، وقال: "في حال أقرت الموازنة على أساس سعر الصرف الواقعي للدولار، أي 89500 ليرة، فإن المصارف ستعلن إفلاسها غدا. لذا، يجب أن يترك أمر تحديد سعر الصرف بين مصرف لبنان والمصارف". علما أن هذا الكلام يتناقض بشكل فاضح مع قانون النقد والتسليف، حيث تنص أسبابه الموجبة بوضوح على "إبعاد المصارف عن أن تكون على اطلاع مسبق على القرارات التي سيتخذها مصرف لبنان"، خصوصا أنه يفترض بالأخير أن يكون على معرفة عميقة بأوضاع المصارف من خلال لجنة الرقابة على المصارف.

تتخوف المصارف من أثر اعتماد سعر الصرف الواقعي حاليا 89500 ليرة للدولارعلى إعداد ميزانيّاتها، وهي تتم حاليا على أساس 15000 ليرة للدولار، إذ سينخفض رأس مال المصارف عندها بنسبة السدس، مما يؤدي إلى إفلاس معظم مصارف لبنان

بعد نقاشات مستفيضة، أقر مجلس النواب موازنة 2024 متضمنة بندا يشير إلى تسديد الضرائب وفقا للسعر الذي يعلنه مصرف لبنان، وهو يحدد عادة كمعدل وسطي للسعر الرسمي للدولار خلال فترة سابقة من الزمن، من دون أي استثناء للدولار المصرفي، كما كان يأمل القائم بأعمال الحاكم منصوري. 

هروب المصارف من الإفلاس

وانقسمت المصارف من جهتها بين من أبدى رغبته بالتجاوب مع اقتراح منصوري لتعديل التعميم 151، وبين متحفظ أو رافض بالمطلق لدفع مبلغ 150 دولاراً شهريا لـ"الحساب الدولاري" المفتوح بعد حصول الأزمة. إذ هناك تخوف من أن يكرس تعديل التعميم 151 حقًا مكتسبا بدفعات نقديّة ثابتة بالدولار في أي مشروع مقبل لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، كحال المستفيدين من التعميم 158 الذين تعود ودائعهم إلى ما قبل أكتوبر/تشرين الاول 2019.

للمزيد إقرأ: سرقة الودائع في لبنان تتطلب محكمة دولية لا صندوق النقد

كذلك، تخوفت مصادر مصرفية من أثر اعتماد سعر الصرف الواقعي 89500 ليرة للدولار على إعداد الميزانيّات، وهي تتم حاليا على أساس سعر صرف 15000 ليرة للدولار، إذ سينخفض رأس مال المصارف عندها بنسبة السدس، مما قد يؤدي إلى إفلاس قطعي لمعظم المصارف في لبنان.

EPA
مودعون يحتجون بشعارات تعبر عن غضبهم من الدولة والمصارف ومصرف لبنان

إزاء الاختلافات والتناقضات في المواقف السابقة، أخذ منصوري وزملاؤه في حاكمية مصرف لبنان ومجلسه المركزي، زمام المبادرة، وأصدروا في الثالث من فبراير/شباط تعميما حمل الرقم 166، تضمن إجراءات استثنائية جديدة لتسديد الودائع المكونة بعد تاريخ 31 أكتوبر/تشرين الاول 2019 بالعملات الأجنبية، حددت فيها الشروط الواجب توافرها في أصحابها الراغبين بسحب مبلغ 150 دولارا شهريا، وأيضا الأشخاص غير المؤهلين لذلك، في مقدمهم من قاموا بعد التاريخ السابق بالعمليات التالية التي توازي أو تزيد على 300 ألف دولار: تحويل من الليرة إلى الدولار، تسديد قروض ممنوحة بالعملة الأجنبية بالليرة اللبنانية، أو تحويل أرصدة قروض بالعملة الأجنبية إلى الليرة اللبنانية، وأيضا، شراء ما يوازي أو يزيد على 75 ألف دولار على سعر منصة "صيرفة" الخاصة بمصرف لبنان، والعمل على شراء الشيكات، بالاضافة إلى التخلف عن إعادة المبالغ التي حثهم مصرف لبنان على إعادتها.

ينطوي التعميم 166 على محاذير خطيرة أولها تثبيته الانحراف الذي حصل بابتداع المصارف ودائع دولارية محلية (أو ما يسمى ودائع "لولار") وفتح حسابات دفترية بها لمودعين طالبوها بتحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار بعد وقوع الأزمة

يستند التعميم 166 في الشكل، مثل التعميم 151 الذي سبقه، الى مادتين قانونيتين لا تسمحان بما قضى به حسب شروح الأسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف التي تذكر ان اطار تدخل مصرف لبنان، بمقتضى هاتين المادتين، هو "كوضع قانون عام للسير ينص على قواعد عامة للقيادة دون أن يكون له حق التدخل في إدارة المصارف، بل تحفظ للأخيرة الحرية الكاملة في العمل". وهذا ما لم يتم التقيد به في مندرجات الصفحات الست من التعميم 166، التي توغلت في التفاصيل، متضمنة تمايزا كبيرا في الحقوق والشروط المفروضة على المعنيين به، لا يملك أي مصرف مركزي التصرف بها بحسب الاقتصادي المعروف، جوزف ستيغليتز، بل يكون الأمر منوطا، في نظره، بالسلطتين التشريعية أو التنفيذية، أو من يفوض بها صراحة.

REUTERS

وفي المضمون، ينطوي التعميم الجديد على محاذير خطيرة أولها تثبيته الانحراف الذي حصل بابتداع المصارف ودائع دولارية محلية (أو ما يسمى ودائع "لولار") وفتح حسابات دفترية بها لمودعين طالبوها بتحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار بعد اندلاع الأزمة، فاستجابت المصارف لطلباتهم، مع أنها كانت تفتقر للدولار آنذاك بغض نظر أو بغفلة من لجنة الرقابة على المصارف ومصرف لبنان عن هذه الأعمال الاحتيالية التي يعاقب القانون جميع المعنيين بها.

للمزيد إقرأ: إقتصاد لبنان: الجريمة المتمادية

كما يدفع التعميم الجديد إلى مشاركة المستفيدين منه، خصوصا الفئة الوازنة منهم، أي أصحاب "الودائع اللولارية"، من التوظيفات الإلزامية بالدولار التي تكونت لدى مصرف لبنان من أموال أصحاب الودائع الدولارية قبل اندلاع الأزمة، مما يؤسس لإثارة النزاعات والانقسامات بين المودعين.

مصرف لبنان أضاع البوصلة

لطالما حذّرت كتابات عدة من الأخطار النقدية لانحراف المصارف المحلية من خلال خلق النقود المصرفية المحلية عموما، والأجنبية خصوصا، وقد بدأ هذه التحذيرات الاقتصادي الفرنسي موريس أليه، وتبناها تقرير فروستي سيغورجونسون الأيسلندي، ومبادرة فولغلد السويسرية.

لقد أضاع مصرف لبنان البوصلة، وكان الأجدى أن يتم التركيز على استعادة أموال المودعين المنهوبة، مستعينا بالامكانات الاستثنائية والفاعلة التي ينفرد بها عن المصارف المركزية الأخرى. بدءا من المادة 208 من قانون النقد والتسليف التي تخول الهيئة المصرفية العليا المنشأة لديه تعيين مدير موقت على المصرف المخالف، كما فعلت أيسلندا في الأيام الأولى من أزمتها، مرورا بلجنة الرقابة على المصارف، التي تودع الحاكم تقاريرها.

الترويج الحاصل بأن التعميم الجديد 166 هو رد منصف للودائع بالعملة نفسها، هو ترويج زائف ويشكل حلقة متأخرة من الحلقات المتمادية لتبديد أموال المودعين منذ 2019

الترويج الحاصل بأن التعميم الجديد الرقم 166 هو رد منصف للودائع بالعملة نفسها، أي بالدولار، هو ترويج زائف ويشكل حلقة متأخرة من الحلقات المتمادية لتبديد أموال المودعين منذ 2019.

كما أن التعميم الجديد 166 يستكمل الانقضاض على ما تبقى من ودائع المودعين بالدولار لدى مصرف لبنان، وذلك بإعلانه صراحة، استعمال "رصيد التوظيفات الالزامية بالعملات الاجنبية العائدة للمصارف لديه (والتي هي اموال المودعين المعنيين بالتعميم 158)" في دفع سحوبات "لولارية" من حسابات طارئة اطلق عليها التعميم الجديد زورا وصف حسابات وودائع دولارية وهي ليست حقيقة كذلك، مما يؤسس لاطلاق نزاعات مستقبلية بين المودعين المعنيين بالتعميمين السابقين. 

في الحقيقة وفي الوقائع، لقد تم التحضير والتمهيد لهذا التوجه منذ أشهر عدة عبر حسم مصرف لبنان مبلغ 100 دولار من السحوبات الشهرية للمستفيدين من التعميم السابق 158، أصحاب الودائع الحقيقيين والتوظيفات الدولارية المحجوزة لدى مصرف لبنان على شكل توظيفات إلزامية ليصار لاحقا إلى دفع هذا المبلغ في سحوبات أصحاب "الحسابات اللولارية" بمقتضى التعميم 166، بتكتيك مدروس يذكّر بقول مأثور للممثلة الفرنسية القديرة، كارين فيار، "في البداية الجرأة والإقدام ومن بعدها يتم تحديد المقادير" (!On ose d'abord  ensuite on dose).

font change

مقالات ذات صلة