ما الذي تعلّمه العالم والعرب من حرب غزة؟

أي علاقات مع إسرائيل يجب أن تبدأ بحل عادل يستجيب لتطلعات الفلسطينيين

AFP
AFP
صورة من جنوب إسرائيل، تظهر الدمار في قطاع غزة في 19 فبراير 2024

ما الذي تعلّمه العالم والعرب من حرب غزة؟

مع كتابة هذه السطور بلغ عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة أكثر من 28 ألف قتيل، وأكثر من 68 ألف جريح، و7 آلاف مفقود نحو ثلثيهم من الأطفال والنساء. إن هذه النسبة التي تتجاوز 5 في المئة من عدد سكان غزة تعني في مكان آخر مثل الولايات المتحدة أن أكثر من 16 مليون إنسان قد قتل أو جرح أو فقد خلال أقل من خمسة أشهر من حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل في غزة.

وتبدو هذه الحرب ممنهجة في نيتها تحويل غزة إلى منطقة غير قابلة للحياة، فلقد قامت إسرائيل وفق تقديرات عدة مراكز بحثية بإلقاء 65 ألف طن من المتفجرات حتى بداية الشهر الماضي، وهو ما يعادل في قوته أكثر من 4 قنابل نووية من تلك التي تم إلقاؤها على هيروشيما وناجازاكي (قوة القنبلة منهما تعادل 15 ألف طن) في حين أن مساحة هيروشيما هي 900 كيلومتر مربع، بينما مساحة غزة أقل قليلا من ثلاث مرات.

لقد استهدف العدوان الإسرائيلي كل ما يمكن أن يعزز بقاء أصحاب الأرض على أرضهم. فدمرت تل أبيب غالبية القطاع الصحي من مستشفيات ومجمعات طبية وسيارات إسعاف، وقتلوا أكثر من 340 طبيبا وعاملا صحيا، وجرحوا واعتقلوا المئات منهم. اليوم هنالك 10 آلاف مريض بالسرطان، 8 آلاف مصاب بالالتهاب الكبدي يواجهون خطر الموت بسبب تدمير القطاع الصحي، وهنالك 60 ألف امرأة حامل معرضة للخطر بسبب عدم توفر الرعاية الصحية. هذا عدا عن تدمير غالبية المدارس والجامعات والبنى التحتية من شبكات مياه وكهرباء وصرف صحي. وفي هذا العدوان المستمر، استهدفت إسرائيل بشكل خاص الصحافيين، فقامت بقتل أكثر من 120 صحافيا بهدف حجب الحقيقة عن العالم، وقامت بتدمير المجمعات السكنية، ولا زالت تمنع الغذاء والمياه والوقود والدواء عن مليونين ومائتي ألف فلسطيني في غزة. وهي تهدد حاليا بشن هجوم على مدينة رفح التي تؤوي أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في مساحة تقل عن 60 كيلومترا مربعا مما يعني سقوط عشرات الآلاف من الفلسطينيين بين قتيل وجريح.

من يتحمل مسؤولية استمرار حرب الإبادة في غزة ليست إسرائيل وحدها ولكن الغرب والولايات المتحدة تحديدا

لقد قال أكثر من مسؤول إسرائيلي إن جرائم جيشهم في غزة هي رسالة لكل العرب بأن عليهم أن يدركوا أن هذا ما سيحل بهم إن تجرأوا على مهاجمة إسرائيل. وقال يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، إن الاسرائيليين إذا لم ينتصروا في غزة فإنهم لن يستطيعوا الحياة في كل الشرق الأوسط، وهو ما يعني ببساطة أنهم لا يستطيعون الحياة مع العرب إن لم تكن كلمتهم المدعومة بالتفوق العسكري وقوة التدمير هي العليا. 

Reuters
نازحون فلسطينيون في رفح في 19 فبراير

لكن دعونا نقل لهم ما الذي تعلمه العرب من همجيتهم وحرب إبادتهم ضد الشعب الفلسطيني في غزة:
أولا: إن أهم درس تعلمه العرب خلال هذه الحرب أن عليهم أن يمتلكوا كل وسائل القوة للدفاع عن أنفسهم، لأن التسليم بأن إسرائيل ستتقيد بالقانون الدولي والإنساني في أي حرب محتمله معهم في المستقبل سيكون مغامرة غير محسوبة العواقب، وأن التعايش مع إسرائيل في ظل اختلال موازين القوة معها، هو خطر وجودي لا يستطيع العرب القبول به.
ثانيا: إن من يتحمل مسؤولية استمرار حرب الإبادة في غزة ليست إسرائيل وحدها ولكن الغرب والولايات المتحدة تحديدا. ولو شاءت الأخيرة وقف الحرب لأمكنها القيام بذلك في ساعة واحدة، إذ يكفي أن يعلن الرئيس بايدن أنه أوقف توريد الأسلحة والذخائر لإسرائيل حتى تتوقف الحرب. 
ثالثا: لقد حاولت الولايات المتحدة مرارا وتكرارا تسويق إدماج إسرائيل في العالم العربي على أنها إضافة أمنية لِدوله في مواجهة إيران، لكن الحقيقة أن حرب غزة كشفت بما لا يدع مجالا للشك أن إسرائيل عبء أمني على كل من يقترب منها. لقد فشلت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول في حماية نفسها، وفشلت بعد أكثر من أربعة أشهر من حرب إبادتها ضد غزة في القضاء على تنظيم فلسطيني مسلح لا يمتلك سوى أسلحة بدائية من تصنيعه. ولا يمكننا أيضا إلا أن نلاحظ أن إسرائيل قد احتاجت إلى الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى لحمايتها من مخاطر توسع الحرب لتشمل جبهات أخرى، ولقد فشلت رغم ذلك في ردع تنظيم مسلح آخر عن مهاجمتها من جنوب لبنان وهو لا يزال يشاغلها ويستنزفها ويهجر سكانها في شمال إسرائيل رغم كل ما تمتلكه من قوة نيران.

بات واضحا أن إسرائيل دولة يُمكن هزيمتها وهي بالتالي ليست في موقع يُمكنها من فرض شروطها وسلامها على العرب

رابعا: إن الفشل والعجز الأمني الإسرائيلي، رغم كل الرسائل التي تحاول إيصالها للعرب من خلال قتل المدنيين العزل في غزة بأنها "الوحش الكاسر" في الشرق الأوسط، قد بين للعرب، قيادات وشعوبا، أن إسرائيل دولة يُمكن هزيمتها وهي بالتالي ليست في موقع يُمكنها من فرض شروطها وسلامها على العرب. وهذا يوصلنا إلى بيت القصيد في هذه المقالة.
لقد أصبح العالم يدرك أن السلام في الشرق الأوسط مستحيل دون حل الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي، وهو ما يثبت صحة ما قالته المملكة العربية السعودية مرارا وتكرارا بأن أي علاقات مع إسرائيل يجب أن تبدأ بحل عادل يستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال، ولهذا رفضت المملكة أن تكون جزءا من اتفاقات أبراهام السابقة في عهد الرئيس ترمب، واشترطت أن يتم إيجاد تسوية عادلة لهذا الصراع أثناء مفاوضاتها مع إدارة بايدن التي ترغب في أن يكون "التطبيع" مع إسرائيل جزءا من أي اتفاق دفاعي بينها وبين المملكة.
اليوم جميع دول العالم تقول إن حل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي يجب أن يكون إحدى نتائج الحرب الحالية على غزة. وقد أعلنت الولايات المتحدة وعلى لسان أكثر من مسؤول أميركي بشكل لا لبس فيه أنها تعمل على مشروع لإقامة دولة فلسطينية وفق جدول زمني واضح، وأنها تدرس مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية أو السماح بتمرير قرار في مجلس الأمن يعترف بهذه الدولة دون أن تعترض عليه. الرئيس الأميركي بايدن أمر وزارة خارجيته بإعداد عدد من الخيارات التي تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية دون أن يكون هنالك مساس بأمن إسرائيل، قائلا إن هنالك أنواعا من الدول وإن الدولة الفلسطينية يُمكنها أن تكون منزوعة السلاح.

اشترطت الرياض قيام الدولة الفلسطينية المستقلة قبل إقامة علاقات سلام مع إسرائيل

وفي مؤتمر ميونيخ للأمن صرح وزير الخارجية الأميركية أن بلاده تعمل على وضع خطة لإقامة دولة فلسطينية وإدماج إسرائيل في المنطقة، وأن هذه الخطة قد تظهر خلال أسابيع. بدوره قال أولاف شولتز المستشار الألماني إن الشعب الفلسطيني في غزة يمكنه الاعتماد على ألمانيا لإقامة دولة فلسطينية تعيش بسلام إلى جانب إسرائيل. بريطانيا بدورها قالت إنها تدرس مسألة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. أما كندا وأستراليا ونيوزلندا فقد أصدرت بيانا مشتركا طالبت فيه بوقف إطلاق النار الفوري في غزة والشروع في حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية. الاتحاد الأوروبي وعلى لسان مسؤول العلاقات الخارجية فيها، جوزيف بوريل، قال إن الاتحاد يَقوم بإعداد خطة سلام تهدف إلى الوصول لدولة فلسطينية كاملة السيادة.
هنالك إذن حراك سياسي بشأن إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بطريقة تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية. وعلينا هنا أن نستدرك أن إدارة بايدن تريد تحويل الحرب في غزة إلى فرصة سياسية جوهرها الربط بين الاتفاق الدفاعي مع المملكة، وإدماج إسرائيل في العالم العربي مقابل قيام دولة فلسطينية مستقلة. 
دعونا نستدرك أيضا أنهم في البداية لم يتحدثوا عن دولة فلسطينية مستقلة ولكن عن مسار سياسي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، لكن الرياض كانت واضحة واشترطت قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كشرط لإقامة علاقات سلام مع إسرائيل. كان هذا واضحا عندما قامت المملكة بإصدار بيانها الذي قال إنها أبلغت الإدارة الأميركية بأنها لن تقوم بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل "إلا بعد انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 1967 وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة عليها وعاصمتها القدس الشريف وأن وقف العدوان على غزة يحتل الأولوية القصوى". 

AP
الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ مجتمعا بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنكين في ميونخ في 17 فبراير

ويبدو لي أن هذا البيان جاء ليقطع الطريق على التفسيرات الخاطئة لموقف الرياض والتي كان أركان الإدارة الأميركية يروجون لها عندما كان يتم سؤالهم عن موقف الرياض من التطبيع مع إسرائيل. مثلا، من الدوحة، قام وزير الخارجية الأميركية بلينكن بالإعلان زورا بأن "الرياض مستعدة لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل إذا كان هنالك مسار سياسي واضح وفق جدول زمني يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة". 
وكان بإمكان الرياض أن تصمت وأن لا ترد لو أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أقل تعقيدا، لكن هذا الصراع يتمحور على حدود الدولة، وعلى القدس، ومستقبل المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واللاجئين الفلسطينيين، وقضايا الأمن التي تريدها إسرائيل والفلسطينيون.

لا يمكن أن تكون هناك مصداقية للحديث عن حل الدولتين دون وقف الحرب على غزة وانسحاب القوات الإسرائيلية منها

ولو كان الحل لهذا الصراع هو مُجرد قيام دولة فلسطينية، لكان هذا الصراع قد انتهى في كامب ديفيد عام 2000 عندما عرضت إسرائيل الانسحاب من 90 في المئة من الضفة وتبادل أراض بشأن مستوطناتها، وتقسيم القدس الشرقية إلى أحياء بعضها للفلسطينيين وبعضها للإسرائيليين مع احتفاظها هي بالسيادة على المسجد الأقصى. أو لكان الحل هو قبول الفلسطينيين والعرب بخطة ترامب التي قالت إنها ستعطي الفلسطينيين دولة على 70 في المئة من أراضي الضفة، ضمن دولة إسرائيل الممتدة من البحر الميت حتى البحر الأبيض. 
وفي جميع الأحوال، لا يمكن أن تكون هنالك مصداقية للحديث عن حل الدولتين دون وقف الحرب على غزة بداية وانسحاب القوات الإسرائيلية منها، ودون صدور قرار دولي ملزم لإسرائيل بإيقاف استيطانها في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية.
وإذا كان الغرب جادا بشأن حل الدولتين، فإن من الضروري الإعلان عن إطار هذا الحل بما يتوافق والقانون الدولي الذي يعتبر الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وغزة أراضي محتلة على إسرائيل الانسحاب منهما. وهو ما يعني أن أية عملية اعتراف بالدولة الفلسطينية يجب أن تشتمل على الاعتراف بحدودها وهي حدود ما قبل الخامس من يونيو/حزيران 1967.
إن هذا الاعتراف المنسجم مع القانون الدولي سيخرج مسألتين من المفاوضات مع إسرائيل: حدود الدولة الفلسطينية والقدس الشرقية، وهما الموضوعان الأهم في كل المفاوضات مع إسرائيل لأنهما اللذان منعا التوصل لنهاية هذا الصراع في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000. إن عدم إخراج هاتين المسألتين من المفاوضات يعني أن المجتمع الدولي لا يريد لهذا الصراع أن ينتهي، خصوصا وأن الفلسطينيين والعرب قد قدموا من جانبهم تنازلا تاريخيا بقبول إسرائيل على ما نسبته 78 في المئة من أرض فلسطين التاريخية.
ما يتبقى من قضايا يمكن التفاوض عليها وفق جدول زمني وآليات تحكيم واضحة وهي مسألة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة بما فيها القدس الشرقية، ومسألة اللاجئين الفلسطينيين، والضمانات الأمنية التي يريدها الإسرائيليون والفلسطينيون.

سيارة وسط الدمار في مخيم النصيرات في قطاع غزة في 19 فبراير

لا تُعدم الحلول لهذه القضايا. ولا أريد أن أتحدث باسم أحد هنا، لكن في مسألة المستوطنات يمكن القيام بتبادل الأراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين بالنسبة والنوعية نفسهما، وهي مسألة طرحت في مفاوضات سابقة بين الجانبين. ويمكن حتى اعتبار المستوطنين الإسرائيليين مواطنين فلسطينيين إذا ما تخلوا عن جنسيتهم الإسرائيلية وقبلوا الجنسية والقانون الفلسطينيين مقابل موافقة إسرائيل على إعادة العدد نفسه من اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضي دولتها وهم سيحملون جنسيتها.

الوقت يضيق كثيرا على إسرائيل لتكون جزءا من الشرق الأوسط بعد أن تحولت إلى عبء أخلاقي على كل من يقيم العلاقة معها

أما ما يتعلق بالضمانات الأمنية، فإن الشعب الفلسطيني هو من يحتاجها أكثر من إسرائيل. يطرح البعض دولة فلسطينية منزوعة السلاح، والفلسطينيون حاليا لا يمتلكون أسلحة ليدافعوا بها عن أنفسهم إلا ما صنعته أيديهم، لذلك لن يمانع الفلسطينيون بالقبول بدولة منزوعة السلاح شريطة وجود ضمانات دولية تمنع إسرائيل من دخول أراضيهم أو مياههم الإقليمية أو التعدي على سيادتهم. 
ختاما، يتحدث الأميركيون والأوروبيون كثيرا عن التطبيع، وعن حل الدولتين، وعن إدماج إسرائيل في الشرق الأوسط، لكن ما لا ينتبهون إليه هو أن الوقت يضيق كثيرا على إسرائيل لتكون جزءا منه بعد أن تحولت إلى عبء أخلاقي على كل من يقيم العلاقة معها. فأمام حجم الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في غزة، أوشك العرب على الوصول إلى قناعة بأنه وعلى الرغم من أن السلام مع إسرائيل لا يزال ممكنا فإنه لم يعد مرغوبا فيه. لأن التعايش مع دولة غير عقلانية تمارس الإبادة الجماعية وتسعى باستمرار إلى حل التحديات السياسية التي تواجهها بالحرب، وترد على فشلها في حماية أمنها بالمزيد من العنف، هو عبء كبير عليهم ولا مصلحة لهم في تحمله.

font change

مقالات ذات صلة