الإدارة الإيرانية لـ"جبهات الإسناد"... أولوية حماية "المركز"

هل يتكون وعي مختلف داخل "حماس"؟

أ ف ب
أ ف ب
عناصر من قوات الأمن "الحوثية" خلال مسيرة في صنعاء، 15 مارس

الإدارة الإيرانية لـ"جبهات الإسناد"... أولوية حماية "المركز"

لم يسبق أن تجمعت في حرب واحدة بالمنطقة كل التعقيدات والتناقضات والحسابات التي تجمعت في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فإلى جانب الحسابات الإسرائيلية التي تتجاوز بطبيعة الحال المستوى العسكري والسياسي لهذه الحرب بالنظر إلى تحولها مرحلة من مراحل السعي الإسرائيلي إلى تصفية القضية الفلسطينية، تبرز الحسابات الخاصة لكل الأطراف المنخرطة في الحرب سواء الولايات المتحدة الأميركية أو إيرن ووكلاؤها في المنطقة. وهنا يقتضي التفريق بين طبيعة حسابات كل من واشنطن وطهران ووكلائها، باعتبار أن أميركا كقوة دولية كبرى من خارج المنطقة ليست لديها توظيفات مباشرة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل تنطلق من رؤية أوسع للإقليم تقيم مقارباتها للحرب الدائرة على أساسها، بينما تضع إيران وميليشياتها المسألة الفلسطينية في صلب استراتيجيتها التوسعية في الإقليم، وبالتالي فإن حجم توظيفاتها فيها لا يضاهيها فيها أحد.

من هنا يقتضي الفصل بين ما يجري في غزة- والذي يرقى إلى مستوى حرب إبادة تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني- و"جبهات الإسناد" التي تقودها الميليشيات الموالية لإيران في كل لبنان واليمن والعراق، وبدرجة أقل بكثير في سوريا. أي إنه يقتضي عدم سحب أو إسقاط الموقف الأخلاقي والسياسي من الوحشية الإسرائيلية في غزة على "جبهات الإسناد" تلك، باعتبارها جزءا من منظومة ردع إسرائيل في حربها على القطاع الفلسطيني ودفعها إلى كبح جماحها وإحباط تصميمها على أذية الفلسطينيين ما وسعها ذلك.

أين يكمن الحد الفاصل بين "إسناد غزة" والأجندة الخاصة لـ"قوى الإسناد"؟

هذا الفصل يصبح "مشروعا" أكثر بل ومطلوبا بعد مرور أكثر من خمسة أشهر على الحرب الإسرائيلية على غزة، وهي حرب لم تؤثر "جبهات الإسناد" تلك في مجرياتها لناحية إجبار إسرائيل على تقليص كثافتها النارية أو البحث عن مخارج للحرب توقف شلال الدماء الفلسطينية. فماذا كانت ستفعل إسرائيل أكثر مما فعلته لو لم تقم "جبهات الإسناد" تلك؟ والسؤال الأهم: من أين جاء الضغط الأكبر على الحكومة الإسرائيلية، هل من الرأي العام العالمي الذي قام ضدها وتوسع مع الوقت، أم من "جبهات الإسناد" المحكومة بمعادلات سياسية وعسكرية معقدة تتجاوز نطاق الحرب الدائرة في غزة؟ 
الجواب واضح ومعروف سلفا لمجرد أن تكون لكل جبهة من تلك الجبهات دينامية خاصة مرتبطة بحسابات القوى القائمة بها، وبالتالي أين يكمن الحد الفاصل بين "إسناد غزة" والأجندة الخاصة لـ"قوى الإسناد"، التي تريد أولا وأخيرا إحكام السيطرة على بلدانها في إطار الأجندة التوسعية لإيران؟ فكما أن إسرائيل تدرج حرب غزة ضمن استراتيجيتها طويلة الأمد للتعامل مع المسألة الفلسطينية، فإن "قوى الإسناد" تدرج هي الأخرى حرب غزة ضمن استراتيجيتها للقبض على مفاصل بلدانها. أي إن هذه القوى تتعامل مع الحرب بوصفها فرصة لتثبيت معادلات قوة جديدة تنعكس داخل تلك البلدان المهشمة على المدى البعيد. أما في المدى المنظور فهي تشكل الأدوات التنفيذية ضمن الخطة الإيرانية للتعامل مع الحرب والقائمة أساسا على تجنيب طهران المخاطر المباشرة للاصطدام مع إسرائيل والولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه إظهار، وبأسلوب مركب، أن طهران تدعم "قوى الإسناد"، لكن من دون أن تكون آمرة عليها.
بيد أن الخطة الإيرانية تلك هي خطة متحركة تبعا لارتفاع مخاطر الحرب على طهران، وهو ما أمكن معاينته بوضوح بعد الهجمات الأميركية على فصائل موالية لإيران في سوريا والعراق ردا على هجوم "المقاومة الإسلامية في العراق" على "البرج 22" الأميركي على الحدود الأردنية والذي أدى إلى مقتل ثلاثة جنود أميركيين.
فبعد هذا الهجوم الذي ذكرت تقارير أنه اعتبر في واشنطن تخطيا لـ"الخطوط الحمر" سارعت طهران، إلى سحب مستشارين من "الحرس الثوري" من دمشق، وأمرت الفصائل العراقية الموالية لها بوقف هجماتها على "المصالح الأميركية". وهو ما حدث فعلا إذ توقفت تلك الهجمات نهائيا منذ الرابع من فبراير/شباط الماضي، واستعيض عنها أخيرا بقصف على مطاري "بن غوريون" و"روش بينا" الإسرائيليين لم يكن له أثرا يذكر.

رويترز
خلال مسيرة لـ"حزب الله" في الضاحية الجنوبية لبيروت في 16 فبراير

على هذا النحو فإن إيران تدير حسابات معقدة لعملية "إسناد غزة" بحيث لا ترتب عليها مخاطر مباشرة، وفي الوقت نفسه تتيح لها أن تقلّص الفجوة بين خطابها التاريخي الداعم للفلسطينيين والداعي إلى "إزالة إسرائيل" وبين عدم استعدادها لتحمل أي عبء مباشر من الحرب ضدهم، وبين هذا الحد وذاك تتولى الميليشيات الموالية لها ترجمة خطتها هذه. وهي ترجمة غير مضمونة النتائج بالنسبة لتلك الميليشيات ولا حتى بالنسبة لإيران نفسها، وليس من الناحية العسكرية وحسب بل أيضا من ناحية القدرة على تكييف الخطاب الداعم للفلسطنيين مع الحسابات السياسية المتصلة بوضع هذه الفصائل داخل بلدانها وبالاستراتيجية الإقليمية لإيران.
وما ينطبق على الفصائل العراقية ينسحب أيضا على "الحوثيين" الذين يحاصرون مليوني يمني في تعز منذ نحو تسع سنوات ويرفعون الآن شعار رفع الحصار عن أهل غزة. وهم بالفعل يتطلعون إلى تحقيق هدفين رئيسين من المواجهة في البحر الأحمر، الأول يمني متصل بخلق دينامية تعبئة شعبية على خلفية "نصرة غزة" تتيح لجماعة "أنصار الله" تمتين نفوذها داخل اليمن. والثاني يتعلق بالتضييق على حركة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، بما يعزز أوراق طهران التفاوضية في ملف حساس جدا بالنسبة لأميركا، ويحول الأنظار إلى ممرات بحرية موازية أهمها بالنسبة إلى إيران ممر "شمال- جنوب" الروسي.
أما بالنسبة إلى "حزب الله" الذي يمثل درة التاج في "قوى الإسناد"، ليس لناحية قدراته العسكرية وحسب بل أيضا لجهة إنتاجه الأدوات الخطابية المواكبة للمعركة، فهو لا ينفك يردد أنه لا يقبل بأي مسار تفاوضي غير مباشر بينه وبين إسرائيل قبل وقف الحرب، وكأن هذا الموقف موقف أخلاقي بحت متصل بدعم أهل غزة، بينما هو في الواقع موقف مرتبط باستراتيجية الحزب لـ"اليوم التالي" في لبنان، أي بترجمة المعطيات الميدانية في الواقع السياسي اللبناني الذي بات يشكل جزءا رئيسا من واقع النفوذ الإيراني في المنطقة.

تسعف طمأنة نصرالله لقاآني إيران في تبرير نأيها بنفسها عن الحرب

هذا الموقف الذي لم يتزحزح  عنه الحزب منذ بدء الحرب- أي إنه لم يتغير بتغير ظروف الحرب في غزة-مبني أساسا على إدراكه أن إسرائيل غير راغبة في توسعة الحرب ضده، أي على اطمئنانه إلى أن إضعافه إلى حد يؤثر على حضوره داخل لبنان ليس هدفا إسرائيليا بل إن هدف الحكومة الإسرائيلية من المواجهة المضبوطة مع "حزب الله" تحقيق مصلحة إسرائيلية آنية متصلة بتهدئة الجبهة الشمالية، ما يتيح عودة مستوطني الشمال إلى منازلهم التي هجروها منذ بدء الحرب. 
والحال، ففي لحظة إدراك "حزب الله" أن إسرائيل مصممة على شن هجوم واسع ضده فإن هذا الموقف يسقط من تلقائه باعتبار أن استراتيجية الحزب تتحول وقتذاك من الهجوم النسبي إلى الدفاع المطلق، فتغدو أولويته الصمود وليس تجميع أوراق القوة للحظة المفاوضات كما يحصل الآن. أي إن المواجهة بين إسرائيل والحزب تنتقل حينها من كونها جزئية من جزئيات الحرب في غزة إلى حرب قائمة بذاتها تسقط معها كل المعادلات والشعارات السابقة عليها، فتصبح أولوية التفاوض وقف الحرب وليس ترتيبات ما بعدها كما يحصل الآن، وهو ما يجعل ثمنها أعلى على الحزب، خصوصا في ظل الوضع الانهياري الذي يعيشه لبنان، وذلك بخلاف عام 2006 عندما تمكن "حزب الله" من احتواء آثار الحرب وتوظيف نتائجها في الواقع السياسي الداخلي.

رويترز
جنود لبنانيون يؤمنون موقعا استهدفته إسرائيل في البقاع، 12 مارس

وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن يصدر كلام في بيروت عن أن المفاوضات مع "حزب الله" والتي يديرها الأميركيون ويتحمسون لها، لن تقتصر على الترتيبات الأمنية والحدودية بين لبنان وإسرائيل بل ستشمل أيضا تركيبة الحكم ما بعد الحرب، كجزء من ترتيبات "اليوم التالي" في المنطقة، ولو كانت هذه الترتيبات ملتبسة المعالم حتى الآن. وهذا وحده كاف للنظر إلى المواجهات بين الحزب وإسرائيل نظرة مختلفة معزولة إلى حد بعيد عن تطورات الحرب في غزة. بل إن ذلك يحيل إلى التفكير في كيفية إعادة إنتاج الحزب ومعه إيران وكل "محور المقاومة" لدينامية الاستثمار في المسألة الفلسطينية على غرار ما فعله عدد من الأنظمة العربية ماضيا، ويستحضر بالتالي سعي الحركة الوطنية الفلسطينية إلى عزل نفسها عن هذه الدينامية، وهو سعي أسال أيضا الكثير من الدماء الفلسطينية وغير الفلسطينية ولاسيما في الحرب اللبنانية بدءا من عام 1975.
وفي هذا السياق تعطي التسريبات الأخيرة عن طمأنة الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصر الله، قائد "فيلق القدس" الإيراني إسماعيل قاآني إلى أن الحزب "لا يريد أن تنجر إيران إلى حرب مع إسرائيل أو الولايات المتحدة"، فكرة واضحة حول كيفية إدارة إيران لعملية "إسناد غزة". إذ يستدل من طمأنة نصرالله تلك إلى أمرين رئيسين، الأول هو أنها تسعف طهران في تبرير نأيها بنفسها عن الحرب، باعتبار أن أهم حلفائها يدعوها إلى عدم الإنجرار إليها، وبالتالي فإن بقاءها بعيدا من المواجهة يلبي مطلب وكلائها وليس قرارا ذاتيا بحت. والأمر الثاني أن هؤلاء الوكلاء مستعدون أن يدفعوا ضريبة الحرب لوحدهم دون إيران إذ أن المهم بالنسبة إليهم أن لا تتضرر قوة "المركز" في طهران. أي أنهم يعتبرون أن خروج إيران "سالمة" من الحرب انتصارا وضمانة لهم. هذا بالإضافة إلى إيراد مببرات "استراتيجية" لعدم مساهمة إيران في "المجهود الحربي"، باعتبار أن مثل هذه المساهمة ستبرر وجود قوات أميركية إضافية في المنطقة. أما في العراق فقيل أن توقف الفصائل عن مهاجمة المصالح الأميركية مرده إلى عدم رغبتها في التأثير سلبا على المفاوضات بين الحكومة العراقية والولايات المتحدة لسحب قواتها من هناك. وفي سوريا يدير النظام حسابات مركبة إذ أنه لا يريد أن يظهر كمن يتيح حركة مفتوحة للفصائل الموالية لإيران بينما يسعى لترتيب وضعيته العربية.

مقتل أكثر من 30 ألف فلسطيني ليس حدثا يمكن احتواؤه وتجاوزه

هنا يوجه سؤال رئيس إلى حركة "حماس" في إطار حربها الراهنة مع إسرائيل وما سيترتب عليها لاحقا فيما يخص مستقبل القضية الفلسطينية. فـ"حماس" التي صمدت حتى الآن في وجه آلة الحرب الإسرائيلية ملزمة سياسيا وأخلاقيا بتحديد رؤيتها لكيفية إعادة إنتاج الوطنية الفلسطينية بعد عقود من الانقسام الفلسطيني والذي لم تستثمر فيه إسرائيل وحدها بل "محور المقاومة" أيضا. فما كان سائدا قبل الحرب في الساحة الفلسطينية لا يمكن أن يستمر بعدها وإلا ضاعت كل التضحيات الفلسطينية، باعتبار أن هذه التضحيات هي التي تعيد تأسيس الوطنية الفلسطينية بدفع من تعاطف الشارع العالمي مع الفلسطينيين الذين يتعرضون لشتى أنواع المآسي.

أ ف ب
نازحون فلسطينيون يسيرون بالقرب من أنقاض المنازل التي دمرها القصف الإسرائيلي في منطقة النصيرات، وسط قطاع غزة، في 15 مارس

على هذه القاعدة فإن الموقف من "حماس" ما بعد الحرب يفترض أن يكون مبنيا على موقفها من استقلال الحركة الوطنية الفلسطينية، أي على رؤيتها لكيفية إعادة بناء الوطنية الفلسطينية كمقدمة ضرورية لترجمة الحقوق الفلسطينية في دولة مستقلة. هذا بالتأكيد مسار صعب ومعقد بالنظر إلى تعقيدات الصراع والنوايا الإسرائيلية الكامنة تجاه الفلسطينيين. لكن هذا سبب رئيس لتكوين وعي جديد في حركة "حماس"، وعي ينطلق أساسا من اعتبار أن الحرب الراهنة لا يجب أن تتكرر وأن مقتل 30 ألف فلسطيني ليس حدثا يمكن احتواؤه وتجاوزه، بل هو منطلق حتمي للتفكير في تغيير أدوات الصراع، ولاسيما في لحظة تحولات على مستوى الوعي العالمي تجاه المسألة الفلسطينية... وإلا تكون "حماس" قد أضاعت "الفرصة الأخيرة".

font change

مقالات ذات صلة