موريتانيا نحو ازدهار اقتصادي واستقطاب سياسي

موطن للثروات الطبيعية يضعها على خريطة التنمية والاستثمار

سارة جيروني كارنيفال
سارة جيروني كارنيفال

موريتانيا نحو ازدهار اقتصادي واستقطاب سياسي

يقال عنها وطن المليون شاعر، ومنها خرج المرابطون لإغاثة ملوك الطوائف في حربهم بالأندلس في القرن الحادي عشر بقيادة يوسف بن تاشفين الذي بنى مدينة مراكش واتخذها عاصمة المغرب الإسلامي. تُعرف أيضا بكونها أكبر سوق في تجارة الجمال والحلى، وبأغلى مهور الزواج في شمال أفريقيا. اكتشاف النفط والغاز والذهب يجعلها على خطى التنمية والثروة والازدهار، وأيضا الاستقطاب.

التحولات السريعة والمتلاحقة إقليميا ودوليا، تجعل موريتانيا، ذات الكثافة السكانية الضعيفة بـ4,5 ملايين نسمة، وبمساحة تتجاوز مليون كيلومتر مربع، في صلب اهتمام واستقطاب القوى السياسية الكبرى داخل منطقة تقع جنوب شمال أفريقيا وغرب ساحل الصحراء الكبرى. زادت أهميتها الجغرافية والجيواستراتجية، بفضل مواردها الطبيعية، وطُرق التجارة البحرية والبرية. ومن يملك البحر يملك شرطا من شروط قوة الأمم، يقول المؤرخ الفرنسي هنري هاوسير. وفي المحيط الأطلسي يوجد السمك والنفط والغاز والمعادن الثمينة، وما خفي أعظم.

رئاسة الاتحاد الأفريقي

تسلمت موريتانيا رئاسة الاتحاد الأفريقي لعام 2024 خلال القمة 37 في أديس أبابا في فبراير/شباط الماضي، ممثلة لمنطقة شمال أفريقيا، التي انتقل إليها الدور من شرق القارة حيث كان في حوزة جزر القمر عام 2023. وجاء اختيار محمد ولد لغزواني بإجماع دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، بمبادرة من الملك محمد السادس. وقال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة "إن موريتانيا تستحق رئاسة الاتحاد بما تحققه من تطور اقتصادي، وبالنظر إلى كونها قطب استقرار في مجموع المنطقة، وفاعلا إيجابيا في العديد من القضايا التي تعرفها القارة الأفريقية".

حسابات الأطراف الخارجية ومصالحها متباينة، لكنها تجمع على أن القارة الأفريقية تشكل مصدر حلول للطاقات البديلة والصناعات المستقبلية، وهو سبب التنافس على خيراتها والتحكم في ممراتها التجارية البحرية

واعتبر محللون أن اختيار موريتانيا، كان حلا حكيما لتجنب نقل الخلافات العربية - العربية إلى الساحة الأفريقية، واحتمال تأثيرها السلبي على التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأفريقيا التي عانت على مدى خمسة عقود من حروب باردة وصراعات أيديولوجية، عطلت مسيرتها نحو التنمية والديمقراطية، وقسمت مواقف حكوماتها واستباحت استغلال ثرواتها باسم الثورة.

وتدفع غالبية الدول الأفريقية حاليا في اتجاه التركيز على المصالح الاقتصادية والتنموية للقارة، وتسريع تفعيل المنطقة التجارية القارية الحرة، "زليكاف"، والابتعاد عن الخلافات السياسية، أو نقلها إلى مواقع أخرى مثل الأمم المتحدة، التي لها حصريا حق بت النزاعات الموروثة عن الاستعمار.

ترحيب دولي وجوار ملتهب

واعتبر الرئيس الموريتاني أن مهمته الحالية تكمن في إصلاح هياكل الاتحاد الأفريقي الذي يضم 54 دولة، والعمل على إشعاع دور القارة ومكانتها وسط نظام عالمي جديد، وتقوية الشراكات مع المنظمات الإقليمية والدولية الأخرى، بما يخدم مصالح شعوب القارة في التنمية والتقدم. واحتفلت بلاده يوم 28 فبراير/شباط بذكرى استقلالها عن فرنسا عام 1960.

Shutterstock
صورة جوية التقطت لقلب الريشات أو عين الصحراء في هضبة آدار غرب وسط موريتانيا، أشهر المعالم الجيولوجية في أفريقيا.

رحبت الأوساط الإقليمية الدولية المختلفة باختيار موريتانيا لقيادة الاتحاد الأفريقي في هذه المرحلة المهمة وفي ظل التحديات الكثيرة، كونها عضوا فاعلا في الجامعة العربية وفي منظمة التعاون الإسلامي، ومن مؤسسي الاتحاد المغاربي عام 1989، ولها حضور في العديد من المنظمات الدولية والتنموية المختلفة. وهناك رهان على  ضرورة إسكات البنادق لأن العالم لم يعد يتحمل مزيدا من الحروب، في وقت توجد تحديات أخطر تواجه البشرية، في مقدمها التغيرات المناخية، التي تُعتبر أفريقيا أكبر ضحاياها، والتي هي السبب المباشر للهجرة غير النظامية التي تشكو منها أوروبا وتشكل مصدر تصادمها السياسي الداخلي.

حسابات الأطراف الخارجية ومصالحها متباينة، لكنها تجمع على أن القارة تشكل مصدر حلول الطاقة البديلة والصناعات المستقبلية، وهو سبب السعي للوصول الى خيراتها ومواردها المعدنية والطاقة، والتحكم في ممراتها التجارية البحرية. وبحكم قربها من مسرح الأحداث في منطقة الساحل جنوب الصحراء الكبرى التي تمتد ملايين الكيلومترات، فإن الرهان كبير على موريتانيا وشركائها المباشرين، لتجاوز الأوضاع  الحالية السياسية والاقتصادية وحتى العسكرية، وفق حديث لمراقبين إلى "المجلة".

أي خلافات إقليمية يجب ألا تؤدي إلى تمدد الحركات الإرهابية والإنفصالية أو الإجرامية نحو السواحل الأفريقية الغربية

أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأميركي

وكان الاتحاد الأفريقي جمّد عضوية الدول التي شهدت تغيير الحكومات عبر الانقلابات العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري والسودان. كما عُلقت عضوية دول الساحل داخل المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). وكان رد تلك الدول الانسحاب من التجمع الاقتصادي بدعوى العقوبات التجارية والمالية.

ودعت تلك الدول بقيادة مالي إلى إنشاء تجمع اقتصادي ثلاثي، وإصدار عملة موحدة بديلا من الفرنك الأفريقي الفرنسي. واتُهمت أيضا بالتقرب من موسكو والاستعانة بميليشيات "فاغنر" الروسية. وفي تطور مفاجئ، أعلنت "إيكواس" رفع جزء من العقوبات الاقتصادية المفروضة على  الدول الثلاث، وفتح حوار معها  لثنيها عن المغادرة أو إقامة تجمع إقليمي منافس أو معاكس يتسرب منه انتهازيون من خارج القارة.

أزمة الساحل

على الرغم من أن موريتانيا ليست عضوا في "إيكواس" التي تأسست عام 1975 وتضم 15 دولة كانت محسوبة على النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، إلا أنها في المقابل تعتبر الأقرب جغرافيا لهذا التكتل المهدد بالتصدع. وحذرت واشنطن على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن خلال جولته الأفريقية الأخيرة، من أن "أي خلافات إقليمية يجب ألا تؤدي إلى تمدد الحركات الإرهابية والإنفصالية أو الإجرامية نحو السواحل الأفريقية الغربية"، لأنها خط أحمر يهدد الأمن والاستقرار وحركة الملاحة البحرية على المحيط الأطلسي. ولا تريد أميركا تكرار تجربة الحوثيين في المحيط الأطلسي، وتهديد التجارة الدولية كما كان يحدث في خليج غينيا من قبل.

Shutterstock
المسجد السعودي في نواكشوط في موريتانيا.

وكان بلينكن أطلق في سبتمبر/أيلول 2023 مشروع الشراكة من اجل التعاون الأطلسي يخص نحو 40 دولة. وهي  تتوافق مع المبادرة المغربية لإنشاء "أفريقيا الأطلسية" من 23 دولة تطل على المحيط، وإنشاء ممرات لدول الساحل للوصول إلى موانئ المغرب الجنوبية لتطوير التجارة مع بقية العالم. ورحبت منسقة الشراكة الأطلسية جيسيكا لابين بالخطة، وأعلنت دعم واشنطن لها خلال لقاء جمع سفراء دول شمال وجنوب الأطلسي احتضنته السفارة المغربية في واشنطن الأسبوع الماضي.

المقترح المغربي

وانضمت دول الساحل إلى مشروع "أفريقيا الأطلسية" الذي اقترحه العاهل المغربي لفك العزلة عن أربع دول حبيسة وسط الصحراء الكبرى. ووافق وزراء خارجية مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو خلال اجتماعهم في مراكش نهاية العام المنصرم، وشكلوا فريق عمل لإعداد تفاصيل تنفيذ الخطة المغربية، التي تقضي ببناء شبكة من الطرق البرية والسكك الحديد للوصول إلى المحيط الأطلسي، والاستفادة من خدمات ميناء الداخلة الكبير.

 أهمية موريتانيا في التجارة الأفريقية

وقال محللون إن المبادرة المغربية ستمكن دول الساحل غير المستقرة من تحقيق تنمية اقتصادية لشعوبها عبر الوصول إلى المحيط الأطلسي، وتسويق منتجاتها، وجلب الاستثمارات الأجنبية، والتحكم في ثرواتها الطبيعية الغنية، بما يضمن الاستقرار والازدهار لثلث سكان القارة في إطار تعاون جنوب جنوب. وقال وزير خارجية موريتانيا سالم ولد مرزوق إن بلاده "تشيد بحكمة المغرب والتنمية والتطور التي تعرفها المملكة، والرسالة التي أحملها من الرئيس ولد لغزواني هي تأكيد مواصلة التعاون بين بلدينا".

إن النمو الاقتصادي لنواكشوط سيتجاوز 5 في المئة عام 2024، ونحو 14 في المئة عام 2025، مع بداية تصدير الغاز المسال في حقل السلحفاة المشترك مع السنغال

تعتبر موريتانيا حلقة مهمة في هذه المعادلة لأن لها حدودا مشتركة مع بعض دول الساحل شرقا ومع المغرب شمالا، ويمر نجاح أي حركة تجارية عبر أراضيها. ويُصدر المغرب جزءا من تجارته نحو أفريقيا عبر ممر الكركرات، الذي يشهد حركة كثيفة منذ افتتاحه عام 2020، وبينهما حدود مشتركة برية وبحرية تقدر بـ1564 كيلومترا. لا تتجاوز حدود موريتانيا مع الجزائر 463 كيلومترا ولا يوجد بينهما طرق سريعة أو معبدة. وتبلغ الحدود مع السنغال 813 كيلومترا جنوبا، ومع دولة مالي نحو 2230 كيلومترا شرقا.

Shutterstock
خريطة موريتانيا.

وتقدر التجارة البينية مع المغرب بنحو 350 مليون دولار في مقابل 200 مليون دولار مع الجزائر في 2022، وفق مكتب الإحصاء الموريتاني. وهي حلقة وصل مهمة بين شمال أفريقيا ودول "إيكواس".

إقرأ أيضا: انتخابات رئاسية مبكرة في الجزائر... لماذا؟

يستعد المغرب لفتح معبر تجاري جديد مع شمال موريتانيا من جهة الشرق على بعد نحو 250 كيلومترا من ميناء الداخلة. وبدأت الأشغال في بناء طرق للتجارة البرية يمكن مدها لاحقا داخل التراب الموريتاني، وصولا إلى دولة مالي لفك العزلة عن دول الساحل.

من  جهتها سارعت الجزائر إلى تدشين معبر حدودي لإقامة منطقة تجارية حرة مع موريتانيا في حضور رئيسي البلدين، ووعدت بمد طريق بري بطول نحو 750 كيلومترا إلى مدينة الزويرات داخل الصحراء الكبرى. وكتبت صحيفة "الأنباء" الموريتانية "أن التطور السريع للاقتصاد المغربي واتساع حركته التجارية والاستثمارية في كثير من المناطق الأفريقية، أخذ شكلا جديدا من أشكال التمدد يربط القطاع التجاري في موريتانيا ودول الساحل بالموانئ المغربية العملاقة". وقالت الصحيفة "إن الجزائر ترى نفسها مطوقة بدينامكية اقتصادية تدعمها ديبلوماسية نشيطة".

تقدر احتياطات موريتانيا من الغاز بحسب وزير البترول والمعادن والطاقة بنحو 110 تريليون قدم مكعب، مما يجعلها في المرتبة الثالثة بعد نيجيريا بـ207 تريليون قدم مكعب، والجزائر ثانية بـ159 تريليونا

تستعد موريتانيا لانتخابات رئاسية مطلع الصيف المقبل. ومنذ مجيء الرئيس محمد ولد لغزواني قبل خمس سنوات، أصبحت المصالح العليا للبلد والبراغماتية السياسية والاقتصادية والانفتاح الإقليمي والدولي، من ركائز التفكير الرسمي والشعبي. وحقق هذا النهج تقدما اقتصاديا واجتماعيا واستقرارا سياسيا وتحسنا في العلاقات مع دول الجوار.

الغاز الموريتاني

ويقول صندوق النقد الدولي إن النمو الاقتصادي لنواكشوط سيتجاوز 5 في المئة عام 2024، ونحو 14 في المئة عام 2025، مع بداية تصدير الغاز المسال في حقل السلحفاة المشترك مع السنغال. وتقدر احتياطات موريتانيا من الغاز بحسب وزير البترول والمعادن والطاقة بنحو 110 تريليون قدم مكعب، مما يجعلها في المرتبة الثالثة بعد نيجيريا بـ207 تريليون قدم مكعب، والجزائر ثانية بـ159 تريليونا.

ووفقا لـ"بريتيش بيتروليوم" المالكة لـ56 في المئة من الحصص في حقل الغاز، فإن موقع موريتانيا الجغرافي، يجعلها في موقع استراتيجي لتصدير الغاز إلى أوروبا التي تسعى إلى تنويع مصادر الطاقة لتجاوز تقلص الغاز الروسي. وتقدر العائدات من الغاز بنحو 100 مليون دولار في المرحلة الأولى، على أن ترتفع إلى مليار دولار سنويا في المرحلتين الثانية والثالثة، بإنتاج 10 ملايين طن من الغاز سنويا. وهذه مبالغ مهمة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه أربعة ملايين ونصف المليون. 

ووقعت نواكشوط مع أبوجا والرباط العام الماضي اتفاق المشاركة والاستفادة من أنبوب الغاز الذي يمتد بينهما على مسافة نحو 5,660 كيلومترا، معظمه تحت المحيط الأطلسي. وبات في إمكان موريتانيا تصدير جزء من غازها إلى أوروبا عبر هذا الأنبوب الذي سيضم أنبوبا ثانيا خاصا بنقل الهيدروجين الأخضر إلى الاتحاد الأوروبي. وهو المشروع الذي تساهم ألمانيا في تمويله، بعد زيارة المستشار أولف شولتز إلى بلد المرابطين. 

الثروة السمكية

تتوفر في موريتانيا مصادر مهمة من المعادن المختلفة ومنها الحديد، الذي تعتبر موريتانيا الثانية في تصديره بعد جنوب أفريقيا وفي المرتبة 15 في الترتيب العالمي. إضافة إلى الذهب والنحاس والفضة ومعادن أخرى ثمينة. كما تملك ثروة سمكية هائلة تساهم بـ25 في المئة من مجموع الصادرات بحسب تقرير الخزينة الفرنسية. وكل المؤشرات اليوم تؤكد صعود الاقتصاد الموريتاني، وتحسن معيشة سكانه، والتحول إلى قوة إقليمية بين دول المغرب العربي ودول أفريقيا جنوب الصحراء.

ولأن الثروة نعمة، لن تعود الدولة إلى منطق الانقلابات العسكرية والثورة كما كانت في الأيام العجاف، لان الاعتدال يسهل طريق الازدهار.

font change

مقالات ذات صلة