تحقيق لـ "المجلة" من جنوب لبنان... حكايتان للنزوح وانقسام الشيعة لفئتين

الانقسام السياسي والطائفي يظهر وسط توتر اجتماعي

أ ف ب
أ ف ب
رجل يتفحص أنقاض منزل في بلدة كفر حمام الحدودية في 8 مايو بعدما دمرته غارة إسرائيلية

تحقيق لـ "المجلة" من جنوب لبنان... حكايتان للنزوح وانقسام الشيعة لفئتين

رغم مرور سبعة أشهر على الحرب المستعرة في الجنوب اللبناني بين "حزب الله" وإسرائيل، لم يصدر بعد عن الحكومة اللبنانية أي رقم رسمي بعدد النازحين. إلا أن الإعلام اللبناني يتداول أرقاما تقريبية ويُجمع على أن العدد تخطّى عتبة المئة ألف. وهو رقم يرتفع وينخفض يوميا، تبعا لوتيرة المعارك.

وتظهر جولة ميدانية لـ "المجلة"، أن المناطق التي تقع جغرافيا على الضفة الشمالية لنهر الليطاني- كون الحرب تدور في مناطق الضفة الجنوبية- تُؤوي القسم الأكبر من النازحين، وفق خريطة انتشار تشمل أقضية: النبطية والزهراني وصور، امتدادا نحو صيدا وجزين، وصولا إلى بيروت وجبل لبنان والبقاع.

وبحسب الأرقام المتداولة، يستضيف قضاء صور ما يقارب 30 ألف نازح، وناهز عدد النازحين في قضاء النبطية 26 ألفا، ولجأ إلى قضاء صيدا ما يفوق 14 ألفا، وأقل من ألف نازح إلى قضاء جزين، ووصل عدد النازحين في أقضية الجبل إلى 17 ألفا، تتركز غالبيتهم في قضاء بعبدا (الضاحية الجنوبية)، وأكثر من ألفين في أقضية البقاع، وفي بيروت نحو سبعة آلاف، وهناك قرابة ستة آلاف شخص اختاروا النزوح داخل منطقة جنوب النهر، فانتقلوا إلى قرى آمنة نسبيا في قضاءي حاصبيا ومرجعيون. أما الباقون فيتوزعون على مناطق متفرقة في المحافظات اللبنانية.

وتبعا لخريطة الأرقام، يتشارك العدد الأكبر من النازحين الإقامة مع أقاربهم في منازلهم. وعدد لا بأس به يُقيم في منازل مقدمة مجانا. وعدد قليل في منازل أخرى يملكونها. ويُقيم 20 في المئة منهم في منازل مستأجرة معظمها غير مفروش، ونحو خمسة في المئة اضطروا للإقامة في مراكز إيواء.

 أ ف ب
دخان القصف الإسرائيلي يتصاعد فوق قرية كفركلا في 10 مايو

أغلب النازحين يشكون من تقاعس الحكومة اللبنانية عن متابعة شؤونهم. وقد خصصت خطة النزوح التي أطلقتها في بداية الحرب مبلغ 140 دولار شهريا للعائلة النازحة. ومع تزايد أعداد النازحين صارت تُصرف المساعدة كل شهرين، ثم تقلصت بشهادة نازحين إلى 100 دولار وبحسب "التيسير"، وقد حصل النازحون على حصة أو حصتين غذائيتين على الأكثر منذ بداية الحرب، مع تقصير كبير لناحية تلبية حاجات العيش الأساسية، مثل: أدوات الطبخ والتنظيف والأثاث البسيط والأغطية والملابس وغيرها، وكان وزير البيئة ناصر ياسين قد أنذر مع بداية الحرب، أن لبنان بحاجة إلى 73 مليون دولار لتأمين الاحتياجات الأساسية للنازحين. لكن صوت الإنذار ضاع في خضم الفوضى السياسية والأمنية التي يعيشها لبنان.

أغلب النازحين يشكون من تقاعس الحكومة اللبنانية عن متابعة شؤونهم

في المقابل، نشط طرفا الثنائية الشيعية "حزب الله" و"حركة أمل"، منذ اليوم الأول للحرب، بتجميع بيانات بأسماء العائلات النازحة وأماكن نزوحها، وعمدا بالدرجة الأولى، إلى تأمين أماكن إقامة تحفظ كرامة محازبيهما، وقدما لهم المعونات المالية والمساعدات على أنواعها، سواء عبر مؤسساتهما الحزبية، أو عبر المجالس البلدية الموزعة بينهما. 

 أي بي أيه
مشاركون في جنازة مقاتل في "حزب الله" في بيروت في 10 مايو

وتكشف التفاصيل أن عائلات الحزبيين، تتلقى بدلات إيجار تتراوح بين 100 إلى 300 دولار شهريا، إضافة إلى سلة غذائية وطبابة مجانية ومساعدات متفرقة، وفي شهر رمضان الفائت، حصلت على مساعدات مالية إضافية، تراوحت بين 200 إلى 400 دولار، بحسب عدد أفرادها، وكلها مقدمة من دائرة "العمل الاجتماعي" التابعة للحزب، و"مجلس الجنوب" المؤسسة الرسمية التي تهيمن عليها "الحركة"، والمجالس البلدية التابعة للطرفين، واعتمادا على ثلاثة مصادر تمويل أساسية، فـ"الحزب" يعتمد على الأموال الإيرانية، و"الحركة" تغرف من الميزانية التي تخصصها الدولة اللبنانية لـ"مجلس الجنوب"، و"وحدة إدارة الكوارث"، أما القسم الأكبر من الأموال فيقع على عاتق المغتربين.
لا تستثني هذه الترتيبات النازحين المناصرين للثنائي أو ما يعرف بـ"البيئة الحاضنة"، لكن بمستوى تقديمات أقل ومتابعة أدنى، فالأولوية المطلقة للثنائي هي لعائلات "الشهداء والجرحى والمجاهدين على طريق القدس"، بذريعة أنهم يقدمون الفاتورة الأعلى للحرب، علاوة على النزوح، وتأتي ثانيا الشريحة الشيعية الواسعة، أما باقي المكونات، من غير الشيعة، فتأتي في أسفل الجدول.

هذا التحيزات دفعت بالنازحين من باقي المكونات إلى اتهام الثنائي بتطييف النزوح، في حين أن الحرب طالت الجميع بالتساوي، وليس من العدل، كما يقول أحدهم، أن ندفع فاتورة للحرب بالتساوي وفاتورة أعلى للنزوح بسبب هويتنا.
بسبب هذا الجو السائد، لجأ معظم النازحين من القرى الحدودية ذات الأكثرية السنية مثل قرى يارين ومروحين والظهيرة والبستان والزلوطية في القطاع الغربي، إلى منازل أقاربهم بالبلدات الساحلية في قضاء صور، أو إلى مراكز الإيواء الخمسة في مدينة صور والبرج الشمالي، لأنهم لم يجدوا من يتابع أمورهم ويتجند لخدمتهم ساعة نزوحهم، كما لم تشملهم عروض المنازل المجانية وبدلات الإيجار المنخفضة، وهم يتلقون مساعدات مالية وغذائية وخدماتية أقل من غيرهم، أغلبها من جهات حكومية ودولية، ويقاسون ظروفا إنسانية بالغة الصعوبة، ويفتقرون إلى الحد الأدنى من شروط العيش بكرامة.

أما إخوتهم في القطاع الشرقي، وبالتحديد في قرى شبعا وكفرشوبا والهبارية وكفرحمام، فقد واجهوا الواقع نفسه، وإن كان أقل وطأة، ففي حين عاد النازحون سابقا، أيام الاحتلال الإسرائيلي للجنوب (1978-2000) إلى بيوتهم البديلة في مناطق العمروسية والشويفات وكفرشيما في محافظة الجبل، التي ما زالت تحمل أسماء قراهم الجنوبية، نزح القسم الأكبر منهم داخليا باتجاه منطقة حاصبيا، ومن حالفه الحظ عثر على إقامة مجانية في أحد المنتجعات السياحية التي استضافت النازحين، أو قدم له أهالي المنطقة منزلا شاغرا دون بدل إيجار، أو حصل على إقامة مشتركة في منازل الأقارب والأصدقاء، وهم يستفيدون شهريا من المساعدات التي تقدمها بلديات المنطقة بالتعاون مع مغتربين ومنظمات دولية.

عائلات الحزبيين، تتلقّى بدلات إيجار تتراوح بين 100 إلى 300 دولار شهريا، إضافة إلى سلة غذائية وطبابة مجانية ومساعدات متفرّقة

نازحو القرى المسيحية لهم شكاواهم أيضا، فهم لا يتلقون أي نوع من المساعدات التي تنهال على غيرهم، ذلك أن المعنيين لم يصنفوهم نازحين، ولم يشملوهم ضمن خطة التقديمات، باعتبار أن قراهم غير مستهدفة، وهم يعدون هذا التصنيف تجنيا وتهربا من المسؤولية، وبعضهم يعتبره عقابا سياسيا.
على سبيل المثال، تتعرض بلدة علما الشعب في القطاع الغربي، منذ بدء الحرب، بشكل يومي للاعتداءات الإسرائيلية، وقد مُنيت بخسائر فادحة في بيوتها وأراضيها ومواسمها الزراعية وممتلكات أهلها (خسارة أسطول من السيارات الأثرية)، ونزح منها نحو 250 عائلة.
الحال نفسها تسري على قرية يارون في القطاع الأوسط. فإضافة إلى تهجيرها والدمار الذي لحق بها، دمرت الغارات المعادية كنيستها، على دفعتين، وأحرقت أراضيها الزراعية بالفوسفور والقنابل الحارقة، وتشتت سكانها في المناطق اللبنانية، كذلك في جارتها رميش، التي صمد عدد غير قليل من سكانها، خاصة المزارعين، رغم الظروف الأمنية التي تشكل خطرا مباشرا على حياتهم، وقد حولتها الحرب إلى جزيرة معزولة، الحياة فيها شبه معطلة، لا تصلها البضائع الأساسية، ولا يدخلها أحد، بعد أن كانت قبل الحرب، مركزا تجاريا وتعليميا في المنطقة.
أما بلدات دير ميماس وبرج الملوك والقليعة وجديدة مرجعيون في القطاع الشرقي، فقد سجلت هي الأخرى حركة نزوح، خصوصا من قبل النساء والأطفال، وأصحاب البيوت المنعزلة، حيث تركز الطائرات الإسرائيلية اعتداءاتها.
هذه القرى مستثناة من حسابات الثنائي، وغالبية عائلاتها النازحة لا تتقاضى بدلات إيجار أو أي نوع من التقديمات، وتصرف على نزوحها من مالها الخاص، أو من مساهمات المغتربين والمتمولين والكنيسة والمنظمات الحكومية والدولية. 

أظهرت الحرب بين "حزب الله" وإسرائيل، عمق الانقسام السياسي في لبنان، وهذا ليس بجديد، لكن الجديد والعجيب، أنها قسمت الشيعة للمرة الأولى إلى فئتين، ليس ضد الحرب أو معها، أو مع المقاومة أو ضدها، بل ضد قرار "الحزب" بفتح جبهة الجنوب.

 أ ف ب
أفراد عائلة لبنانية هجرت من قرية قرب الحدود الإسرائيلية إلى بلدة حاصبيا في 26 أكتوبر

عادة يصطف الشيعة خلف "الحزب" في كل قراراته، ولا يحيد منهم إلا قلة قليلة، تكاد تكون منبوذة، لكن بعد دخوله "حرب الإسناد" فقد "الحزب" هذا الإجماع، وإن لم يكن بشكل علني، فليس تفصيلا أن ترتفع أصوات فردية وحتى جماعية من قلب البيئة الحاضنة، تتهم "الحزب" بأنه "افتعل القتال" مع إسرائيل يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول، وأن ما فعله لا يعود بالفائدة على الصعيد الوطني، وليس من أجل حماية لبنان من الخطر الإسرائيلي، إنما له هدف إقليمي، ويصب في مصلحة إيران وحدها. 
وينعكس هذا الانقسام على واقع النزوح، الذي كشف وجود نوع من الفوقية في التعامل مع النازح الشيعي، فهناك نازحون "مهمون جدا" (VIP)ونازحون من الفئات الشعبية... الفئة الأولى هم جماعة "الحزب"، بينما الثانية هم جماعة "الحركة"، والسبب أن "المال الشريف" يتدفق على خزائن "الحزب" فقط، ويصرفه على محازبيه وأنصاره، ويوزع الفائض على من حوله، أما "الحركة" فلا تملك سيولة، خصوصا بعد الانهيار الاقتصادي، ولولا عواطف المغتربين الذين يسخون على الجنوب في حالات ضعفه، لشهدنا انفجارا اجتماعيا وسياسيا مدويا.

font change

مقالات ذات صلة