لبنان... السلاح وسيناريوهات الحرب الأهلية-الإقليمية

كأننا إزاء مرحلة شبيهة بالعام 2004

أ ف ب
أ ف ب
قوات الأمن اللبنانية تتفقد موقع غارة جوية إسرائيلية في بعورتا، قرب بلدة الدامور الساحلية، على بُعد حوالي 20 كيلومترًا جنوب بيروت، في 22 أبريل 2025

لبنان... السلاح وسيناريوهات الحرب الأهلية-الإقليمية

على الرغم من أن ترتيب لبنان في قائمة الساحات التي تحظى بأهمية استراتيجية للمنطقة والعالم قد تراجع أمام تقدم سوريا إلى واجهة المشهد الإقليمي، فإن مسألة سلاح "حزب الله" التي تزداد تعقيدا تبقيه تحت الضوء وفي عين الخطر.

بصيغة أخرى، فإن لبنان صار ينظر إليه من زاوية مختلفة بعد التغيير السوري الكبير، على اعتبار أن الترابط بين البلدين بدأ يسلك مسارات جديدة. فبعد أن هيمنت علاقة "حزب الله" بالنظام القديم على مجمل العلاقات اللبنانية-السورية، فإن سقوطه قلب المعادلة، فأصبحت علاقة "الحزب" بسوريا علاقة صدامية في مقابل بروز إيجابية حذرة في علاقة السلطة الجديدة في لبنان بالسلطة الجديدة في سوريا.

صحيح أن الحدث السوري لا يفسر كل ما يحصل في لبنان، وتحديدا مواقف "حزب الله" في مقاربة المرحلة الجديدة، خصوصا أن التحدي الذي تفرضه إسرائيل على "الحزب" ولبنان عموما لا يزال التحدي الرئيس على الساحة اللبنانية. لكن بالرغم من ذلك فإن تأثيرات الحدث السوري على الداخل اللبناني ليست ثانوية، بل هي جزء رئيس من محركات المشهد السياسي وبالأخص لجهة موقف "الحزب" وقدرته على التأقلم مع الوقائع الجديدة، ولا سيما في ما يتصل بمسألة سلاحه، الذي فرض اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل أن يزال من منطقة جنوب الليطاني بأقل تقدير، بينما يكتنف الغموض مقتضيات الاتفاق في ما يخص مستقبل هذا السلاح شمالي النهر، في وقت يؤكد فيه "حزب الله" أن الاتفاق لم يشمل سلاحه على كامل الأراضي اللبنانية بينما لا تتردد إسرائيل في قصف مخازنه خارج منطقة جنوبي النهر.

لكن في مطلق الأحوال فإن كلام الرئيسين جوزيف عون ونواف سلام عن حصرية السلاح بيد الدولة، لا يفصل بين ضفتي النهر، وإن كانت منطقة جنوب النهر تحظى بأولوية قصوى، وبقبول "الحزب" الذي ما أعلن النائب في كتلته علي فياض، الأحد، أن "حزب الله" خرج عسكريا من منطقة جنوب النهر. وكان مصدر مقرب من "الحزب" قد أفاد وكالة "فرانس برس" أن هناك "265 نقطة عسكرية تابعة لـ(حزب الله)، محددة في جنوب الليطاني، وقد سلم (الحزب) منها قرابة 190 نقطة" إلى الجيش اللبناني.

وحتى لو كان هذا القبول ينطوي على مناورة ويبقيه عرضة للاستنزاف الإسرائيلي فإن الإشكالية السياسية الرئيسة المتصلة بسلاح "حزب الله" تتركز في كيفية التعامل معه خارج منطقة جنوب النهر، أي خارج منطقة الاشتباك التقليدي بين "الحزب" وإسرائيل. وهو ما يطرح علامات استفهام عن جدوى هذا السلاح بعيدا عن الحدود حتى ولو كان "الحزب" لا يزال يربط سلاحه بردع إسرائيل، متجاوزا أن الحرب الأخيرة قد أسقطت هذا الردع بأسرع مما هو متوقع.

"حزب الله" سرعان ما حدد، عبر عدد من نوابه، سقفا لـ"الحوار الثنائي" بربطه بشرطين رئيسين: وقف إسرائيل استهدافاتها في لبنان وانسحابها من النقاط الحدودية الخمس التي لا تزال تحتلها

لكن واقع الأمر أن "الحزب" لا يربط سلاحه بالمواجهة مع إسرائيل حصرا، بل بدأ يضعه في إطار مواجهة المتغيرات السورية، بالارتكاز، إعلاميا، على المواجهات التي شهدتها الحدود اللبنانية-السورية في الآونة الأخيرة والتي احتواها اجتماع وزيري دفاع البلدين في جدة الشهر الماضي والذي انتهى إلى اتفاق بشأن ضبط الحدود بين البلدين. وكان جليا منذ اللحظة الأولى أنه لا يمكن مقاربة هذه المواجهات بوصفها خلافا لبنانياً-سورياً بحتا، بل بكونها تمس التوازنات الجديدة في المنطقة.

في السياق كان لافتا الأسبوع الماضي تصريح مسؤول الارتباط والتنسيق في "حزب الله" وفيق صفا- الذي تحول إلى أبرز وجوه "الحزب" وأكثرها انفعالا بعد الحرب– والذي أعلن فيه سقوط مقاتل من "الحزب" في تلك المواجهات الحدودية، مضيفا أنه "إزاء هذه التطورات والمفاجآت والمنطقة تغلي، بالتأكيد سيتمسك الواحد بسلاحه". ثم ما لبث الأمين العام لـ"الحزب" نعيم قاسم أن أعلن: "إننا لن نسمح لأحد أن ينزع سلاح (حزب الله) أو ينزع سلاح المقاومة، فكرة نزع السلاح يجب أن تحذفوها من القاموس"، من دون أن يحذو حذو صفا بربط السلاح بالتطورات السورية.

وكما في كل مرة فإنه لا يمكن الفصل بين الأبعاد المحلية وتلك الإقليمية في المواقف التصعيدية لـ"الحزب". وإذا كان التطرق للأبعاد الإقليمية سابق لأوانه بعض الشيء ما دامت مسارات المفاوضات الأميركية الإيرانية لم تتضح بعد، وبالتالي من الصعب التكهن بكيفية تعامل طهران مع ملف "حزب الله" وسائر الميليشيات التابعة لها في المنطقة، ففي البعد الداخلي أتت هذه المواقف في أعقاب كلام الرئيس عون عن أن مسألة سلاح "الحزب" ستعالج بالحوار الثنائي معه وهو ما يشي بقبول ضمني من قبل "الحزب" بهذا الحوار وإلا لما كان عون أعلن عنه، مع الإشارة إلى دور لرئيس البرلمان نبيه بري فيه.

رويترز
الرئيس اللبناني جوزيف عون مستقبلا الموفدة الأميركية مورغان اورتاغوس في قصر بعبدا في 7 فبراير 2025

ما تجدر الإشارة إليه هنا أن "حزب الله" سرعان ما حدد، عبر عدد من نوابه، سقفا لهذا "الحوار الثنائي" بربطه بشرطين رئيسين: وقف إسرائيل استهدافاتها في لبنان وانسحابها من النقاط الحدودية الخمس التي لا تزال تحتلها، ومباشرة الدولة عملية إعادة إعمار المناطق المهدمة في الجنوب. وهو الموقف الذي أعاد نعيم قاسم تأكيده في خطابه الأخير والذي تضمن تصعيدا يفهم منه أن "الحزب" يريد إضافة إلى تحديد شروط الحوار ضبط لغته بحيث لا يحكى عن نزع للسلاح بل أن يكون "استيعابه" من ضمن الاستراتيجية الدفاعية للبنان.

وهذا يفتح ذاكرة المناورات والمماطلات والالتباسات في ما يخص الحوار مع "الحزب" بشأن الاستراتيجية الدفاعية والذي لم يحصل فيه أي تقدم منذ ما يقارب الـ15سنة. وإذا كانت المتغيرات التي فرضتها نتائج الحرب الإسرائيلية الأخيرة قد تدفع "الحزب" إلى إبداء مرونة أكبر أو بالأحرى الإيحاء بقابليته للنقاش بشأن مستقبل سلاحه، فإنه من غير المتوقع أن يكون "الحزب" جديا هذه المرة أيضا في مسألة تسليم سلاحه أو إدراجه من ضمن استراتيجية دفاعية تكون الإمرة فيها للدولة. هذا من دون الدخول في ما إذا كان يمكن للجيش اللبناني أن يتسلم هذا السلاح في ظل الرفض الإسرائيلي وحتى الأميركي لأن يكون في حوزته "سلاح نوعي".

الضغط الأميركي على الداخل اللبناني في مسألة سلاح "حزب الله" يزيد في تعقيدات المشهد، ويعيد التذكير بمرحلة عام 2004 غداة صدور القرار 1599

مع الأخذ في الاعتبار أن شكل الحوار الذي يطرحه رئيس الجمهورية يختلف عن المرات السابقة عندما كان يجري بمشاركة القوى السياسية الرئيسة بينما المعروض الآن أن يكون ثنائيا بين الرئيس و"الحزب"، وهذه مسألة مفتوحة على تعامل الأحزاب السياسية الأخرى مع هذا الحوار ونتائجه في حال حصل!

إنما المسألة الرئيسة هنا تبقى في أن الضغط الإسرائيلي المتواصل على "حزب الله" من خلال الاستمرار في استهداف كوادره يربك "الحزب" إرباكا شديدا ويدفعه إلى تعويض ضعف حيلته في الرد على إسرائيل بتشديد موقفه في الداخل اللبناني كما يحصل الآن.

كما أن الضغط الأميركي على الداخل اللبناني في مسألة سلاح "حزب الله" والذي عبرت عنه الردود الصادمة للمبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس على قاسم وبالأخص على وليد جنبلاط الأسبوع الماضي يزيد في تعقيدات المشهد، ويعيد التذكير بمرحلة عام 2004 غداة صدور القرار 1599.

وللمفارقة فإن موقف جنبلاط مشابه في كلا المرحلتين مع اختلاف الظروف. فهو كان أعلن من على درج الإليزيه بعد لقائه جاك شيراك في 4 ديسمبر/كانون الأول 2004 أنه مع معالجة مسألة سلاح "الحزب" بالحوار الداخلي، وأنه ضد "النهج الأميركي المغامر" ضد النظام السوري، الذي كان يتعرض لضغط أميركي في أعقاب غزو العراق. أما الآن فإن جنبلاط يأخذ الموقف ذاته تقريبا حيال الضغط الإسرائيلي والأميركي على "حزب الله"، بالرغم من تأكيده أنه "انتهى".

الأخطر في كل ذلك، وبالقياس أيضا على مرحلة 2004-2005 أن الضغط الأميركي قوبل بتشدد غير مسبوق من قبل النظام السوري و"الحزب" على الداخل اللبناني، بدءا من محاولة اغتيال مروان حمادة ثم الاغتيال الكبير، اغتيال رفيق الحريري، وما تلاه من اغتيالات لشخصيات سياسية في فلك "14 آذار". والسؤال الآن كيف سيرد "حزب الله"، داخليا، على حملة الضغوط ضده؟ هل سيقتصر تصعيده على الموقف السياسي، أم إنه سيسلك مسارات أمنية معقدة، قد تعيد إنتاج دورات التوتر في الداخل اللبناني؟

أي سيناريو متوقع لحرب أهلية يكون "الحزب" طرفا فيها لن يكون سيناريو لبنانيا بحتا على الأغلب

هذا سؤال مفتوح لا أحد يمكنه الإجابة عليه سوى "حزب الله" نفسه، لكن الربط الذي أقامه وفيق صفا بين سلاح "الحزب" والمتغيرات في سوريا، يفتح النقاش على عناوين قديمة–جديدة متصلة بطبيعة الحرب الأهلية المفتوحة منذ عقدين في المنطقة والتي تسمى اصطلاحا الصراع السني-الشيعي، والذي يتبين الآن أن سوريا كانت مسرحه الحقيقي حتى أكثر من العراق نفسه، مع ما لـ"حزب الله" من أدوار متعددة في هذا الصراع على سائر المحاور الإقليمية.

فإذا كان هذا الصراع قد شهد تبريدا في لبنان شمل وليد جنبلاط أيضا، فإنه لا يزال كالجمر تحت الرماد في سوريا وبين سوريا ولبنان، وهو ما يطرح سؤالا عن سيناريوهات أي حرب أهلية مستقبلية يجري التحذير منها، ومن قبل "حزب الله" تحديدا!

أ ف ب
الرئيس أحمد الشرع يلقي خطابا أمام اعضاء الحكومة الجديدة في القصر الرئاسي في دمشق يوم السبت 29 مارس 2025

فالحرب إن وقعت ستكون هذه المرة عابرة للحدود تماما كما كانت الحرب الأهلية السورية التي كانت مشاركة "حزب الله" فيها توسيعا لنطاق الحرب الأهلية اللبنانية. فبخلاف عام 1975 لا تتيح الوقائع اللبنانية الحالية تشييد حرب أهلية لبنانية بالمواصفات المتعارف عليها في الإقليم خلال العقدين الماضيين، بكل مجازرها وأهوالها، إلا إذا كان اعتبار أن الحدة في الموقف المسيحي من سلاح "حزب الله" شبيهة بموقفه من السلاح الفلسطيني في عام 1975، لكن الفارق أنه في ذلك العام كان المسيحيون يقاتلون لتفادي خسارة "امتيازاتهم"، أما وقد خسروها فهم الآن لن يقاتلوا لاسترجاعها. ثم إن لبنان 1975 غير لبنان 2025 من حيث أن لا أحد يستطيع الآن الادعاء بأنه يقاتل لإنقاذ لبنان أو لتطبيق مشروعه فيه في وقت أن الجميع أصبح يفكر في نطاق الجغرافيات الطائفية الضيقة.

ولذلك فإن أي سيناريو متوقع لحرب أهلية يكون "الحزب" طرفا فيها لن يكون سيناريو لبنانيا بحت على الأغلب. لكن هذا يبقى مجرد سيناريو بين سيناريوهات كثيرة لا يمكن التكهن بها ولا التنبؤ بحظوظها. إلا أن ما يستدعي الانتباه أيضا هو الانقسام داخل العراق بشأن إمكانية مشاركة الرئيس السوري أحمد الشرع في القمة العربية ببغداد في 17  مايو/أيار المقبل. وهو انقسام يعني ما يعنيه لجهة موقف القوى الموالية لإيران وموقف إيران نفسها من الحدث السوري المفتوح. وهذا أيضا صدى لموقف كل القوى من رفض تسليم سلاحها، وكأنها تتحسب لحروب أهلية–إقليمية قادمة أو أنها تستدعيها. وأحيانا قد لا ينفع كثيرا استحضار الخطة الإيرانية للتعامل مع هذه القوى في حال نجحت المفاوضات النووية أو فشلت، خشية أن يفهم  ذلك على أنه تقليل من حماسة أجيال المنطقة للقتال... "على طريق القدس".

font change

مقالات ذات صلة