هل تستعيد إيران نفوذها في سوريا بإشاعة الفوضى؟

شكّل سقوط نظام الأسد ضربة استراتيجية لم تتعرض لها إيران منذ عقود

 أ ف ب
أ ف ب
مقاتلان سوريان يحرقان علما لجماعة "فاطميون" الموالية لايران في خان شيخون السورية في الاول من ديسمبر

هل تستعيد إيران نفوذها في سوريا بإشاعة الفوضى؟

أطلق المرشد الإيراني علي خامنئي يوم 10 مايو/أيار تهديدات مبطنة ضد الحكومة السورية بمناسبة "أسبوع العمل والعمال"، جاء فيها "ما يقومون به في سوريا ليس دليلا على قوتهم بل دليل على الضعف وسيؤدي للمزيد من الضعف. جولات تيار الباطل ستنتهي خلال أيام". وتعكس هذه التصريحات المتكررة من رؤوس السلطة في طهران النفس المعادي للحكومة السورية. فمنذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، شهدت العلاقات بين إيران والقيادة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع حالة من التوتر والترقب، مع محاولات إيرانية لإعادة تقييم موقفها تجاه سوريا في ظل المتغيرات السياسية والجيوسياسية.

فقد شكّل سقوط نظام الأسد ضربة استراتيجية لم تتعرض لها إيران منذ عقود، أثرت على استراتيجية إيران الإقليمية، ويبدو أنها ستدفعها لإجراء إعادة حساب شامل لمشروعها الإقليمي، خصوصا مع دخول الولايات المتحدة على خط المواجهة مع الحوثي في اليمن وضعف وضع "حزب الله" في لبنان وتصاعد القوى السياسية الرافضة للنفوذ الإيراني في العراق. الأمر الذي دفع بالمسؤولين الإيرانيين إلى إصدار تصريحات متنوعة وانتهاج أسلوب الدبلوماسية الناعمة، وتحريك بعض القوى المثيرة للاضطرابات في سوريا من أجل استعادة نفوذها.

يستعرض هذا التقرير السياسات الإيرانية ومواقف المسؤولين الإيرانيين خلال الفترة من ديسمبر/كانون الأول 2024 إلى مايو/أيار 2025، مع التركيز على ديناميكيات العلاقة مع سوريا الجديدة ومدى قدرة الاستراتيجيات الإيرانية في استعادة نفوذها بسوريا.

السياق العام للموقف الإيراني

كان سقوط نظام الأسد ضربة جيوسياسية كبيرة لإيران، التي اعتمدت على سوريا كجزء أساسي من "محور المقاومة" وعمق استراتيجي لمناكفة إسرائيل من خلال الحروب بالوكالة، أدى هذا التغيير إلى ارتباك واضح في الخطاب الإيراني، حيث تباينت التصريحات بين التحذير من الفوضى والسعي لفتح قنوات تواصل مع القيادة الجديدة.

أ  ف ب
المرشد الايراني يتحدث الى لجنة الحج في طهران في 4 مايو

لقد أكدت إيران في البداية عدم وجود اتصال مباشر مع الإدارة السورية الجديدة، مع التركيز على مراقبة أفعالها قبل اتخاذ قرارات بشأن العلاقات المستقبلية. وشددت على أن موقف القيادة السورية الجديدة تجاه إسرائيل و"محور المقاومة" سيكون العامل الحاسم في تحديد طبيعة العلاقات، مع تحذيرات من اتخاذ مواقف معادية لطهران.

وتدرجت المواقف الايرانية على النحو التالي:

- المرشد الأعلى علي خامنئي: في 22 ديسمبر 2024 دعا خامنئي الشباب السوري إلى "الوقوف بإرادة قوية" ضد من وصفهم بـ"مثيري الفوضى" المدعومين من دول أجنبية، في تصريحات فُهمت على أنها تحريضية ضد القيادة السورية الجديدة. هذا الخطاب أثار ردود فعل سلبية من دمشق، التي اعتبرته تدخلا في شؤونها الداخلية وفي تصريحات لاحقة أكد خامنئي أن سقوط الأسد لن يضعف إيران أو "محور المقاومة"، ورفض فكرة انهيار هذا المحور، مشيرا إلى أن إسرائيل هي التي ستواجه الهزيمة. هذه التصريحات عكست محاولة للحفاظ على صورة القوة رغم الخسارة الاستراتيجية في سوريا.

بينما حاولت وزارة الخارجية الإيرانية تبني خطاب دبلوماسي، كانت تصريحات القادة المتشددين في طهران تحمل نبرة تحريضية أثارت استياء دمشق كما ركزت إيران على أهمية سوريا كجزء من "محور المقاومة"

- وزير الخارجية عباس عراقجي: في 8 ديسمبر 2024 أشار عراقجي إلى أن إيران كانت على علم بتحركات المعارضة السورية وقدمت تقارير أمنية لنظام الأسد، لكنه اتهم الولايات المتحدة وإسرائيل بالتخطيط وراء الكواليس لسقوطه. وفي 24 ديسمبر 2024 حذر عراقجي من التسرع في الحكم على الوضع في سوريا، قائلا إن "التطورات المستقبلية كثيرة"، في تصريح فُهم كتهديد مبطن. رد وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني بتحذير إيران من "بث الفوضى" واحترام سيادة سوريا. وفي تصريحات لاحقة، بعث عراقجي برسائل أهدأ، معربا عن رغبة إيران في علاقات متوازنة مع سوريا الجديدة، مما يعكس محاولة لتهدئة التوترات.
- قائد الحرس الثوري حسين سلامي: في ديسمبر 2024 أثار سلامي انزعاج دمشق بتصريحات حول استمرار نفوذ إيران في المنطقة رغم سقوط الأسد، مما دفع الشيباني إلى اتهام إيران بالتدخل في الشؤون السورية كما أشار إلى أن المستشارين العسكريين الإيرانيين ظلوا في سوريا حتى اللحظات الأخيرة، لكن المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية أكدت عودة 4000 إيراني من سوريا قبل السقوط.
وفي يناير/كانون الثاني 2025 عينت إيران الدبلوماسي محمد رضا رؤوف شيباني ممثلا خاصا لسوريا، في إشارة إلى رغبتها في فتح قنوات تواصل مع القيادة الجديدة، رغم التحديات الناجمة عن التوترات السابقة.

الاستراتيجية الإيرانية 


عكست التصريحات المتباينة بين خامنئي وسلامي من جهة، وعراقجي من جهة ثانية، حالة من عدم الوضوح في الاستراتيجية الإيرانية. بينما حاولت وزارة الخارجية تبني خطاب دبلوماسي، كانت تصريحات القادة المتشددين تحمل نبرة تحريضية أثارت استياء دمشق كما ركزت إيران على أهمية سوريا كجزء من "محور المقاومة"، مع تحذيرات من أن أي تقارب بين القيادة السورية الجديدة وإسرائيل سيؤدي إلى قطع العلاقات. 

ومع ذلك، أبدت طهران استعدادا للتعامل مع نظام ديمقراطي في سوريا إذا لم يعادِ إيران بشكل مباشر، وعليه فإن إيران تستثمر حاليا مع الإدارة السورية بسياسة الدفع والجذب. فيبدو أن إيران تسند في سياساتها البرغماتية مع الحكومة الجديدة على فرضية أن الغرب لن يفتح أبوابه لسوريا ولن يرفع عنها العقوبات ولن تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية، وبالتالي فإن هذا من شأنه أن يدفع الحكومة الجديدة إلى أن تتجه نحو التموضع مع المحور الإيراني الروسي من جديد، خصوصا في النموذج الاقتصادي الإيراني الملتف على العقوبات لكن هذه الفرضية ربما لا تصمد بسبب الاحتضان الإقليمي لسوريا خصوصا من الدول العربية وتركيا وهو ما لن يسمح لإيران باستعادة نفوذها حتى لو تحسنت العلاقات مع سوريا كسابق عهدها وستبقى في حدود العلاقات الطبيعية دون أية أبعاد أمنية وعسكرية من شأنها إعادة سوريا للمحور الإيراني، خصوصا أن الحكومة السورية لا تمانع بعلاقة طبيعية وندية مع إيران ضمن ترتيب معين من شأنه أن لا يغضب الإدارة الأميركية ولا يضر بمصالح الدول الإقليمية. 

 أ ف ب
مبنى القنصلية الايرانية في دمشق بعد قصفه من الطائرات الاسرائيلية في الاول من ابريل 2024

كما تحاول إيران استغلال حالة الهشاشة في مؤسسات الدولة السورية، وعدم سيطرتها المطلقة على الجغرافيا، والاستثمار في ثلاث قوى أسياسية على رأسها تنظيم "داعش" الذي يحاول استعادة نشاطه لضرب قدرات الدولة السورية الجديدة ومن خلال قيادة حزب "العمال الكردستاني" في جبال قنديل التي تحظى بعلاقة جيدة مع إيران وذلك لمنع تركيا من مد نفوذها إلى سوريا ومن خلال فلول النظام خصوصا القيادات الأمنية والعسكرية التي فرت إلى لبنان والعراق من خلال تأسيس غرف عمليات مع "حزب الله" اللبناني والميليشيات العراقية لتحريك الفوضى في الساحل السوري والكثير من المناطق من خلال استغلال انتشار السلاح وضعف حراسة الحدود السورية وانشغال الدولة السورية في عملية الانتقال السياسي. ففي31  ديسمبر 2024 نقلت وسائل إعلام إيرانية عن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي أكبر أحمديان أن "مقاومة جديدة" ستظهر في سوريا لمواجهة إسرائيل بعد سقوط بشار الأسد، بحسب ما نقل عنه الإعلام الرسمي. 

أدى سقوط نظام الأسد إلى تقويض المشروع الإقليمي الإيراني في سوريا، وهو ما دفع طهران للبحث عن طرق أخرى للعودة إلى سوريا، أو على الأقل عدم تركها ساحة مريحة لخصومها الإقليميين

بالنسبة للقيادة السورية الجديدة فإنها اليوم تبحث عن تموضع إقليمي مختلف عن التموضع الذي كانت عليه سوريا إبان حكم الأسد ومن الواضح أنها لن تكون أبدا جزءا من محور المقاومة ولن تسمح لإيران بأن تحول الساحة السورية إلى ساحة مواجهة بالوكالة مع إسرائيل من أجل تحقيق مشاريعها على حساب سوريا خصوصا مع المطالب الأميركية المشددة لتصنيف "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" كتنظيمات إرهابية، إضافة لموقف الشعب السوري السلبي من الدور الإيراني في دعم نظام الأسد وهو ما دفع بالقيادة السورية إلى أن تبدي حذرا شديدا تجاه إيران. فقد انتقد الشرع الدور الإيراني السابق، معتبرا أن الأسد جعل سوريا "مزرعة للأطماع الإيرانية"، بينما حذر الشيباني إيران من التدخل وبث الفوضى في سوريا، لكن بالعموم فإن الأدوات الإيرانية لن تكون فاعلة في تقويض الأمن في سوريا حيث بات النفوذ الإيراني في سوريا مرفوضا محليا من عموم الشعب السوري إلى جانب الرفض الإقليمي والدولي مع محاولة غربية لاحتواء الإدارة الجديدة في سوريا. أضف لذلك تعرض الأذرع الإيرانية في لبنان وغزة لضعف كبير بعد تعرضها لخسائر فادحة في قوتها البشرية والعسكرية ورفض الحكومة العراقية أن تكون بوابة للتدخل الإيراني في سوريا عبر الميليشيات التابعة لها ودخولها في مفاوضات مع إدارة الرئيس ترمب حول برنامجها النووي مما يدفعها للحرص على عدم استثارة الإدارة الأميركية من خلال تدخلها في سوريا أضف لذلك التهديدات الإسرائيلية باستهداف برنامجها النووي وهو ما سيجعل من قدرات إيران في استعادة نفوذها في سوريا مستبعدا في هذه المرحلة.
لقد أدى سقوط نظام الأسد إلى تقويض المشروع الإقليمي الإيراني في سوريا، وهو ما دفع طهران للبحث عن طرق أخرى للعودة إلى سوريا، أو على الأقل عدم تركها ساحة مريحة لخصومها الإقليميين لكن لا تزال العلاقات بين إيران والقيادة السورية الجديدة متوترة، خصوصا مع مطالب الولايات المتحدة بضرورة تصنيف كل من "الحرس الثوري" الإيراني و"حزب الله" اللبناني تنظيما إرهابيا كشرط للتخفيف من العقوبات الأميركية عن دمشق مع غياب أي تقدم ملموس في التواصل الرسمي بين البلدين. ويبدو أن القيادة الإيرانية لا زالت تتريث في تحديد استراتيجيتها في التعامل مع دمشق وهل ستسلك الأساليب الدبلوماسية التي من الممكن أن تعيد علاقتها مع سوريا لكن دون نفوذ كبير كما كان الحال سابقا أو أن تعتمد على تفجير الوضع الأمني وهو ما يمكن أن يكون خيارا فاشلا وتأثيره محدودا في ظل الدعم الدولي لدمشق خصوصا بعد فشل تمرد الفلول في الساحل السوري وهو ما سيزيد من توتر العلاقة بين دمشق وطهران ويقطع الطريق تماما أمام استعادة العلاقات بالوسائل الدبلوماسية. 

font change