المشهد من اليابان في زمن الاضطراب العالمي

التحدي الأكبر بالنسبة لطوكيو على مدى العقد الماضي يتمثل في الصعود العسكري للصين المجاورة

كات أونيل
كات أونيل

المشهد من اليابان في زمن الاضطراب العالمي

عدت إلى طوكيو أواخر العام الماضي بعد أن عملت في بغداد كسفير لليابان، وكانت عودتي إلى بلدي الأم من دواعي ارتياحي الكبير، بعد فترات عملي الطويلة في الخارج في بغداد ونيويورك وبيروت ودمشق وعمان في السنوات التسع الماضية على التوالي.

وكان يجب أن يكون شعوري بعد عودتي شعورا عارما بالراحة والرغبة في الاسترخاء باليابان لفترة من الوقت. إلا أنني بدلا من ذلك رحت أستشعر هذه المرة نوعا غير مألوف من القلق يحوم في أجواء طوكيو. إنه شعور بانعدام الأمن المتزايد في العالم، والذي يؤثر سلبا على مجتمعنا المسالم في اليابان. كان العيش في اليابان يعني تلقائيا أن بمستطاع أي شخص كان أن ينعم برفاهية الأمن والسلام التي قد يفتقدها الناس في مناطق أخرى من العالم، على أن رفاهية الاستقرار هذه بدأت تخفت حتى في اليابان بعد أن أصبحت الأزمات والصراعات العالمية الآن متداخلة بشكل معقد للغاية بغض النظر عن طبيعتها أو منطقتها.

كان التحدي الأكبر بالنسبة لليابان على مدى العقد الماضي يتمثل في الصعود العسكري للصين المتمثل في النشاط الجريء الذي تقوم به البحرية الصينية وخفر السواحل للتوسع البحري، بل ظهرت ميليشيات بحرية تتنكر في زي صيادين في محيط جزر سينكاكو. وبات من الطبيعي جدا أن تستفز القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي الصيني باستمرار قوات الدفاع الذاتي الجوية اليابانية من خلال التحليق في المجال الجوي الذي تسيطر عليه اليابان، بينما تقف القوة الصاروخية لجيش التحرير على أهبة الاستعداد لإطلاق أكثر من 4000 صاروخ من أنواع مختلفة ضد اليابان في أي لحظة بمجرد نشوب صراع. وإذا لم يكن في ذلك كله ما يكفي، فها هي الترسانة النووية الصينية التي تبلغ حوالي 500 رأس نووي ترفع عدد تلك الرؤوس إلى أكثر من 1000 بحلول عام 2030.

جاءت الإجراءات الجمركية المعادية من الأميركيين صدمة حقيقية لليابانيين الذين لم يكونوا يتوقعون مثل هذه الخطوة العدائية من طرف صديق

الصدمة الأكبر التي أصابت اليابان مؤخرا هي بالطبع زيادة التعريفة الجمركية الأميركية التي أعلنها الرئيس ترمب في 2 أبريل/نيسان بنسبة 24 في المئة، بالإضافة إلى زيادة التعريفة الجمركية الأميركية على السيارات وأجزائها وكذلك الصلب والألومنيوم بنسبة 25 في المئة. ووفقا لبعض التوقعات الاقتصادية، ستؤدي هذه الإجراءات الجمركية الأميركية إلى خفض نمو الناتج المحلي الإجمالي لليابان بنحو 0.7 في المئة على الأقل وستؤثر بشدة على قطاع السيارات الياباني الذي يعمل به أكثر من 5.5 مليون عامل. وفي الواقع، فإن السوق الأميركية هي أكبر وجهة لتصدير السيارات اليابانية في العالم، وقد بيعت فيها 1.37 مليون سيارة يابانية في عام 2024، وتشكل صادرات السيارات اليابانية إلى الولايات المتحدة حوالي 34 في المئة من إجمالي صادرات المنتجات اليابانية إلى الولايات المتحدة.

إلى جانب ذلك، فإن إجراءات التعريفة الجمركية الأميركية التي تستهدف دولا ثالثة مثل كندا والمكسيك تضيف اضطرابات خطيرة لسلاسل التوريد لشركات السيارات اليابانية التي استثمرت في هذه الدول لتصدير السيارات اليابانية إلى أميركا.

وبما أن اليابان هي أكبر مستثمر أجنبي في الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة وهي من أكثر الحلفاء الموثوق بهم والأكثر قربا للولايات المتحدة، فقد جاءت هذه الإجراءات الجمركية المعادية من الأميركيين الأصدقاء صدمة حقيقية لليابانيين الذين لم يكونوا يتوقعون مثل هذه الخطوة العدائية من طرف صديق. إننا نشعر بأن النظام الاقتصادي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة والذي كان سائدا منذ الحرب العالمية الثانية قد انتهى أو يكاد. ومما يزيد من شعورنا الكبير بالقلق أن مثل هذه التدابير الجمركية الأميركية الأحادية الجانب ضد جميع الدول، وخاصة دول جنوب شرقي آسيا، قد تشجع هذه الدول على تقبل السردية المحتملة للدول المركزية مثل الصين التي تتظاهر بأنها حامية للنظام الاقتصادي الليبرالي والمصلحة في المنافسة السياسية العالمية بين الولايات المتحدة والصين. ويساعد على ذلك الارتفاع الكبير في نسبة التعريفة الجمركية التي فرضتها أميركا على تلك البلدان، حيث تواجه كمبوديا تعريفات جمركية بنسبة 49 في المئة وفيتنام 46 في المئة وتايلاند 37 في المئة. ويزيد الطين بلة تصاعد موضوع أمني خطير يهدد جارنا الصديق، تايوان. لقد تحدث الرئيس الصيني شي جينبينغ بشكل متزايد عن نيته غزو تايوان في السنوات الأخيرة. ويتحدث المحللون العسكريون الأميركيون علانية عن مثل هذا الاحتمال الطارئ الذي يحتمل أن يقع في عام 2027.

رويترز
تُظهر هذه اللقطة من فيديو نشرته القيادة الشرقية لجيش التحرير الشعبي الصيني في 2 أبريل 2025، مشاركة معدات عسكرية في مناورات بالذخيرة الحية بعيدة المدى في مياه بحر الصين الشرقي

وقد قام جيش التحرير الشعبي الصيني والقوات البحرية والجوية الصينية بتوسيع نطاق مناوراتهم العسكرية في المناطق القريبة من تايوان. حتى بلغت الجرأة بخفر السواحل الصيني أن يفتش القوارب التايوانية التي تبحر بين تايوان وجزيرة كينمن التايوانية على بُعد 10 كيلومترات فقط شرقي مدينة شيامن في فوجيان في البر الرئيس للصين كما لو كانت خاضعة للوائح الداخلية الصينية. وبما أن اليابان تستضيف أكثر من 50 ألف جندي من القوات الأميركية في اليابان مع تمركز كثيف في جزر أوكيناوا، وهي الجزر الواقعة في أقصى جنوب اليابان، فإن أي نزاع عسكري يتعلق بتايوان لا يمكن أن ينفصل عن أمن اليابان.

ما يزيد من شعورنا بعدم الارتياح هو الوضع المتدهور في الشرق الأوسط– وهي منطقة تعتمد عليها اليابان الآن في أكثر من 97 في المئة من وارداتها النفطية

بالإضافة إلى ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا ليست بعيدة بدورها عن اليابان. فمنذ بدء العدوان الذي تسببت فيه روسيا، كان موقف اليابان واضحا جدا في الدعوة إلى الأهمية الحاسمة لسيادة القانون، نظرا للوضع المتزايد الخطورة في آسيا، مع بروز الأنشطة البحرية غير القانونية للصين بشكل واضح جدا في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. والواقع، كما ذكر رئيس الوزراء الياباني آنذاك كيشيدا، أن "أوكرانيا اليوم هي آسيا الغد"، حين قارن الحرب في أوكرانيا بالغزو المحتمل للصين على تايوان. وشدّ ما أدهشنا أيضا الظهور المفاجئ لآلاف الجنود الكوريين الشماليين وهم يقاتلون جنبا إلى جنب مع الروس ضد الأوكرانيين. ومن المؤكد أن ظهور تحالف عسكري جديد ينمو تدريجيا بين روسيا وكوريا الشمالية بالإضافة إلى المناورات العسكرية التي تجري بشكل أكثر انتظاما بين روسيا والصين حول الجزر اليابانية يثير القلق بشكل متزايد بالنسبة لنا.

اليابان والسلام

إن تزايد التهديدات والاضطرابات في مناطق مختلفة من العالم يكفي لدفع كثير من اليابانيين للتساؤل عما إذا كان السلام والأمن اللذان طالما تمتعنا بهما في هذا الجزء من العالم يمكن أن يستمرا في المستقبل.

إننا هنا في اليابان لم نتعود على الاضطرابات وعدم الاستقرار، بخلاف من يعيشون في الشرق الأوسط مثلا، أولئك الذين اعتادوا على الحياة وسط صراعات مستمرة. ولذا فإننا قد نحتاج إلى التعلم من مرونة سكان الشرق الأوسط وقدرتهم على التكيف مع الأزمات.

وما يزيد من شعورنا بعدم الارتياح هو الوضع المتدهور في الشرق الأوسط– وهي منطقة تعتمد عليها اليابان الآن في أكثر من 97 في المئة من وارداتها النفطية، بعد تعليق محطات الطاقة النووية لفترة طويلة بعد تسونامي عام 2011 الذي ضرب فوكوشيما داي إيتشي. ومن الأمثلة الصارخة على ذلك موجة الهجمات التي شنها الحوثيون على السفن التجارية، بما في ذلك تلك التي تديرها شركات الشحن اليابانية الكبرى. إحدى هذه الحالات كانت السفينة "غالاكسي ليدر"، وهي ناقلة سيارات ترفع علم جزر البهاما وتشغلها شركة "نيبون يوسن" اليابانية، والتي استوليَ عليها في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023. واحتُجز طاقمها المكون من 25 فردا كرهائن لأكثر من عام. ونتيجة لمثل هذه الهجمات، قامت شركات شحن كثيرة بتحويل مساراتها بعيدا عن البحر الأحمر وقناة السويس، واختارت بدلا من ذلك الرحلة الأطول بكثير حول رأس الرجاء الصالح بين آسيا وأوروبا. لكن بعد الاتفاق المبرم بين واشنطن والحوثيين ثمة أمل في أن تهدأ التوترات في البحر الأحمر وتعود الملاحة هناك، ولو تدريجا، إلى وضعها الطبيعي.

أدى نشر قاذفات القنابل الأميركية من طراز "B-2" مؤخرا في دييغو غارسيا وإرسال حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون" إلى الشرق الأوسط إلى زيادة حدة التوترات الإقليمية

هجمات الحوثيين

بالنسبة لكثير من اليابانيين الذين يتعاطفون بشدة مع القضية الفلسطينية ويقدرون السلام والاستقرار، لا يوجد مبرر كبير لهجمات الحوثيين على السفن البحرية المدنية. لقد عطلت هذه الهجمات بشدة التجارة العالمية والنشاط الاقتصادي العالمي، مما يقوض أي مبرر مزعوم وراءها.

من بين جميع المخاوف المتعلقة بالشرق الأوسط، فإن أكثر ما يشغل بال الشعب الياباني اليوم هو احتمال نشوب حرب بين إسرائيل وإيران، وهو تصعيد– إن حدث– سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار على نطاق واسع ويعطل بشدة التدفق الحيوي للنفط والغاز من المنطقة.

وقد أدى نشر قاذفات القنابل الأميركية من طراز "B-2" خلال مارس/آذار الماضي في دييغو غارسيا (قال مسؤولون أميركيون أنه يجري استبدالها حاليا بقاذفات "بي-52") وإرسال حاملة الطائرات "يو إس إس كارل فينسون" إلى الشرق الأوسط إلى زيادة حدة التوترات الإقليمية. من وجهة نظر استراتيجية، من المقلق بالنسبة لليابان أن نرى تحول التركيز العسكري الأميركي بعيدا عن آسيا نحو الشرق الأوسط في وقت نواجه فيه تهديدات أمنية متزايدة من الدول المجاورة في شرق آسيا. ونظرا لموقعنا الجيوسياسي الضعيف، تعتمد اليابان على استمرار وجود قوة ردع أميركية قوية في المنطقة.

أ ف ب
امرأة تنظر إلى أفق المدينة مع وجود سحب في المسافة عند الغسق من منصة مراقبة مركز بونكيو المدني في طوكيو، 28 أغسطس 2024

إن هذا المشهد الاستراتيجي المتغير يجبر اليابان على التقدم بشكل استباقي، ومن الناحية المثالية، على لعب دور بناء أكثر في تعزيز السلام والاستقرار في جميع أنحاء الشرق الأوسط– من إيران والعراق وسوريا إلى غزة والضفة الغربية. ومما يشجعنا حقيقة أن الكثيرين في المنطقة ينظرون إلى اليابان بثقة واحترام، ويعترفون بالتزامنا بالسلام والاستقرار.

ومن خلال تجربتي الخاصة، أثناء التحدث مع العراقيين أو السوريين أو الفلسطينيين خلال أوقات الشدة، كنت أشعر على الدوام باحترامهم العميق وحسن نيتهم تجاه اليابان. هناك كلمتان عربيتان لهما صدى عميق في نفسي، هما: الصدق والصداقة. وقد حض الله تعالى على ضرورة أن ترتبط الشعوب بالثقة المتبادلة- خاصة في عالم يتزايد فيه الانجراف نحو الهاوية، حيث تتعرض سيادة القانون للتهديد، وأصبحت الصداقة المبنية على الثقة كنزا نادرا. حان الوقت لكي ترسم اليابان- بل والمجتمع الدولي- مسارا ثابتا خلال هذه الأوقات المضطربة بالعمل معا بروح التعاون والمسؤولية المشتركة.

font change