محطات في تاريخ "التعريفات الجمركية" للتجارة الدولية

ارتبطت بالحروب والكساد والانهيارات المالية... و"الغباء الاقتصادي"

سارة بادوفان
سارة بادوفان

محطات في تاريخ "التعريفات الجمركية" للتجارة الدولية

تعود التعريفات الجمركية إلى القرن الخامس عشر، مع الاكتشافات الكبرى للعالم، منذ كريستوفر كولومبوس، وتوسع التجارة الخارجية للدول الأوروبية التي قامت على أساس تعريفة جمركية مرتفعة للحد من الواردات التي ترتبط بتدفقات مقابلة من الذهب والفضة إلى الخارج.

أدت الثورة الصناعية في أوروبا، نهاية القرن الثامن عشر، إلى تغيير مهم في دور التعريفة الجمركية، فقد زاد إنتاج السلع بشكل كبير في الدول الصناعية، وظهرت السكك الحديد والسفن البخارية مما سمح ببيع المزيد من منتجاتها إلى الدول الأخرى، وعزز خفض تعريفاتها الجمركية على شركائها في التجارة، بعكس الدول التي كانت في بداية التصنيع تبقي تعريفاتها الجمركية مرتفعة، حماية لصناعاتها الناشئة.

كانت الولايات المتحدة بين آخر الدول التي رفضت نظرية ديفيد ريكاردو، أحد أعمدة المدرسة الكلاسيكية في علم الاقتصاد، حول الميزة النسبية في مجال التجارة الدولية، واتبعت سياسة حمائية تظهرت بوضوح مع "قانون ماكينلي للتعرفة الجمركية"، وهو قانون أميركي صدر عام 1890 وقضى بزيادة التعريفات الجمركية من أجل حماية الصناعات المحلية، فارتفع متوسطها كنسبة مئوية من القيمة الجمركية للواردات الأميركية من 20,5 إلى 29 في المئة.

يرى أنصار التجارة الحرة أن قيود التعريفات الجمركية تزيد الكساد، ووثّقوا ذلك برسم بياني على شكل حلزون أعدّه المؤرخ الاقتصادي الأميركي تشارلز كيندلبرغر، وقد تتبع من خلاله تراجع التجارة العالمية بنحو 65 في المئة، وذلك ما بين 1929 و1933

وفرضت عام 1922 أعلى زيادة في التعريفات الجمركية بمقتضى "قانون فوردني ماك كومبر" الأميركي، بلغ متوسطها 38 في المئة. وبعده في عام 1930، صدر قانون "سموت-هاولي" الذي قرر زيادة في التعريفات الجمركية بنسبة 59 في المئة على أكثر من 3200 سلعة مستوردة إلى الولايات المتحدة في محاولة لتخفيف آثار انهيار "وول ستريت" في خريف عام 1929. وكان رد فعل الدول الأوروبية واليابان على هذا القانون، زيادة رسومهما الجمركية أيضا، مما أدى إلى تسريع انتشار الأزمة المالية دوليا.

"غباء اقتصادي بحت"

وقد عارض الزيادة الأخيرة كثيرون، ووقع 1028 خبيرا اقتصاديا عريضة تطالب الرئيس الأميركي هربرت كلارك هوفر بنقض القانون، من بينهم الاقتصادي الشهير إيرفينغ فيشر، صاحب النظرية الكمية للنقود، كما اعتبره صانع السيارات هنري فورد "غباء اقتصاديا بحتا".

ورأى أنصار التجارة الحرة أن قيود التعريفات الجمركية هي التي زادت الكساد، ووثّقوا ذلك برسم بياني على شكل حلزون أعدّه المؤرخ الاقتصادي الأميركي تشارلز كيندلبرغر. وقد تتبع من خلاله تراجع التجارة العالمية بنحو 65 في المئة، وذلك من يناير/كانون الثاني 1929 إلى مارس/آذار 1933، من نحو ثلاثة مليارات دولار شهريا إلى ما يزيد قليلا على مليار دولار.

سارة بادوفان

في المقابل، اعتبر آخرون أن نقص السيولة الدولية هو السبب الرئيس لانكماش التجارة، وأن الحمائية لا تؤدي إلى الركود. من أنصار هذا الرأي، بول كروغمان، موريس آلياس، وميلتون فريدمان، وجميعهم حائزون جائزة نوبل في الاقتصاد.

وفي عام 1933، اجتمع ممثلون من 66 دولة في لندن لمحاولة إيجاد مخرج من الكساد، من خلال التعاون في خفض الحواجز التجارية واستقرار أسعار الصرف، ولم يفض الاجتماع إلى النتائج المرجوة لعدم موافقة الدول التي تخلت عن قاعدة الذهب (إنكلترا والولايات المتحدة) على تثبيت القيمة الإسمية لعملاتها الذي تطالب به الدول التي أبقت القاعدة السابقة، ومنها فرنسا.

من الـ"غات" إلى منظمة التجارة العالمية

في العام 1934 أقر الكونغرس الأميركي قانون "اتفاقات التجارة المتبادلة" الذي منح الرئيس الحق في خفض التعريفات الجمركية أو زيادتها، بنسبة تصل إلى 50 في المئة، من مستويات تعريفات سموت-هاولي، في مقابل تنازلات مماثلة من الدول الأخرى. وأبرمت إدارة روزفلت على أساسه اتفاقات تجارية مع 19 دولة في أوروبا والقارة الأميركية. ونجم عن خفض التعريفات الجمركية في منتصف الثلاثينات، إطلاق موجات نمو لعدد من الاقتصادات.

أول من انتبه إلى هشاشة ارتباط الدولار بالذهب، هو الرئيس الفرنسي شارل ديغول، فكان السباق في تسليم الولايات المتحدة دولارات مطالبا إياها بما يقابلها ذهبا مما دفع الرئيس ريتشارد نيكسون إلى الإعلان عام 1973 عن فك ارتباط الدولار بالذهب، مطلقا بداية نظام "سعر الصرف العائم"

في العام 1945 قرر المنتصرون في الحرب العالمية الثانية التخلي عن السياسات الحمائية التي فاقمت الكساد، فكانت ولادة الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (غات) في عام 1947، ووقعتها 23 دولة. أهم أهدافها العمل على خفض التعريفات الجمركية من خلال اعتماد مبدأ الدولة الأولى في الرعاية لكل دولة طرف، وإلغاء نظام الحصص، ولجم الدعم والإعانات الحكومية، ووضع إطار لحل النزاعات التجارية الدولية من طريق المفاوضات، مما هيأ لإنشاء منظمة التجارة العالمية في عام 1995 التي باتت تضم 164 دولة وتمثل ما يزيد على 98 في المئة من التجارة العالمية والناتج المحلي التجاري العالمي.

"بريتون وودز" وتسوية الالتزامات الدولية 

وأنشئت بعد الحرب العالمية مؤسسات جديدة أخرى متعددة الأطراف، لرعاية التعاون النقدي الدولي والحفاظ على الاستقرار المالي وتسهيل التجارة الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وقضت اتفاقية "بريتون وودز" في يوليو/تموز من عام 1944، باعتماد الدولار الأميركي عملة وفاء وتسوية في الالتزامات الدولية، حيث شكلت الولايات المتحدة أكثر من نصف الناتج الاقتصادي والاحتياطيات العالمية من الذهب، على أن تحدد قيمته بنسبة معينة من الذهب، كما هو الأمر بالنسبة إلى سائر عملات العالم، وتستبقى الاحتياطات الذهبية الأجنبية في الولايات المتحدة التي تبقى ملتزمة رد هذه الاحتياطات إلى اصحابها عند الطلب. ويكون لهذه الدول رد ما تحوزه من دولارات إلى الولايات المتحدة ومطالبتها بما يقابلها من الذهب وفقا لسعر 35 دولارا للأونصة.

فك ارتباط الدولار بالذهب

وسرعان ما ظهرت تشوهات الترتيبات السابقة، وأولها ما يعرف بـ"معضلة تريفين"، طرحها الاقتصادي البلجيكي-الأميركي روبرت تريفين في ستينات القرن العشرين ومضمونها تحقيق أمرين متناقضين مع الوقت هما: 1 - الاستقرار المالي والنقدي العالمي، و2 - استمرار الولايات المتحدة بعجزها عن توفير الدولار للعملاء الأجانب تحت طائلة التسبب بركود عالمي في حال رفض الأجانب توفير الدولار للأسواق العالمية. فقد كانت الدول تجهد لمراكمة احتياطيات دولارية وتخشى من فقدان قيمتها بسبب عجز الحساب الجاري الأميركي.

ثانيها، هشاشة ارتباط الدولار بالذهب. وأول من انتبه إليها الرئيس الفرنسي شارل ديغول فكان السباق في تسليم الولايات المتحدة دولارات مطالبا إياها بما يقابلها ذهبا مما دفع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الإعلان عام 1973 عن فك ارتباط الدولار بالذهب، مطلقا بداية نظام "سعر الصرف العائم".

ثالثها، ارتفاع الدولار وتسببه بصعوبات في تصدير الصناعة، مما دفع الولايات المتحدة إلى دعوة حكومات فرنسا وألمانيا الغربية واليابان وإنكلترا إلى اجتماع في فندق بلازا في نيويورك في سبتمبر / أيلول 1985 لبحث خفض منظم في قيمة الدولار أمام الين والمارك في أسواق صرف العملات، تم على أثره خفض العجز في الحساب الجاري مع ألمانيا فقط لا اليابان. وهذا ما دفع بعض السياسيين إلى دعوة الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان إلى العودة إلى الحمائية، وهو أمر رفضه الأخير كليا في خطابه إلى الأمة في نوفمبر/تشرين الثاني 1988، مذكرا بوصف الاقتصادي الأسكتلندي آدم سميث لها بأنها "حماقة"، وموضحا بأن ترويج بعض الساسة لها هو شكل من أشكال القومية الانعزالية، مختتما بالقول: "إن المزيد من التجارة وليس الأقل، هو المستقبل".

تضمن "اتفاقية مارالاغو"، حسب تقديرات ترمب ومساعديه، إرساء الاستقرار في النظام النقدي الدولي، من خلال استقرار سعر صرف الدولار، وتوسيع الصناعة الأميركية وصادراتها

وفي الثاني من أبريل/نيسان المنصرم أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب فرض رسوم جمركية لا تقل عن 10 في المئة على 184 دولة، وزيادتها بنسبة 145 في المئة على الصين، وبرر الأمر بأن بلاده كانت الأكثر ثراء بين عامي 1870 و1913 عندما كانت تفرض تعريفات جمركية، وبأن الشركاء التجاريين يفرضون تعريفات غير عادلة ويتلاعبون بعملاتهم مما جعل الأميركيين عرضة للنهب لعقود من الزمن، فاقتضى الرد الأميركي القوي.

توقيع اتفاقية "مارالاغو"... بالقوة

يمكن اعتبار ذلك خطوة أولى لتنفيذ ما سمي بـ"اتفاقية مارالاغو"، في إشارة إلى ما تم التوافق عليه في منتجع مارالاغو بين الرئيس ترمب ومساعديه، المستشار الاقتصادي بيتر نافارو، ووزير الخزانة سكوت بيسنت، ورئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين ستيفن ميران. والأخير نشر في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 مقالة مطولة عنوانها "دليل المستخدم لإعادة هيكلة النظام التجاري العالمي" A User's Guide to Restructuring the Global Trading System ضمنها خطة لإعادة التوازن إلى الأسواق الأميركية والعالمية، مستوحاة من اتفاقية بلازا لعام 1985.

سارة بادوفان

تشير الخطة إلى أن الولايات المتحدة ستلتزم إزاء الدول الأخرى حماية أمنها وحقها في الوصول إلى السوق الأميركية وإلى المستهلكين الأميركيين، على أن تلتزم الدول في المقابل دعم خطة خفض منظم في قيمة الدولار وخطة توسيع القطاع الصناعي الأميركي وتطويره من خلال شراء منتجاته أو المشاركة في مشاريعه، وقبول استبدال ديون الخزانة الأميركية الحالية بسندات خزانة جديدة.

يعتمد تحقيق ما سبق على أمرين: الأول، إطلاق حرب تجارية، عبر زيادات غير مسبوقة في التعريفات الجمركية، والتهديد بسحب المظلة العسكرية لإجبار المستهدفين على الانضمام إلى طاولة المفاوضات لتوقيع "اتفاقية مارالاغو".

والثاني، إطلاق صندوق ثروة سيادي أميركي تجمع فيه العملات الأجنبية مثل اليورو والين الياباني والرنمينبي، يستخدم في التدخل في أسواق الصرف الأجنبي لخفض قيمة الدولار.

نجحت اتفاقية بلازا في السابق لأن الدول المعنية بها كانت تحت السلاح الأميركي، في حين أن الوضع الراهن مختلف، إذ تتبوأ الصين موقع الصدارة في إنتاج السلع. وتثبت الوقائع أن الدولار لا يزال يمثل معضلة مستمرة للولايات المتحدة

وتضمن "اتفاقية مارالاغو"، حسب تقديرات ترمب ومساعديه، كاتفاقية بلازا، إرساء الاستقرار في النظام النقدي الدولي، من خلال توفير الاستقرار في سعر صرف الدولار، والاستدامة في الصادرات الأميركية وتوسيع الصناعة الأميركية وتطويرها، وتقليص العجز التجاري ومستوى الدين العام في الاقتصاد الأميركي، علما أن الأخيرين باتا يسجلان مستويات خطيرة على الاقتصاد الأميركي والعالمي.

لكن هذا التحليل غير دقيق، فاتفاقية بلازا نجحت في السابق لأن الدول المعنية بها كانت تحت السلاح الأميركي، في حين أن الوضع الراهن مختلف، إذ تتبوأ الصين موقع الصدارة في إنتاج السلع. وتثبت الوقائع أن الدولار لا يزال يمثل معضلة مستمرة للولايات المتحدة، على عكس التصريح الشهير لوزير الخزانة الأميركي جون كونالي عام 1971 بأن الدولار الأميركي "عملتنا، ولكن مشكلتكم". فالأميركيون يريدون دولارا قويا، ولكن ليس قويا للغاية. فحتى ولو تم التوصل إلى اتفاق وانخفضت قيمته لفترة، كما حصل بمقتضى "اتفاقية بلازا"، فإنه سيرتفع مجددا، ما دام هو عملة احتياطية عالمية.

أسواق الأسهم قالت كلمتها لترمب

لربما استلهم ترمب في قراراته قول المفكر الاقتصادي الفرنسي أنطوان دو مونكريستيان، صاحب كتاب "رسالة في الاقتصاد السياسي" الذي نُشر عام 1615، إن "التجار الأجانب هم مثل المضخات التي تمتص من المملكة الجوهر النقي... إنهم علقات تلتصق بالجسد الفرنسي وتسحب أفضل دمائه وتتغذى عليه".

.أ.ب
تذبذب الأسواق العالمية على وقع قرارات ترمب بفرض رسوم جمركية على عدد من دول العالم، بورصة نيويورك 7 أبريل 2025

لكن ما الذي حصل فعلا؟ لقد أدى اعلان ترمب في "يوم التحرير" إلى انهيار أسواق الأسهم في العالم، مما أعاد إلى الأذهان انهيارات مماثلة في البورصات العالمية في 1929 و1987 و2000 و2008 و2020. فقد قوبل الإعلان بتصعيد ندي مماثل من عدد من الدول في مقدمها الصين، تمثل في زيادة التعريفات الجمركية على الواردات الأميركية بنسبة 125 في المئة، مع خطر تعزيز الأخيرة لإجراءاتها الانتقامية بخفض قيمة عملتها، وبذلك تصبح العملات جزءا أكبر من الحرب التجارية. وهو أمر ظهرت بوادره مع تسجيل الدولار انخفاضا في أسعار صرفه، مع خوف من بيوعات ضخمة له ولسندات الخزانة الأميركية من قبل الصين، كخيار انتقامي. في حال حصول ذلك، سترتفع أخطار وقوع الاقتصاد الأميركي والعالمي في فخ الركود، وتهديد مكانة أميركا كملاذ عالمي، الأمر الذي دفع ترمب إلى تعليق الزيادات على التعريفات الجمركية لـ 90 يوما على الجميع باستثناء الصين، وفتح باب المفاوضات، لابرام اتفاقات مع الشركاء التجاريين.

font change

مقالات ذات صلة