إعادة كتابة قواعد التجارة العالمية... ثورة الصين الهادئة

كيف ستكون نهاية الحرب الاقتصادية بين واشنطن وبكين ولمن الأفضلية؟

سارة بادوفان
سارة بادوفان

إعادة كتابة قواعد التجارة العالمية... ثورة الصين الهادئة

فيما تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، نجد أنفسنا أمام سؤال جوهري ستترتب عليه عواقب استراتيجية كبرى: أي من الدولتين تمتلك الأفضلية اللازمة للصمود والانتصار؟ وكيف ستكون نهاية اللعبة؟ يشير التقييم الرصين للديناميكيات الحالية إلى أن الصين في وضع أفضل، إذ لا يمكنها الصمود في وجه الضغوط فحسب، ولكن لديها أيضا أفضلية لهندسة نظام اقتصادي جديد متعدد الأطراف، وذلك بناء على المعطيات الآتية:

أولا: الحرب التجارية بين أميركا والصين تعلن نهاية النظام الاقتصادي العالمي في فترة ما بعد الحرب الباردة

وصل النزاع التجاري المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين إلى منعطف حاسم مع فرض كلا البلدين تعريفات جمركية كبيرة. ففي 2 أبريل/نيسان 2025، أعلن الرئيس دونالد ترمب مجموعة شاملة من التعريفات الجمركية، بما في ذلك تعريفة أساسية بنسبة 10 في المئة على الواردات العالمية وتعريفات أخرى "متبادلة" تستهدف مجموعة من الأسواق المحددة، وفي مقدمتها الصين، التي واجهت تعريفة إضافية بنسبة 34 في المئة على جميع صادراتها إلى الولايات المتحدة، لتصل التعريفات الجمركية على تجارة السلع إلى الولايات المتحدة إلى نحو 145 في المئة. وفي رد فعل انتقامي، أعلنت الصين فرض تعريفة جمركية بنسبة وصلت الى 125 في المئة على كل الواردات الأميركية، على أن تسري بعد يوم واحد من سريان تعريفة ترمب.

جاء رد فعل الصين سريعا وحاسما ومحسوبا بشكل ملحوظ. وأرسلت بكين إشارة واضحة، مفادها أنها لن ترضخ للإكراه الاقتصادي. بيد أن الرد الأكثر أهمية يكمن في تحول الصين المستمر نحو المشاركة العالمية خارج الولايات المتحدة. فبدلا من الانكفاء إلى العزلة الدفاعية، تقدم الصين نفسها بشكل متزايد كرائدة للتجارة الحرة المتعددة الأطراف، وتعزز العلاقات مع أوروبا ودول الجنوب.

ثانيا: الصين تعيد صوغ نظام تجاري متعدد الأطراف

تتميز حقبة العولمة الصينية بالتجارة المفتوحة، والاستثمارات في البنية التحتية، وإلغاء الاعتماد على الدولار في التبادلات التجارية العالمية. ففي الوقت الذي تضاعف فيه الولايات المتحدة الرسوم الجمركية وتركز على سياسات "أميركا أولا"، تنفذ الصين استراتيجيا محسوبة وطويلة الأجل لتقدم نفسها كقائدة للعولمة.

أصبحت آسيا حجر الزاوية في توسع الصين في التجارة الحرة، ولا سيما بعدما دخلت اتفاقية "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" حيز التنفيذ في عام 2022، وهي أكبر تكتل تجاري في العالم يغطي 30 في المئة من الناتج المحلي العالمي

وفي الوقت الذي تغرق فيه واشنطن نفسها في حروب تجارية، تعمل بكين بهدوء على تجميع شبكة من اتفاقات التجارة الحرة وشراكات البنية التحتية في جميع أنحاء الجنوب العالمي. وليس ذلك مجرد سلوك انتهازي، بل هو عملية إعادة ترتيب متعمدة للاقتصاد العالمي، يمكن أن تعيد تعريف قواعد التجارة في القرن الحادي والعشرين.

آسيا: اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة هي النسخة الصينية من اتفاق الولايات المتحدة والمكسيك وكندا

أصبحت آسيا حجر الزاوية في توسع الصين في التجارة الحرة، ولا سيما بعدما دخلت اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (RCEP)، حيز التنفيذ في عام 2022 تحت إشراف رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، والاتفاقية تشكل أكبر تكتل تجاري في العالم يغطي 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومن خلال إلغاء 90 في المئة من الرسوم الجمركية بين الأعضاء، بما في ذلك دول الآسيان والصين واليابان وكوريا الجنوبية، أنشأت الصين فعليا كتلة اقتصادية آسيوية بسلسلة توريد متكاملة تعزز طفرة التصنيع في دول الآسيان.

تربط اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية لرابطة دول جنوب شرق آسيا الاقتصادات الأصغر بسلاسل التوريد الصينية. فمثلا، تستورد فيتنام حاليا 35 في المئة من مستلزماتها الصناعية الوسيطة من الصين، نتيجة خفض الرسوم الجمركية الذي يشجع على التكامل الإنتاجي الإقليمي. أما مشروع السكك الحديد العالية السرعة الطموح، الذي يربط بين الصين وفيتنام، والممول إلى حد كبير من خلال القروض الصينية، فيقرّب هانوي بشكل استراتيجي إلى سلسلة التوريد في بكين.

يذكر أن استثمار الصين في قاعدة ريام البحرية في كمبوديا – التي تبدو مدنية الطابع ظاهريا، ولكنها تنطوي على دلالات استراتيجية لا لبس فيها – يلقي الضوء على عزم بكين إنشاء نقاط نفوذ بحري محورية بعيدا من حدودها المباشرة. في حين أن التوسع الهادئ، ولكن المتعمد، لقدرات الصين البحرية في جنوب شرق آسيا، يُظهر بوضوح طموحاتها الاستراتيجية الأوسع، ورفضها الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة في السيطرة على الممرات الحيوية مثل مضيق ملقا.

سارة بادوفان

علاوة على ذلك، تتفاوض الصين حاليا على إجراء مراجعات لمنطقة التجارة الحرة بين بكين ورابطة دول جنوب شرق آسيا (CAFTA)، بهدف توسيع نطاقها لتشمل التجارة الرقمية والخضراء – وهما قطاعان تشهد فيهما القيادة الأميركية تراجعا ملحوظا.

رسالة رابطة الآسيان واضحة: بينما تواصل الولايات المتحدة فرض رسوم جمركية مرتفعة، تلتف آسيا حول رؤية الصين لتحقيق تكامل تجاري خالٍ من التعريفات الجمركية ومتمحور حول التصنيع.

الشرق الأوسط: من النفط إلى ممر التجارة الخضراء والذكاء الاصطناعي

تهدف محادثات اتفاقية التجارة الحرة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، التي أعيد إحياؤها في عام 2024، إلى تفكيك الحواجز في قطاعات تمتد من البتروكيماويات إلى الطاقة المتجددة. أما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، المرتبطتان بعلاقات أمنية أميركية، فباتتا تعتبران الصين الآن الشريك التجاري الأول لهما، حيث تجاوزت التجارة الثنائية 230 مليار دولار في عام 2023.

توسع العلاقات التجارية بين الصين ودول الخليج لم يعد محصورا في النفط، إذ أصبحت مدفوعة بشكل متزايد بالخوارزميات، والطاقة الشمسية، وبراغماتية استراتيجية تعكس تحولا نحو شراكة أوسع تقوم على التكنولوجيا والاستدامة

لكن توسع العلاقات التجارية بين الصين ودول الخليج لم يعد محصورا في النفط وحده، إذ أصبحت مدفوعة بشكل متزايد بالخوارزميات، والطاقة الشمسية، وبراغماتية استراتيجية تعكس تحولا نحو شراكة أوسع تقوم على التكنولوجيا، والاستدامة، والمصالح الطويلة الأمد. وفي الوقت الذي تسابق فيه الدول النفطية الزمن لإعادة تشكيل نفسها كمراكز عالمية للذكاء الاصطناعي والاستدامة، برزت الصين كشريك لا غنى عنه. هذا التعاون ليس مجرد تبادل تجاري، بل يرسخ موقع بكين كمهندس لنظام اقتصادي متعدد الأقطاب، تُستبدل فيه نماذج استخراج الموارد القديمة بالتكنولوجيا والطاقة الخضراء.

تناغم خليجي صيني حول الذكاء الاصطناعي

وتتلاقى قفزة الخليج في الذكاء الاصطناعي تماما مع الطموح التكنولوجي الصيني. فمخطط مدينة شينزين الذكية، الذي يوظف الذكاء الاصطناعي لتحسين استخدام الطاقة وتعقب انبعاثات الكربون، يجد نظيره المستقبلي في مشروع مدينة "ذا لاين" في الرياض. أما مجموعات "أطلس 900" للذكاء الاصطناعي التابعة لشركة "هواوي"، التي أصبحت تعمل الآن في كل من قطر والكويت، فتوفر القوة الحاسوبية الخام اللازمة لدول الخليج لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.

رويترز
وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، يتحدث في مؤتمر الأعمال العربي الصيني العاشر، في الرياض 11 يونيو 2023

وتأتي شركة التكنولوجيا الصينية العملاقة "ديبسيك" (DeepSeek) التي تعمل نماذجها اللغوية الكبيرة باللغة العربية (LLMs) والمصممة لتناسب اللهجات الخليجية، مما يساعدها في كل مجال، بدءا من الخدمات القانونية القائمة على الذكاء الاصطناعي في دبي وصولا إلى منصات التعليم الشخصية في الرياض.

شراكة مع السعودية في المسيرات والنفط

وفي الوقت نفسه، تتميز شركة "DJI" الصينية بحضورها القوي في سوق الطائرات المسيرة في الخليج، حيث تستخدم المملكة العربية السعودية طائراتها المسيرة للمراقبة والخدمات اللوجستية لتأمين مشاريع "رؤية 2030". وفي عام 2023، وقّعت "أرامكو" السعودية صفقات مع شركات الروبوتات الصينية لأتمتة مصافي النفط – وهو اندماج رمزي للاقتصادات القديمة والجديدة.

ويعتمد التحول الأخضر في الخليج بالقدر نفسه على الابتكار الصيني. ويرتكز هدف السعودية لعام 2030 في توليد 50 في المئة من الطاقة من مصادر متجددة، على الألواح الشمسية الصينية، التي تشكل 80 في المئة من وارداتها الكهروضوئية. أما مجمّع محمد بن راشد للطاقة الشمسية في دبي، وهو أكبر منشأة للطاقة الشمسية في موقع واحد في العالم، فيعمل بمحولات صينية وبطاريات تخزين من شركة CATL. واللافت أكثر هو تحالف إنتاج الهيدروجين، إذ تعمل الشركات الصينية على تحويل كل من عُمان والإمارات إلى مراكز إقليمية لإنتاج الهيدروجين.

أفريقيا: حقبة تجارية جديدة مدعومة بالتعليم والتكنولوجيا والصناعة

بينما يتشبث الغرب بنماذج عفا عليها الزمن من المساعدات والقروض في أفريقيا، تستثمر الصين في الأصول الأكثر قيمة في القارة الإفريقية، أي في شعبها والتكنولوجيا والإمكانات الصناعية. من المراكز التكنولوجية في رواندا إلى منصات التجارة الإلكترونية التي تربط لاغوس بشنغهاي، تتجاوز استراتيجيا بكين مجرد تجارة الموارد.

يدرس أكثر من 12,000 طالب أفريقي الآن في الصين سنويا، في إطار منح دراسية ممولة بالكامل، بينما تقوم المعاهد التي ترعاها الصين بتعليم اللغة الصينية والمهارات التقنية في 48 دولة أفريقية.

بلغت التجارة بين الصين وأفريقيا 290 مليار دولار في عام 2024، أي ضعف ما كانت عليه في عام 2015

لكن المغير الحقيقي للعبة هو التدريب المهني على التصنيع الذي لم تعد القوى العاملة الصناعية الأميركية تفخر به. تتعاون الصين مع الكليات المحلية في إثيوبيا لتدريب المهندسين على التصنيع المتقدم. وتعلّم البرمجة في أكاديميات "هواوي" لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في كينيا، وصيانة الألواح الشمسية في مراكز المهارات الكهربائية في زامبيا، ولوجستيات التجارة الإلكترونية في برنامج المواهب الرقمية في شركة "علي بابا". والنتيجة هي قوة عاملة شابة جاهزة لتزويد أفريقيا - والصين - القدرات الصناعية.

مكاسب الصين في أفريقيا وأسلوبها

وعلى عكس المانحين الغربيين الذين غالبا ما يعزلون الاستثمار عن المساعدات، تدمج الصين البنية التحتية مع المناطق الصناعية. وقد صُمم ميناء باغامويو في تنزانيا، على الرغم من تأخره، لجذب المزيد من المصانع إلى منطقتها الاقتصادية الخاصة التي تضم 700 مصنع، في مخطط يذكّر بصعود شينزين من منطقة صيد الأسماك.

بلغت التجارة بين الصين وأفريقيا 290 مليار دولار في عام 2024، أي ضعف ما كانت عليه في عام 2015. وقد تطوّر منتدى التعاون الصيني–الأفريقي ليصبح منصة لخفض الرسوم الجمركية على 97 في المئة من الصادرات الأفريقية إلى الصين، بما في ذلك الكاكاو والبن والمعادن. ولم تعد التجارة تعتمد على الموارد سوى بنسبة 30 في المئة فقط، فيما أصبحت التكنولوجيا والسلع المصنعة هي المكوّن الغالب.

.أ.ف.ب
منتدى التعاون الصيني الأفريقي، في بكين 30 أغسطس 2024

وليس هذا بالإيثار، بل هو تكافل استراتيجي. فمع ازدياد عدد أفراد الطبقة المتوسطة في أفريقيا إلى 1,1 مليار نسمة في حلول عام 2060، تكسب الصين سوقا لمركباتها الكهربائية، ومركزا للتصنيع الأخضر، وحليفا ديبلوماسيا في المشاركة في وضع قواعد التجارة العالمية. في المقابل، ستتمكن أفريقيا من امتلاك زمام المبادرة، وتتحول من مجرد مصدّر خام للكوبالت إلى منتج للبطاريات، ومن متلقٍ للمساعدات إلى شريك في التكنولوجيا.

أميركا اللاتينية تتجاوز عقيدة مونرو

لطالما اعتُبرت أميركا اللاتينية الفناء الخلفي للولايات المتحدة، لكنها اليوم باتت أحد أبرز ميادين النفوذ التجاري للصين. ففي عام 2024، تجاوزت الصين الولايات المتحدة لتصبح الشريك التجاري الأكبر لأميركا الجنوبية. وأبرمت بكين اتفاقيات تجارة حرة مع كل من تشيلي وبيرو وكوستاريكا ونيكاراغوا والإكوادور، وتجري حاليا محادثات متقدمة مع الأوروغواي. وبلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والمنطقة 450 مليار دولار في عام 2023، متجاوزا نظيره مع الولايات المتحدة للعام الثالث على التوالي.

ولا يقتصر الحضور الصيني في القارة على تصدير السلع فحسب، بل يمتد ليشمل بنية تحتية رقمية ناشئة. تبني الصين ما تسميه "طرق الحرير الرقمية" في البرازيل، من خلال شراكات في تكنولوجيا الجيل الخامس، ومحطات مراقبة فضائية في الأرجنتين، فيما يعمل منتدى الصين–سيلاك على تعزيز التجارة الإلكترونية والتكامل في قطاع التكنولوجيا المالية. حتى حلفاء واشنطن التقليديون، مثل بنما وجمهورية الدومينيكان، حوّلوا أخيرا اعترافهم الديبلوماسي من تايبيه إلى بكين، مدفوعين بوعود الوصول التفضيلي إلى الأسواق الصينية.

توشك سيطرة البترودولار على الأفول. ففي عام 2023، أتمّت الصين أول عملية تسوية لتجارة النفط الخام عبر الحدود باستخدام اليوان الرقمي، من خلال بورصة شنغهاي للبترول والغاز الطبيعي (SHPGX)

ويؤكد تطوير ميناء تشانكاي في بيرو، باستثمار يتجاوز 1,3 مليار دولار، رغبة بكين في تأسيس مركز لوجستي محوري يعزز مكانتها كأكبر شريك تجاري لأميركا اللاتينية، ويوسع حضورها في نصف الكرة الغربي. وفي السياق ذاته، تُظهر المراجعة التنظيمية الجارية في الصين في شأن صفقة بيع أصول شركة "سي. كي. هاتشيسون" في موانئ بنما، عمق حسابات بكين الاستراتيجية، وحرصها على ترسيخ وجودها بالقرب من أحد أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم: قناة بنما.

ثالثا: لماذا يُحكَم على الحروب الجمركية بالفشل؟

إن إخفاق الحروب الجمركية لا يكمن في استراتيجياتها أو في تكتيكاتها التفاوضية، بل في افتقارها إلى الحداثة الفكرية. فكتاب القواعد التجارية في القرن العشرين، المبني على الحواجز الجمركية وغير الجمركية، وتبادل السلع المادية، وهيمنة الدولار، قد تقادم مع مرور الزمان. ومع تصدّر الخدمات الرقمية، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية التقنية لمشهد التجارة العالمية، يبرز نموذج جديد يُعلي شأن الأصول غير الملموسة والديبلوماسية التعاونية على حساب منطق القوة التقليدي. لا يمكن فرض رسوم على ما لا يَعبر الحدود. وبينما تبني الولايات المتحدة جدرانا تجارية، تبني الصين جسورا من الرموز الرقمية والطاقة النظيفة، تربط بها دول الجنوب العالمي برؤيتها لمنظومة تجارة منفتحة. هذه ليست العولمة كما عرفها أجدادنا، فالتجارة الحديثة باتت بلا احتكاك، محسّنة خوارزميا ومبنية على مبدأ الجدارة.

1- المعايير التقنية: العملة التجارية الجديدة

في العصر الرقمي، لم تعد القوة الاقتصادية تقاس بإنتاج الصلب أو الحاويات، بل بقدرة الدول على فرض معايير التكنولوجيا. فقد أنشأت "هواوي" البنية التحتية للجيل الرابع في 70 في المئة من قارة أفريقيا و165 دولة حول العالم، مدمجة بروتوكولاتها التقنية ضمن شبكات تلك الدول. ومن خلال ترسيخ معاييرها في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وحوكمة البيانات، والأمن السيبراني، تضمن الصين اندماج هذه الدول ضمن نظام اقتصادي تقوده التكنولوجيا. وهكذا، ينشأ شكل جديد من التبعية، أكثر خفاء من الديون المالية، يعتمد على التحديثات التقنية والتدريب والتشغيل التفاعلي عبر المنظومات الصينية.

2-  اليوان الرقمي: زعزعة هيمنة الدولار

توشك سيطرة البترودولار على الأفول. ففي عام 2023، أتمّت الصين أول عملية تسوية لتجارة النفط الخام عبر الحدود باستخدام اليوان الرقمي، من خلال بورصة شنغهاي للبترول والغاز الطبيعي (SHPGX)، وبالاعتماد على تقنية البلوكشين التي تتيح التسوية الفورية.

shutterstock

هذا الربط بين "البترويوان والخوارزميات"، يلتف على نظام "سويفت"، مما يقلل التعرض للعقوبات الأميركية المحتملة. وقد جُرِّب اليوان الرقمي في تسويات مع السعودية وإيران، الأمر الذي يساهم في تآكل هيمنة الدولار. وتُستخدم العقود الذكية لضمان الامتثال، في حين تُدار سلاسل التوريد من خلال منصات تعتمد على الذكاء الاصطناعي مثل منصة "PetroChina's Energy Blockchain". ومن خلال الدمج بين تجارة الطاقة والابتكار الرقمي، تعمل الصين على رسم ملامح نظام مالي لامركزي، حيث تصبح سلسلة الكتل الوسيط الأساس، لا الشبكات التقليدية كـ"سويفت".

علاوة على ذلك، تتضمن استجابة الصين للرسوم الجمركية دفعا متعمدا نحو فك الارتباط عن الدولار، في خطوة تهدف إلى تقويض الهيمنة العالمية للعملة الأميركية. إذ تشجع بكين بشكل متزايد على إجراء المعاملات التجارية باليوان أو بالعملات المحلية الثنائية، لا سيما في أوساط الاقتصادات الناشئة والدول النامية. ومع اتجاه عدد متزايد من الدول للابتعاد عن التجارة المقومة بالدولار لتقليص تعرضها للعقوبات أو الضغوط المالية الأميركية، تضعف هذه الاستراتيجيا واحدة من أقوى أدوات النفوذ الاقتصادي الأميركي.

3- لا تعريفات على الخوارزميات

لا تزال الولايات المتحدة أسيرة أدوات تجارية تنتمي إلى عصر مضى. فبينما تفرض التعريفات على الصلب وأشباه الموصلات، باتت حركة التجارة تتجه نحو السلع الرقمية غير الملموسة: من محتوى TikTok القائم على الذكاء الاصطناعي، إلى خدمات الحوسبة السحابية Tencent، وصولا إلى برمجيات الطائرات المسيّرة من DJI. فهذه الخدمات التقنية تعبر الحدود بلا حواجز جمركية ولا عوائق تنظيمية.

لم يعد عصر العولمة المرتقب استمرارا للمنظومة النيوليبيرالية التي عرفها العالم بعد الحرب الباردة. بل سيكون عصرا تقوده الدولة، ومرتكزا على البنية التحتية، ومتمحورا حول العالم الرقمي

وكانت استجابة واشنطن متخبطة ومجزأة. فبينما تقيد صادرات رقائق "ASML" إلى الصين، تجد نفسها عاجزة أمام موجة أدوات الذكاء الاصطناعي الصينية التي تجتاح الأسواق الناشئة. فمساعد "ديبسيك" المنخفض التكلفة، على سبيل المثل، أصبح التطبيق الذكي الأكثر تحميلا في 140 سوقا حول العالم. وعندما حظرت واشنطن شركة "هواوي"، قامت دول جنوب شرق آسيا بكل بساطة بإعادة توجيه عقود الجيل الخامس إلى مزوّدي الخدمات السحابية الصينيين. أما منصة "Temu" للتجارة الإلكترونية، والمدعومة بالذكاء الاصطناعي، فقد تفوقت على "أمازون" في 18 دولة، لتثبت أن تفوقها يتعدى الأسعار المنخفضة إلى البنية التقنية.

.أ.ف.ب
صفوف من السيارات التابعة لشركة BYD الجاهزة للتصدير إلى دول أميركا الجنوبية، في ميناء تايكانغ بمقاطعة جيانغسو شرق الصين 8 أبريل 2025

إن تركيز الولايات المتحدة على التجارة المادية يتغاضى عن حقيقة أساسية: مفاتيح التجارة في القرن الحادي والعشرين لم تعد السلع، بل نماذج الذكاء الاصطناعي وسحب البيانات.

رابعا: الصورة الأشمل – هل نحن في صدد نظام تجاري لما بعد أميركا؟

ليست رؤية الصين للتجارة العالمية نابعة من إيثار أو مثاليات، بل هي استجابة براغماتية لصعود النزعات الحمائية الأميركية. فمن خلال توسيع شبكات اتفاقيات التجارة الحرة ومشاريع البنية التحتية، تسعى بكين إلى تقليص اعتمادها على السوق الأميركية، وتبني معايير جديدة في مجالات التجارة الرقمية والتكنولوجيا الخضراء. بل إن هذه المعايير الصينية باتت تُعتمد فعليا في العديد من القطاعات الناشئة ضمن اقتصادات الدول الصاعدة. وكل اتفاقية جديدة تبرمها الصين، تُضعف قدرة واشنطن على حشد تحالفات اقتصادية ضدها.

من شأن التداعيات الجيوسياسية أن تجعل هذا المشهد أكثر تعقيدا. فبينما تهدف تعريفات إدارة ترمب إلى إعادة توجيه الهيكل الاقتصادي العالمي لصالح الصناعة والتوظيف في الولايات المتحدة، يشير المسار الراهن إلى نتيجة مغايرة: نظام عالمي آخذ في التشكل، تقوده المبادرات الصينية، وتحدده طموحات بكين التكنولوجية، واستراتيجياتها الديبلوماسية الهادئة. أما الخطر المحدق بواشنطن، فيكمن في احتمالات العزلة الاقتصادية، وتراجع التأثير العالمي، وفقدان موقع الريادة في التقنيات الحيوية وأطر التجارة المستقبلية.

لم يعد عصر العولمة المرتقب استمرارا للمنظومة النيوليبيرالية التي عرفها العالم بعد الحرب الباردة. بل سيكون عصرا تقوده الدولة، ومرتكزا على البنية التحتية، ومتمحورا حول العالم الرقمي.

ويبقى نجاح هذا النظام الاقتصادي المتعدد الأطراف، المستوحى من الرؤية الصينية، مرهونا بقدرته على تحقيق التوازن بين الطموح والانضباط. لكن ما هو مؤكد، أن مع انكفاء الولايات المتحدة نحو الحمائية، بدأ مركز الثقل الاقتصادي في العالم يتحول تدريجيا – لا إلى بكين وحدها، بل إلى الجنوب العالمي الذي تبني معه الصين تحالفا صاعدا ومستقرا.

font change

مقالات ذات صلة