وزعت وزارة الخارجية الأميركية، قبل يومين، مبادئ رئيسة من خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الرياض يوم 13 مايو/أيار، تحت عنوان: "رؤية الرئيس ترمب لمستقبل مزدهر في الشرق الأوسط". بالفعل تستحق هذه "الرؤية" عرضا وتحليلا على اعتبار أنها تقدم بوضوح أولويات ترمب في المنطقة خلال السنوات الأربع المقبلة.
ترمب لم يخاطب الشرق الأوسط من واشنطن، ولا من القاهرة، بل قرر أن تكون أول زيارة خارجية إلى السعودية وقطر والإمارات. كان الرئيس جو بايدن قد أعلن من واشنطن، بعد أدائه اليمين الدستورية في 2021، أن "أميركا عادت" بعد "غيابها" خلال سنوات ترمب الأربع الأولى مع "أميركا أولا".
وفي 2009، قرر باراك أوباما مخاطبة العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، ليعرض "بداية جديدة" لتحسين العلاقة بين أميركا والعالم الإسلامي وردم الفجوة التي أحدثتها إدارة جورج بوش الابن خلال الحرب على الإرهاب بعد تفجيرات 11 سبتمبر/أيلول 2001 وغزو العراق في 2003.
هنا، الأمر المثير أن ترمب التقى الرئيس السوري أحمد الشرع في الرياض يوم 14 مايو/أيار، أي بعد عشرين سنة بالضبط من اعتقاله من قبل قوات أميركية في العراق يوم 14 مايو 2005. ولهذا اللقاء أهمية كبيرة فيما يتعلق بسوريا ورفع العقوبات عنها واستعادة علاقتها مع أميركا، لكن رمزيته كبيرة لأنه يقدم تصورا لـ"رؤية ترمب للشرق الأوسط".
بمعنى أن ترمب يجد نفسه مع الشرع في الخندق نفسه الرافض لسياسات أميركا التدخلية والداعم لنهج جديد في المنطقة. وفي نقد واضح لسياسة أسلافه إبان غزو العراق والسعي إلى "نشر الديمقراطية" وتغيير الأنظمة، قال ترمب: "لقد دمّر ما يُسمى (بناة الدول) دولا أكثر بكثير مما بنوها"، ثم أضاف: "أمام أعيننا، جيل جديد من القادة يتجاوز صراعات الماضي القديمة وانقساماته المتعبة، ويصوغ مستقبلا يتسم فيه الشرق الأوسط بالتجارة لا بالفوضى؛ ويُصدِّر فيه التكنولوجيا لا الإرهاب". وما لم يقله ترمب مباشرة، عبر عنه مبعوثه إلى سوريا وسفيره في تركيا توم باراك بعد لقائه الشرع في إسطنبول، بالقول إن "عصر التدخل الغربي قد ولى إلى غير رجعة. أما المستقبل فهو للحلول التي تضعها المنطقة بنفسها"، بعدما انتقد "فرض الغرب لخرائط (في الشرق الأوسط) ورسمه الحدود بأقلام رصاص".
رؤية ترمب تتضمن توقيع اتفاقات عسكرية واقتصادية وعلمية وصفقات كبرى تتعلق بصناعة "الرقائق" الإلكترونية الذكية، خلال جولته الخليجية، وعرض "مسار جديد وطريق أفضل" للشرق الأوسط
و"التحول العظيم" بالنسبة إلى ترمب، لم يأت جراء نجاح نماذج "أنفق عليها الأميركيون تريليونات الدولارات" في العراق وأفغانستان، لأن "المتدخلين" الأميركيين "تدخلوا في مجتمعات لا يفهمونها"، وألقوا "محاضرات عن كيفية العيش"، بل جاء من "النهج العربي... واحتضان تقاليدكم الوطنية واعتناق التراث نفسه الذي تحبونه بشدة"، حيث جاءت "ولادة الشرق الأوسط الحديث على يد شعوب المنطقة نفسها… فقد طورتم بلدانكم ذات السيادة، وسعيتم إلى تحقيق رؤاكم الفريدة، ورسمتم مصائركم بأنفسكم". فكان "التحول العظيم" في السعودية والخليج.
أما تفصيل الرؤية على الأرض، فتضمن توقيع اتفاقات عسكرية واقتصادية وعلمية وصفقات كبرى تتعلق بصناعة "الرقائق" الإلكترونية الذكية، خلال جولته الخليجية، وعرض "مسار جديد وطريق أفضل" مع إيران يتضمن اتفاقا لرفع العقوبات مقابل وقف تخصيب اليورانيوم، وتثبيت وقف النار مع "الحوثيين" بعدما "ضربناتهم بشدة"، إضافة إلى "مساعدة لبنان على التنمية والسلام مع جيرانه"، واحتضان سوريا، لمنع ظهور "داعش" والانضمام إلى "الاتفاقات الإبراهيمية".
هل "يدهش" الشرق الأوسط العالم هذه المرة ويسير نحو المستقبل بدلا من الماضي كعادته؟ هل ُتنتهز فرص الإعمار ولا تضيع فرصة أخرى؟
واضح أن ترمب يعرض مسارا جديدا في المنطقة، مسارا جديدا بالنسبة للسياسات الأميركية وجديدا بالنسبة إلى الدول ذاتها. وكما قال هو، فإن نجاح "الرؤية" وعناصرها يعتمد على "اغتنام الدول" هذه الفرص ووضع خلافاتها جانبا والتركيز على المصالح للوصول إلى شيء "يدهش البشرية".
لا شك أن شريحة واسعة في سوريا ولبنان تريد تجربة مسار جديد عما عاشته في العقود الماضية. تريد التركيز على الإعمار والازدهار. كما أن القادة في دمشق وبيروت لا يريدون الحرب مع الجوار بما فيها إسرائيل. ولا شك أن إيران في أعقد حالاتها في الإقليم منذ 46 سنة، وأضعف من عرقلة هذا المسار كما فعلت في العقود السابقة. هل "يدهش" الشرق الأوسط العالم هذه المرة ويسير نحو المستقبل بدلا من الماضي كعادته؟ هل تُنتهز فرص الإعمار ولا تضيع فرصة أخرى؟