الأردن في "تقاطع النيران"... النأي بالنفس عن التصعيدhttps://www.majalla.com/node/326081/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A3%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D8%B3-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B5%D8%B9%D9%8A%D8%AF
في الحرب التي تتكشف تفاصيلها بين إيران وإسرائيل، لا يبدو أن العالم يتعامل مع مجرد تبادل ناري عابر أو تصعيد تقليدي يُمكن احتواؤه، بل أمام مشهد جديد يعيد رسم خرائط الصراع على أكثر من مستوى، سياسيا وعسكريا وأيديولوجياً.
ومن الخطأ اختزال المواجهة الإسرائيلية–الإيرانية الأخيرة في إطار الضربات الوقائية لمنع إيران من امتلاك سلاح نووي فحسب. فالمتابع لتسلسل الأحداث، واللغة المستخدمة في الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، يلحظ أن ما يجري هو جزء من خطة استراتيجية متدرجة وطويلة المدى، تتجاوز البُعد العسكري التقليدي إلى ما هو أبعد: تقويض نظام الحكم في طهران نفسه، وزعزعة تماسكه الداخلي، وصولا إلى قلبه، أو على الأقل، تقليم أظافر الجناح الراديكالي المتشدد داخله.
منذ سنوات، وتحديدا منذ بدايات البرنامج النووي الإيراني، بدأت إسرائيل– عبر عمليات استخبارية معقدة، واغتيالات نوعية لعلماء نوويين، وضربات سيبرانية بالغة التعقيد، إلى جانب التنسيق المحكم مع حلفائها في الغرب- في بلورة مقاربة مزدوجة: الأولى تكنولوجية عسكرية تستهدف تعطيل مسار إيران نحو السلاح النووي، والثانية سياسية نفسية تسعى إلى إرهاق النظام الإيراني داخليا، وشحن الرأي العام الإيراني ضده.
وبالعودة إلى ما يجرى منذ فجر الجمعة الماضي، نلاحظ أن الاستهداف لم يقتصر على منشآت عسكرية أو نووية، بل طال بنى تحتية حيوية، منها محطات للطاقة، وحقول غاز، ومقرات لحرس الثورة ومراكز نفوذ أيديولوجي، وهذا التوسيع المقصود في بنك الأهداف يعكس نية واضحة لإضعاف قبضة النظام على مفاصل الدولة، وتجريده من قدرته على الرد، وتحويله إلى نظام هش متآكل من الداخل، لا يعود أمامه خيار سوى التفاوض.
الأردن تحديدا يقف أمام منعطف دقيق بحساسية شديدة، فهو من جهة مهدد أمنيا بشكل مباشر إذا توسعت رقعة الحرب، ومن جهة أخرى محكوم بتوازنات داخلية دقيقة
الدكتور عمر الرداد، وهو خبير أمني وسياسي أردني يشير إلى "تباين جوهري بين الموقفين الأميركي والإسرائيلي، إذ إن إسرائيل حتى اللحظة تريد إسقاط النظام فيما الولايات المتحدة لا زال لديها رهانات عبر عنها الرئيس الأميركي أكثر من مرة بإمكانية التغيير في إيران، وإمكانية ممارسة أقصى الضغط العسكري عليها لإجبارها على تقديم تنازلات والعودة لطاولة المفاوضات"، مضيفا أن "هذا التصعيد الذي نشهده اليوم من وجهة نظر أميركية تستهدف جلب المفاوض الإيراني إلى طاولة المفاوضات ضعيفا ليقدم تنازلات وفق الرؤية الأميركية وهذا يختلف عن الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه النظام الإيراني التي تستهدف تقويض النظام وإسقاطه"، مستطردا أنه "رغم أن الاستراتجية الإسرائيلية تلتقي مبدئيا مع فكرة إضعاف النظام الإيراني كما تريد الولايات المتحدة".
في المحصلة، وحسب قراءات عديدة فإن الجميع أمام عملية مركبة، لا تقف عند حدود الضربة العسكرية المحدودة، بل تسير وفق خطة أوسع تهدف إلى إعادة رسم المشهد السياسي في إيران، وإعادة هندسة النظام هناك، أو على الأقل نزع أنيابه الأيديولوجية والعسكرية ومخالبه الإقليمية، بما يخدم بيئة إقليمية أكثر انسجاما مع حسابات الأمن الإسرائيلي، ويُضعف أحد أبرز أضلاع محور المقاومة في المنطقة.
في المقابل، ترى طهران أنها تواجه عدوا ليس فقط عدوانيا بل هو مدعوم من قوى كبرى تتواطأ لكسر إرادتها الإقليمية.
رجلان من اليهود المتشددين يتفقدان الأضرار في موقع الهجوم الصاروخي الإيراني في بني براك، شرقي تل أبيب، في 16 يونيو 2025
التداعيات الدبلوماسية لهذا الصراع تحمل في طياتها إعادة رسم للعلاقات وتحالفات المنطقة، فالدول العربية، وعلى رأسها الخليجية، تجد نفسها في موقع بالغ الحساسية.
زاوية المشهد الأردني
يقف الأردن أمام منعطف دقيق بحساسية شديدة، فهو من جهة مهدد أمنيا بشكل مباشر إذا توسعت رقعة الحرب، ومن جهة أخرى محكوم بتوازنات داخلية دقيقة تجعل من أي اصطفاف علني خطرا على نسيجه الداخلي مع شارع محتقن منذ السابع من أكتوبر.
الحساسية الأردنية لا تتعلق فقط بالجغرافيا، بل بالتاريخ السياسي المركب للمملكة، وبتشابك ملفاتها مع كل من طهران وتل أبيب، ومع واشنطن أيضا، فعمّان لا تستطيع تحمّل رفاهية التفرّج، لكنها كذلك لا تملك ترف المشاركة، ولذلك، فهي تميل نحو خيار الصمت النشط، والمراقبة الدقيقة، والحفاظ على علاقاتها مع جميع الأطراف.
أكدت عمّان على سياسة "النأي بالنفس" من الصراع، عبر تصريحات مدير الإعلام العسكري: "الأردن اختار النأي بنفسه عن هذا التصعيد، وعدم الانخراط في الصراع الإيراني‑الإسرائيلي"
وقد اتخذ الأردن موقفا حذرا ومتوازنا، يعكس حرص الدولة الأردنية على حماية سيادتها وأمن مواطنيها، ورفضها أن تتحول أرضها إلى ساحة صراع، وفور بدء الضربات الإسرائيلية، أغلقت الحكومة الأردنية أجواء المملكة مؤقتا واعترضت أنظمة الدفاع الجوي صواريخ وطائرات مسيّرة دخلت مجالاتها، مؤكدة عبر كل مسؤول ولسان كل ناطق رسمي وغير رسمي على ضرورة عدم السماح بانتهاك السيادة الأردنية .
وكان بيان رسمي من مكتب الملك عبد الله الثاني، عقب اجتماع مجلس الأمن الوطني، قد وصف العدوان الإسرائيلي بأنه "انتهاك صارخ لسيادة دولة عضو في الأمم المتحدة"، محذرا من "تبعات سلبية على التوتر وعدم الاستقرار الإقليمي"، وشدد الملك عبر البيان الصادر باسمه على أن "الدبلوماسية والقانون الدولي هما الطريق لتحقيق الأمن"، وأن "الأردن لن يكون ساحة حرب لأحد".
من جهتها، أعادت السلطات فتح الأجواء بعد تقييم المخاطر، مع بقاء استعداداتها عالية وبحذر مستمر، وأكدت المملكة على سياسة "النأي بالنفس" من الصراع، عبر تصريحات مدير الإعلام العسكري: "الأردن اختار النأي بنفسه عن هذا التصعيد، وعدم الانخراط في الصراع الإيراني‑الإسرائيلي".
وفي خطوة عملية أظهرت الالتزام بالحفاظ على أمن أجوائها ومواطنيها، فقد أعلن الجيش الأردني اعتراضه لعدد من الصواريخ والمسيرات، وأكد أن "أي خرق للأجواء هو محاولة لجر الأردن إلى الصراع"، مؤكدا رفع الجاهزية على الحدود الجوية والبرية والمعابر.
بشكل عام، يمكن القول إن الأردن اتخذ استراتيجية تمثّلت بخطوة ثلاثية:
1. إغلاق الأجواء مؤقتا واعتراض الأجسام غير المصرح بها لحماية الأمن القومي.
2. الإدانة الدبلوماسية للعدوان الإسرائيلي على إيران باعتباره انتهاكا للقانون الدولي.
3. التمسك بخيار "النأي بالنفس"، وتحذير قوي من جر المملكة إلى الصراع، مع تفعيل المسارات الدبلوماسية لحماية الاستقرار الإقليمي.
الأزمة ألقت ظلالها الثقيلة على الإعلام الأردني المستنفر ضد ما يراه كثيرون "استهدافا" مبرمجا من عدة جهات إقليمية بأذرع داخلية موجها نحو "تثوير" الشارع الأردني.
بدأت مؤشرات الأسواق العالمية تتأثر، من أسعار النفط التي قفزت بشكل حاد، إلى اضطراب سلاسل التوريد، مما ينعكس مباشرة على الأردن الذي يعتمد في الكثير من وارداته على استقرار المنطقة
وحسب طلال غنيمات، المدير التنفيذي لمؤسسة "مسارات" الأردنية وهي أحد مراكز التفكير في العاصمة الأردنية عمان، فإن "بعض الجهات المرتبطة بالمشروع الإيراني، تنشط مؤخرا في ترويج روايات ملفقة عبر حملات إلكترونية مكثفة، تزعم أن الأردن سمح باستخدام مجاله الجوي لإسقاط الصواريخ الإيرانية المتجهة نحو إسرائيل، وهي ادعاءات تفتقر إلى أي دليل حقيقي، وتتنافى مع الواقع الجيوسياسي والدور الأردني المتوازن في الإقليم".
ويرى غنيمات أن "هذه المحاولات تستهدف التشويش على الموقف الرسمي الأردني، المعروف برفضه التورط في صراعات المحاور، وسعيه الدائم إلى نزع فتيل الأزمات، لا تأجيجها". وأضاف أن "هذا النوع من الحملات لا يمكن فصله عن السياق العام لحرب الرواية وتزييف الوعي، الذي يُستخدم فيه الإعلام الرقمي كسلاح متقدم لخلق الشكوك وزرع الانقسامات داخل المجتمعات".
السيدة تمارا الخزوز وهي كاتبة متخصصة في الاتصال الاستراتيجي، كان لها رأي لافت في التعاطي الإعلامي للدولة الأردنية مع مجمل تداعيات المواجهة الإقليمية الأخيرة بقولها: "إن التعاطي الإعلامي الأردني مع ما يحدث في المواجهة الراهنة، والتصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، يواجه تحديات على عدة مستويات".
وركزت الخزوز على اثنين من التحديات، وحسب رؤيتها:
"التحدي الأول هو قدرة الدولة على السيطرة على مركزية الرسائل الرسمية في هذا السياق، وحصرها في جهتين لا ثالث لهما: وزارة الخارجية، فيما يخص الجانب الدبلوماسي/السياسي من المسألة، والقوات المسلحة الأردنية، فيما يتعلق بالتصدي للهجمات الجوية والصاروخية.
التحدي الآخر، والمرتبط بذلك، هو الفجوة الاحترافية بين ما يصدر عن الدولة عبر هاتين الجهتين، وما يصدر عمن يحاول "تجويد" الرواية الرسمية. وهي إشكالية جذرها الأصلي وجود عدد هائل من المسؤولين السابقين الموجودين بكثافة في المشهد الإعلامي إلى درجة لم يعد الجمهور قادرا على التمييز بين من يتحدث باسم الدولة ومن يتبرع بالحديث عنها".
ونوهت الخزوز بما يشبه التنبيه إلى أن "الدولة الأردنية، لغاية اللحظة، لم تضبط هذا الإيقاع، وهو ما سيُحدث أضرارا على المدى القريب والبعيد، أولها تفويت الفرصة لاكتساب الحضور في منصات إعلامية جديدة، وبالتالي جمهور جديد، وهو جمهور– بالمناسبة– وقتي، لا يهتم إلا بقضايا المنطقة عند تصاعد التوتر، ويختفي مع التهدئة".
اقتصاديا، بدأت مؤشرات الأسواق العالمية تتأثر، من أسعار النفط التي قفزت بشكل حاد، إلى اضطراب سلاسل التوريد في الشرق الأوسط، مما ينعكس مباشرة على الأردن الذي يعتمد في الكثير من وارداته على استقرار المنطقة. وفي حال تصاعدت المواجهة، فسيناريو النزوح السكاني وفتح جبهات غير محسوبة قد تصبح كابوسا أمنيا للأردن، كما كانت الحال في حروب سابقة.
دخان يتصاعد من منشأة نفطية في العاصمة طهران جراء الغارات الإسرائيلية، 16 يونيو 2025
لكن التأثيرات الاقتصادية ستكون بفواتير عالية بعضها بأجل قريب، ومرشحة للتصاعد طرديا مع طول أمد المواجهة.
الدكتور إبراهيم سيف وهو أحد أهم خبراء الاقتصاد الأردني ووزير سابق للطاقة والتخطيط والتعاون الدولي، أوضح بصراحة حجم التداعيات السلبية على الاقتصاد الأردني بقوله: "إن أول قطاع متضرر هو قطاع السياحة"، والذي يعتبره الخبير الاقتصادي سيف ثاني أهم قطاع اقتصادي في الأردن، حيث يرى أن فشل الموسم السياحي بدأ من اللحظة الأولى لهذه المواجهة إثر إغلاق المجالات الجوية ومن بينها المجال الجوي الأردني وإلغاء كثير من شركات الطيران الدولية حجوزات سفر مسبقة لقادمين أغلبهم سياح موسم الصيف، والإلغاءات شملت شهرا قادما في بعض الشركات. وهو ما أضر بموسم السياحة الذي يكاد أن يبدأ، ويشكل ضربة للإيرادات المتحققة من قطاع السياحة والتي تأتي من نشاطات سياحية مباشرة أو غير مباشرة.
أما في الطاقة، فيؤكد الدكتور سيف أن ارتفاع أسعار النفط سيكون له انعكاساته المباشرة على الفاتورة التفطية الأردنية، وسيتم عكس الأسعار العالمية المرتفعة على المعادلات السعرية في السوق الأردني، مضيفا أن تلك الارتفاعات السعرية المكلفة ستشكل تضخما في معادلات الاقتصاد المنهك أساسا، أكثر من أن تحولها الحكومة إلى عجز إضافي على الموازنة.
في عمّان، المطلوب الآن أعلى درجات الحذر، ليس فقط من الانجرار في اصطفافات حادة، بل من فقدان القدرة على صياغة موقف مستقل يحفظ الأمن دون أن يُغضب الحلفاء
وفيما يتعلق بالغاز، الذي يعتمد عليه الأردن لتوليد الكهرباء، أوضح وزير الطاقة السابق إبراهيم سيف أن ما عنده من معلومات يفيد بأن مخزون الغاز حاليا يكفي لمدة شهر قادم فقط، لكن إذا تواصلت المواجهة الراهنة، واستمر انقطاع الغاز الإسرائيلي أو تم توقيف التزويد لمدة أطول فإن ذلك ستكون له آثار سيئة جدا وأكثر مما يتصور البعض على الاقتصاد الأردني.
جدير بالذكر أن 85 في المئة من محطات التوليد الكهربائية تعتمد على الغاز في عملياتها، وباستثناء مشروع العطارات الذي يولد الكهرباء بطرق أكثر فعالية فإن قطاع الكهرباء مضطر إذا استمر انقطاع تزويد الغاز اللجوء إلى الوقود الثقيل وهو ما سيضيف كلفة باهظة على فواتير الكهرباء.
في المحصلة، وعلى مستوى إقليمي وأبعاد عالمية لكل هذا الصراع "الداشر" في شرق المتوسط، فإن الملف النووي الإيراني بعد الضربة لم يمت، لكنه بلا شك تغير جذريا، والاتفاقيات لم تعد قائمة بشروط ما قبل المواجهة الأخيرة، وطهران حسب الوارد من أخبار، بدأت تعيد تشغيل منشآت جديدة وتلعب على وتر الانسحاب من معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي، وهذا بدوره سيعقّد أي محاولة لإحياء التفاوض، ويدفع إلى واقع جديد تكون فيه إيران أقرب من أي وقت مضى إلى قنبلة نووية، وهو ما كانت إسرائيل تحاول منعه أساسا.
لكن السؤال الأخطر الآن: هل تدرك تل أبيب أن كلفة الحسم قد تكون أعلى من كلفة الاحتواء؟ وهل تعي واشنطن أن صمتها أو تواطؤها– إن صح التعبير– في هذه الضربات، يُفقدها مكانتها كوسيط دولي محايد؟
أما في عمّان، فالمطلوب الآن أعلى درجات الحذر، ليس فقط من الانجرار في اصطفافات حادة، بل من فقدان القدرة على صياغة موقف مستقل يحفظ الأمن دون أن يُغضب الحلفاء. فالأردن دولة محورية في التوازن الإقليمي، وأي انزلاق خاطئ قد يكون باهظ الثمن داخليا وخارجيا.
في هذه اللحظة المعقدة، نحتاج أكثر من أي وقت مضى لعقل بارد، فالصراع ليس فقط بين طهران وتل أبيب، بل بين استراتيجيات متصارعة لرسم مستقبل المنطقة، والنجاة فيه لا تكون بالصوت العالي، بل بالهدوء الحازم والحنكة السياسية، وهي أدوات لطالما امتلكتها عمّان، ويُفترض أن لا تتخلى عنها الآن.