تداعيات مواجهة إسرائيل وإيران على حرب أوكرانيا

بعد انتهاء حرب الـ12 يوما، هل تواصل طهران دعم موسكو في مجهودها الحربي ضد كييف؟

رويترز
رويترز
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في حفل توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين، في الكرملين، روسيا، 17 يناير 2025

تداعيات مواجهة إسرائيل وإيران على حرب أوكرانيا

لندن - قد تؤدي حرب الـ12 يوما بين إسرائيل وإيران إلى تداعيات بالغة الأهمية على الحرب المستعرة في أوكرانيا، لما قد تسببه من اضطراب في تدفق الدعم العسكري الإيراني إلى موسكو.

وفي أعقاب وقف النار بعد قرار إدارة الرئيس دونالد ترمب قصف منشآتها النووية، ستجد إيران صعوبة أكبر في مواصلة إمداد روسيا بالدعم العسكري الحيوي، لأن الضربة الأميركية ستجبر طهران على تحويل كامل مواردها العسكرية نحو حماية جبهتها الداخلية والتصدي لأي هجمات إضافية محتملة من الولايات المتحدة أو إسرائيل.

منذ اندلاع الصراع في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022، لعبت إيران دورا متناميا في تزويد روسيا بالدعم العسكري الذي تحتاجه بشدة في إطار حملتها للسيطرة على أجزاء واسعة من الأراضي الأوكرانية.

وقد أثبتت الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية الإيرانية، إلى جانب معدات عسكرية أخرى، فعالية حاسمة في استمرار العمليات الروسية، حيث استُخدمت بكثافة في استهداف منشآت استراتيجية أوكرانية، من بينها البنية التحتية للطاقة والمواقع العسكرية.

جاء هذا الدعم العسكري نتيجة التحالف الاستراتيجي المتعمق بين موسكو وطهران، وهو تحالف شهد تطورا ملحوظا منذ بدء الغزو الروسي. وتجلى هذا التعاون العسكري خلال الزيارة النادرة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران في يوليو/تموز 2022، حيث التقى المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، في اجتماع وُصف حينها بالمفصلي.

في إطار المقايضة العسكرية بين البلدين، سعت طهران بإلحاح إلى الحصول على أسلحة متطورة من موسكو مقابل دعمها العسكري المستمر، مركّزة على أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة مثل "إس-400"

وأفاد جاك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأميركي آنذاك، أن واشنطن تمتلك معلومات استخباراتية تؤكد استعداد طهران لتوريد مئات الطائرات المسيرة من طراز  (UAVs) إلى روسيا ضمن جدول زمني مُسرّع، مشيرا كذلك إلى نية إيران تدريب الجنود الروس على تشغيل تلك الأنظمة.

وظهرت معالم التحالف الاستراتيجي بشكل أوضح في تصريحات خامنئي عقب لقائه بوتين، حيث أكد الطرفان التزامهما بتعزيز أواصر التعاون الثنائي، محمّلين الغرب مسؤولية إشعال فتيل الأزمة الأوكرانية. وقال خامنئي موجها حديثه إلى بوتين: "لولا المبادرة الروسية، لسبقكم الطرف الآخر بإشعال فتيل الحرب".

وفي خضم هذا التعاون، وجهت أميركا  اتهامات جديدة لطهران بتزويد موسكو بصواريخ باليستية متوسطة المدى لاستخدامها في أوكرانيا، وهو ما نفته إيران بشكل قاطع. ولم يؤكد الكرملين هذه الاتهامات أو ينفها، مكتفيا بالإشارة إلى أن التعاون العسكري مع إيران يشمل "مجالات شديدة الحساسية".

أ.ف.ب
تفعيل أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية لاعتراض الصواريخ الإيرانية فوق تل أبيب في 18 يونيو 2025

وقد شهدت العلاقات بين البلدين دفعة قوية بعد زيارة بوتين إلى طهران، تُوّجت باستقبال الكرملين للرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، في يناير/كانون الثاني 2025. وأسفرت تلك القمة عن توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية مدتها عشرون عاما، وُصفت بأنها تمثل نقلة نوعية في العلاقات بين الطرفين، وتشمل مجالات متعددة أبرزها التجارة والطاقة والنقل.

تعهد روسي بالتعاون العسكري مع إيران

وبموجب المادة الثالثة من الاتفاقية، التي وُقعت قبل ثلاثة أيام فقط من تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترمب لولايته الثانية في يناير/كانون الثاني 2025، تعهدت موسكو وطهران بتعزيز التعاون العسكري، عبر دمج القدرات الدفاعية لمواجهة التهديدات الأمنية المشتركة، وتنظيم مناورات عسكرية دورية.

وفي إطار المقايضة العسكرية بين البلدين، سعت طهران بإلحاح إلى الحصول على أسلحة متطورة من موسكو مقابل دعمها العسكري المستمر، مركّزة على أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة مثل "إس-400"، والمقاتلات الحديثة من طراز "سوخوي-35"، في محاولة لتعزيز قدراتها الردعية في مواجهة التهديدات الإسرائيلية المتزايدة.

وقد ظلّت إيران تسعى حثيثا للحصول على مقاتلات "سوخوي-35" الروسية لتعويض تقادم أسطولها الجوي الذي أنهكته العقوبات الدولية لسنوات. غير أن هذه الطموحات اصطدمت بالواقع، إذ اقتصرت المساعدات الروسية على تسليم عدد محدود من طائرات التدريب "ياك-130" في عام 2023، وهو ما يعكس تردّد الكرملين في الاستجابة الكاملة للمطالب الإيرانية.

احتدام المواجهة بين إسرائيل وإيران، إلى جانب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالتدخل المباشر في هذا النزاع، قد أثار قلقا بالغا في موسكو حيال قدرتها على مواصلة عملياتها العسكرية في أوكرانيا

وشكّل الجانب المالي والدفاعي محورا رئيسا في الحسابات الاستراتيجية لطهران، التي سعت إلى انتزاع التزامات ملموسة من موسكو لدعم اقتصادها وهيكلها العسكري. ويأتي هذا ضمن سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التوسعية، الذي عمد إلى تعزيز تحالفاته الدولية من خلال اتفاقيات مماثلة، أبرزها الصفقة التاريخية مع كوريا الشمالية العام الماضي، والتي أرست أسسا قوية للتعاون العسكري والاقتصادي بين الطرفين.

وقد نصّ الاتفاق بين موسكو وبيونغ يانغ على التزام متبادل بتقديم دعم عسكري فوري في حال تعرض أي من الجانبين لهجوم مسلح. وقد تُرجم ذلك ميدانيا بإرسال كوريا الشمالية أكثر من 10 آلاف جندي من قواتها الخاصة إلى جبهة كورسك دعما للجيش الروسي، حيث تكبّدت هذه القوات خسائر فادحة بلغت قرابة 2000 بين قتيل وجريح، وفق تقديرات استخباراتية أوكرانية وتقارير صادرة عن مراكز دراسات غربية.

غيتي
دبابة أوكرانية من طراز T64 تطلق نيرانها على مواقع للقوات الروسية في مقاطعة دونيتسك، أوكرانيا، في 9 يناير 2024

ورغم غياب بند الدفاع المشترك في الاتفاقية الروسية-الإيرانية، على خلاف معاهدات موسكو مع كل من بيونغ يانغ ومينسك، فإنها تنص صراحة على التزام الطرفين بعدم تقديم أي دعم عسكري أو لوجستي أو تقني لأي قوة معتدية في حال تعرض أحدهما لهجوم مسلح من دول معادية.

يضع هذا البند الاستراتيجي موسكو أمام معضلة دبلوماسية، إذ تُجبر التزاماتها تجاه طهران الكرملين على التوازن الحذر في التعامل مع التصعيد الإسرائيلي-الإيراني. فبوتين، الذي يسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من تل أبيب وطهران، وجد نفسه في مفترق طرق عقب اندلاع المواجهات، ما دفعه إلى تكثيف الاتصالات مع الطرفين، بما في ذلك محادثات مع القيادة الإيرانية ولقائه وزير الخارجية عباس عراقجي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

غير أن احتدام المواجهة بين إسرائيل وإيران، إلى جانب قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالتدخل المباشر في هذا النزاع، قد أثار قلقاً بالغا في موسكو حيال قدرتها على مواصلة عملياتها العسكرية في أوكرانيا. فتركيز طهران على الدفاع عن منشآتها الحيوية في مواجهة الضربات الجوية الإسرائيلية قد يُضعف إلى حد كبير قدرتها على الاستمرار في تزويد موسكو بالطائرات المسيرة والصواريخ، التي تعتمد عليها الجبهة الأوكرانية بشكل حاسم.

الهجمات الجوية الواسعة التي استهدفت المواقع النووية الإيرانية لم تكشف فقط عن حجم القوة العسكرية الأميركية الساحقة، بل أظهرت أيضا أن بكين وموسكو لم تكونا في موقع يمكّنهما من الدفاع عن طهران فعليا

ولم تقتصر الضربات الإسرائيلية على تعطيل المنشآت النووية الإيرانية، بل تجاوزت ذلك لتطال القدرات التصنيعية الحيوية، حيث شلّت الغارات الدقيقة خطوط إنتاج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة، ما أدى إلى تقليص جوهري في قدرة إيران على تجديد ترسانتها العسكرية وتلبية احتياجاتها الدفاعية، فضلا عن دعم حلفائها.

شكّل تعطيل البرامج النووية والصاروخية الإيرانية الركيزة الأساسية للعملية العسكرية الإسرائيلية التي أُطلق عليها اسم "الأسد الصاعد"، في منتصف يونيو/حزيران 2025. وتمحورت الأهداف الاستراتيجية للعملية حول تحييد القدرات الإيرانية في مجالي الطاقة النووية والأسلحة بعيدة المدى.

ولتحقيق هذه الأهداف، شنّت القوات الإسرائيلية هجوما ليليا مركزا استهدف منظومة متكاملة من المنشآت الحيوية داخل إيران، مستخدمة مزيجا من الطائرات المسيرة المتطورة والصواريخ الدقيقة، أطلقتها وحدات عمليات خاصة منتشرة في مواقع استراتيجية داخل الأراضي الإيرانية.

ووفقا  لمصادر استخباراتية إسرائيلية، استخدمت القوات طائرات مسيرة "كاميكاز" ذاتية التدمير، وصواريخ "هاروب" المتجولة المضادة للدروع، في عمليات نوعية لتعطيل منظومة الدفاع الجوي الإيراني وتدمير منصات إطلاق الصواريخ، ضمن استراتيجية تهدف إلى تقليص القدرات الهجومية الإيرانية ضد الأراضي الإسرائيلية.

وقد ظهرت فعالية هذا التكتيك الإسرائيلي بوضوح منذ بداية المواجهة، إذ كشفت وثائق استخباراتية أن القدرة الصاروخية الإيرانية تراجعت من 1000 صاروخ كانت تخطط لإطلاقها في الموجة الأولى، إلى 100 صاروخ فقط أُطلقت فعليا، ما يعكس نجاحا استراتيجياً في شل القدرات الإيرانية الهجومية.

ويُثير عجز إيران عن توفير ترسانة عسكرية كافية لحماية أمنها القومي مخاوف جدية لدى موسكو، إذ يُرجّح أن تفقد طهران قدرتها على الاستمرار في تزويد روسيا بالمعدات الحربية، خصوصا الطائرات المسيرة والصواريخ، بالكثافة نفسها التي سبقت اندلاع الحرب مع إسرائيل.

أ.ف.ب
المرشد الإيراني علي خامنئي خلال اجتماع مع أعضاء من ميليشيا الباسيج الإسلامية التطوعية في طهران، في 25 نوفمبر 2024

يشكّل التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل مصدر قلق بالغ لكل من روسيا والصين، نظرا لمصالحهما الاستراتيجية المتشابكة مع طهران. فإلى جانب العلاقات الأمنية الوثيقة، تعتمد بكين على النفط الإيراني لتلبية جزء من احتياجات الطاقة لديها. وقد أصدرت موسكو وبكين إدانة مشتركة للعمليات العسكرية الإسرائيلية، خشية تداعياتها على استقرار الحليف الإيراني وقدرته على الوفاء بالتزاماته الدولية.

وقد أثار قرار إدارة ترمب بشنّ هجوم عسكري على إيران قلقا بالغا في كل من موسكو وبكين. فالهجمات الجوية الواسعة التي استهدفت المواقع النووية الحيوية الإيرانية لم تكشف فقط عن حجم القوة العسكرية الأميركية الساحقة، بل أظهرت أيضا أن كلتا العاصمتين، عل الرغم من ادعائهما بمتانة تحالفهما مع طهران، لم تكونا في موقع يمكّنهما من الدفاع عنها فعليا. ففي حين أدانت موسكو الغارات الأميركية بشدة، ووصفتها بأنها "تصرف غير مسؤول" و"انتهاك صارخ للقانون الدولي"، فإنها أظهرت قدرا ضئيلا من الرغبة في الانخراط في صراع جديد.

أما السفير الصيني لدى الأمم المتحدة، فقد دان الهجوم بدوره، ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء الأعمال العدائية.

يعتمد بقاء التحالف الروسي-الإيراني، الذي لعب حتى الآن دورا محوريا في المجهود الحربي الروسي بأوكرانيا، على مدى قدرة النظام الإيراني على الصمود أمام أزمته الراهنة

ويُضاف إلى هذه المخاوف التهديد المتصاعد من جانب إيران بالانسحاب من معاهدة عدم الانتشار النووي (NPT)، وتصعيد برنامجها النووي، وهو ما تعتبره طهران ردا مشروعا على ما تصفه بالعدوان الخارجي والضغوط الغربية.

مثل هذا التطور قد يُعيد تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية. ولا ننسَ أن تأكيد الرئيس ترمب، عقب الضربات الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية، أن هذه المواقع قد "دُمّرت بالكامل"، لا يلغي نهائيا المخاوف القائمة من أن تكون طهران تحتفظ بكميات من اليورانيوم عالي التخصيب يمكن استخدامها في تصنيع رؤوس نووية.

غيتي
طواقم دبابات أوكرانية من طراز T64 تُطلق نيرانها على مواقع القوات الروسية في 9 يناير 2024 في مقاطعة دونيتسك، أوكرانيا

ورغم امتلاك موسكو وبكين ترسانتين نوويتين ضخمتين، فإنهما تتبنيان موقفا معارضا واضحا لامتلاك إيران للسلاح النووي، لما في ذلك من خطر فقدانهما إحدى أدوات الضغط والردع، وإنهاء احتكارهما للنفوذ النووي في منطقة ذات أهمية استراتيجية، ما يعني إعادة رسم خريطة القوى الإقليمية ويُقلص هامش المناورة أمام قيادتيهما.

وتضاف إلى هواجس الكرملين مخاوفه من تقلّص نفوذه الإقليمي، خاصة مع فقدان إيران، بعد سقوط نظام الأسد في سوريا، كحليف استراتيجي. هذا التدهور المتتالي في التحالفات لا يُهدد الوجود الروسي في الشرق الأوسط فحسب، بل يُنذر بفقدان موسكو قدرتها على التأثير في المعادلات الجيوسياسية، في وقت يتزايد فيه النفوذان الأميركي والصيني في المنطقة.

وقد ولّد هذا التقارب الإيراني-الروسي انقسامات داخل النخبة الحاكمة في طهران، إذ يرى تيار الإصلاحيين أن التحالف مع موسكو أحبط محاولاتهم تحسين العلاقات مع الغرب وإعادة ربط إيران بالمجتمع الدولي. وجاءت إقالة محمد جواد ظريف، مهندس الاتفاق النووي والوجه المعتدل في الدبلوماسية الإيرانية، من منصب نائب الرئيس في مارس/آذار 2024، لتؤجج هذه التكهنات. ويُعزى القرار، في الغالب، إلى تصاعد التوتر بين جناحي الاعتدال والتشدد داخل النظام، حول سياسة الدعم غير المحدود لروسيا.

ويعتمد بقاء التحالف الروسي-الإيراني، الذي لعب حتى الآن دورا محوريا في المجهود الحربي الروسي بأوكرانيا، على مدى قدرة النظام الإيراني على الصمود أمام أزمته الراهنة بعد إعلان الرئيس دونالد ترمب وقف إطلاق النار غداة قصف المنشآت النووية الإيرانية في 22 يونيو.

font change

مقالات ذات صلة