بدأ لبنان أولى محاولاته في بناء الدولة مع استقلاله عام 1943. واستمر ذلك البناء قرابة 25 عاما قبل أن تفقد الدولة قبضتها على كل من السيادة والنظام الداخلي، مستسلمة للتدخلات الإقليمية والصراعات الأهلية وصعود أطراف فاعلة غير حكومية. واليوم، بعد مضي 82 عاما، يجد البلد نفسه في لحظة مفصلية: فرصة ثانية نادرة لاستعادة سيادته، وإعادة بناء مؤسساته، ورسم مسار وطني جديد.
لقد غدت هذه اللحظة ممكنة بفضل تطورين جذريين اثنين. الأول، إضعاف هيمنة "حزب الله" العسكرية والسياسية، هذه الهيمنة التي قوضت الدولة اللبنانية طيلة ثلاثة عقود. الثاني، انهيار نظام الأسد في سوريا، هذا النظام الذي مارس تأثيرا خانقا على الشؤون اللبنانية طيلة أكثر من خمسين عاما. والآن مع إضعاف هذين القيدين أو زوالهما، يمكن للدولة اللبنانية أن تعيد تأكيد وجودها، إنْ هي امتلكت الإرادة والقدرة على ذلك.
انتخب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية في 9 يناير/كانون الثاني 2025. وفي 8 فبراير/شباط، أي بعد شهر من ذلك، شكلت حكومة إصلاحية برئاسة رئيس الوزراء نواف سلام. واليوم، وبعد مرور أكثر من 150 يوما على تولي هذه القيادة الجديدة مهامها، بدأت في معالجة المهام الجسيمة المتمثلة في استعادة السيادة وإعادة بناء الحكم وإحياء الاقتصاد.
إعادة فرض السيادة: جنوب الليطاني
لعل انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني من أبرز الإنجازات التي تحققت حتى الآن. فقد ظلت هذه المنطقة، لسنوات طويلة، تحت هيمنة "حزب الله". ولكن اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي توصّل إليه لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 سمح للجيش بهذا الانتشار. وبموجب الاتفاق، وافق "حزب الله" على تسليم مواقعه وأسلحته جنوب النهر، ما أتاح للجيش اللبناني استعادة السيطرة على هذه المنطقة الحيوية.
وهذه هي المرة الأولى التي تمارس فيها الدولة اللبنانية سلطة فعلية في الجنوب منذ أواخر ستينات القرن الماضي. ورغم أن العملية لم تكتمل بعد، ولم يُزَح "حزب الله" بالكامل من هناك، فإن التقدم المحرز بات ملموسا. غير أن عقبة رئيسة لا تزال قائمة، إذ تواصل إسرائيل احتلال خمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية، في انتهاك واضح للاتفاق. ومع تعزيز الجيش اللبناني لوجوده، ستكون الوساطة الأميركية حاسمة للضغط على إسرائيل لإكمال انسحابها وتنفيذ الاتفاق كاملا.