لبنان أمام فرصته الثانية لبناء الدولة

قطاعات نافذة من النخبة المالية اللبنانية تضغط بشدة لتأجيل أو تخفيف القوانين الاصلاحية

غيتي
غيتي
احتفال شعبي بعد انتخاب البرلمان اللبناني قائد الجيش جوزيف عون رئيسا جديدا، في بلدته، العيشية، جنوب لبنان في 9 يناير 2025

لبنان أمام فرصته الثانية لبناء الدولة

بدأ لبنان أولى محاولاته في بناء الدولة مع استقلاله عام 1943. واستمر ذلك البناء قرابة 25 عاما قبل أن تفقد الدولة قبضتها على كل من السيادة والنظام الداخلي، مستسلمة للتدخلات الإقليمية والصراعات الأهلية وصعود أطراف فاعلة غير حكومية. واليوم، بعد مضي 82 عاما، يجد البلد نفسه في لحظة مفصلية: فرصة ثانية نادرة لاستعادة سيادته، وإعادة بناء مؤسساته، ورسم مسار وطني جديد.

لقد غدت هذه اللحظة ممكنة بفضل تطورين جذريين اثنين. الأول، إضعاف هيمنة "حزب الله" العسكرية والسياسية، هذه الهيمنة التي قوضت الدولة اللبنانية طيلة ثلاثة عقود. الثاني، انهيار نظام الأسد في سوريا، هذا النظام الذي مارس تأثيرا خانقا على الشؤون اللبنانية طيلة أكثر من خمسين عاما. والآن مع إضعاف هذين القيدين أو زوالهما، يمكن للدولة اللبنانية أن تعيد تأكيد وجودها، إنْ هي امتلكت الإرادة والقدرة على ذلك.

انتخب العماد جوزيف عون رئيسا للجمهورية في 9 يناير/كانون الثاني 2025. وفي 8 فبراير/شباط، أي بعد شهر من ذلك، شكلت حكومة إصلاحية برئاسة رئيس الوزراء نواف سلام. واليوم، وبعد مرور أكثر من 150 يوما على تولي هذه القيادة الجديدة مهامها، بدأت في معالجة المهام الجسيمة المتمثلة في استعادة السيادة وإعادة بناء الحكم وإحياء الاقتصاد.

إعادة فرض السيادة: جنوب الليطاني

لعل انتشار الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني من أبرز الإنجازات التي تحققت حتى الآن. فقد ظلت هذه المنطقة، لسنوات طويلة، تحت هيمنة "حزب الله". ولكن اتفاق وقف الأعمال العدائية الذي توصّل إليه لبنان وإسرائيل بوساطة أميركية في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 سمح للجيش بهذا الانتشار. وبموجب الاتفاق، وافق "حزب الله" على تسليم مواقعه وأسلحته جنوب النهر، ما أتاح للجيش اللبناني استعادة السيطرة على هذه المنطقة الحيوية.

وهذه هي المرة الأولى التي تمارس فيها الدولة اللبنانية سلطة فعلية في الجنوب منذ أواخر ستينات القرن الماضي. ورغم أن العملية لم تكتمل بعد، ولم يُزَح "حزب الله" بالكامل من هناك، فإن التقدم المحرز بات ملموسا. غير أن عقبة رئيسة لا تزال قائمة، إذ تواصل إسرائيل احتلال خمس نقاط داخل الأراضي اللبنانية، في انتهاك واضح للاتفاق. ومع تعزيز الجيش اللبناني لوجوده، ستكون الوساطة الأميركية حاسمة للضغط على إسرائيل لإكمال انسحابها وتنفيذ الاتفاق كاملا.

أتاح انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 آفاقا جديدة للعلاقات اللبنانية-السورية. ومع أن معظم اللبنانيين رحبوا بنهاية حكم بشار الأسد، فلم يرحب "حزب الله" وحلفاؤه بذلك

شمال الليطاني: طريق أصعب

يشكل شمال الليطاني تحديا أكثر تعقيدا. فقد التزم كل من الرئيس ورئيس الوزراء بإعادة فرض احتكار الدولة للقوة واستخدامها. ويشمل ذلك مهمتين: نزع سلاح الفصائل الفلسطينية في مخيمات اللاجئين، ونزع سلاح "حزب الله".

وقد زار رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بيروت، في مايو/أيار، ووافق على بدء عملية نزع سلاح الفصائل الفلسطينية. ومن المقرر أن تبدأ هذه العملية في المخيمات التي تسيطر عليها حركة "فتح"، وفي بيروت أولا. أما في المخيمات التي تسيطر عليها "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وفصائل أخرى، فسيكون المضي بنزع السلاح فيها أكثر صعوبة.

أما نزع سلاح "حزب الله" شمال الليطاني، وعلى الأخص سلاحه الثقيل والمتوسط، فقد وعد الرئيس بأن يبدأ ذلك جديا هذا العام، ولن يكون ذلك بالقوة بل بالتفاوض مع "الحزب". ومع حلول النصف الثاني من العام، علا صوت قيادة "حزب الله" صراحةً بأنه لن يتخلى عن سلاحه. ومن البديهي أن الدولة تُفضل الحل السياسي للمشكلة، على الرغم من ارتفاع الأصوات في البلاد التي تؤكد بأن على الدولة أن تبدأ باتخاذ إجراءات لنزع سلاح "الحزب" بالقوة، إذا لم ينزعه "الحزب" طوعا.

أ.ف.ب
الرئيس اللبناني جوزيف عون يرأس الاجتماع الأول للحكومة اللبنانية وإلى جانبه رئيس الوزراء نواف سلام، في القصر الرئاسي في بعبدا، لبنان في 11 فبراير

ليس واضحا بعد ما هو الهدف النهائي لـ"حزب الله". فـ"الحزب" يفتقر أولا إلى قائد محلي مهيمن، لا بل تتصارع على قيادته شخصيات وفصائل مختلفة، مما يجعل اتخاذ قرارات واضحة وجريئة أمرا أكثر صعوبة. أما الأمر الثاني، فقد باتت السفارة الإيرانية و"الحرس الثوري" الإيراني، بعد مقتل القيادة الأصلية لـ"الحزب"، هما اللذان يوجهان معظم عمليات صنع القرارات الهامة والرئيسة. ولم يستخدم الإيرانيون إلى اليوم نفوذهم المهيمن للضغط على "حزب الله" لنزع سلاحه واندماجه في الدولة اللبنانية، لا بل يبدو أنهم يفضلون أن يحتفظ "حزب الله" بما تبقى لديه من أسلحة، وذلك إما ليواصل دوره كقوة موازنة ضعيفة في مواجهة إسرائيل، أو لاستخدامها ضد النظام الجديد في سوريا، أو كورقة مساومة يمكن استخدامها في محادثات مستقبلية مع الولايات المتحدة. ولا يبدو أن هذا الموقف قد تغير منذ الهجمات الإسرائيلية والأميركية التي استهدفت إيران على مدى 12 يوما.

وفي المقابل، لا تُسهم الإجراءات الإسرائيلية في تحسين الوضع في لبنان، بل تثبت، برفضها الانسحاب من النقاط التي لا تزال تحتلها في الجنوب وشنها ضربات شبه يومية في لبنان، صحة حجج "حزب الله"، بأن الدولة اللبنانية لا تستطيع تحرير الأراضي اللبنانية، ولا تستطيع الدفاع عن سيادة البلاد ضد أي هجوم عسكري منظم.

يدرك "حزب الله" جيدا أن موقعه العسكري في لبنان قد دُمر، ومن غير المرجَح إعادة بنائه، كما يدرك جيدا أن الأموال اللازمة لإعادة إعمار بلدات وقرى أنصاره لن تتوفَر إلا بعد نزع سلاحه. ولا يزال الرئيس يأمل في إيجاد حل تفاوضي للمضي قدما في هذه المسألة، لكن الضغوط تتزايد على الدولة اللبنانية، داخليا ودوليا، للتوقف عن المماطلة واتخاذ خطوات واضحة لبدء عملية نزع سلاح "حزب الله".

العلاقات مع سوريا ما بعد الأسد

أتاح انهيار نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 آفاقا جديدة للعلاقات اللبنانية-السورية. ومع أن معظم اللبنانيين رحبوا بنهاية حكم بشار الأسد، فلم يرحب "حزب الله" وحلفاؤه بذلك. غير أن الحكومة اللبنانية الجديدة سعت إلى انفتاح دبلوماسي حذر على الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع. وزار رئيس الوزراء سلام دمشق في وقت سابق من هذا العام، في إشارة إلى استعداده للمشاركة البناءة.

بيدَ أن التوترات لا تزال قائمة بين البلدين. فلبنان يسعى إلى تسهيل عودة أكثر من مليون ونصف المليون لاجئ سوري، وإلى تطوير علاقات سياسية واقتصادية تعود بالفائدة على البلدين.

بعد عقود من النفوذ السوري والإيراني اللذين استثمرا في الإبقاء على دولة لبنانية متهالكة والحفاظ على "حزب الله" كوكيل قوي، أصبح للبنان الآن أصدقاء في الخليج العربي وأوروبا والولايات المتحدة

ومع أن سوريا تشاطرها الأهداف نفسها، فإن لها مخاوفها الخاصة: فهي تشك في أن فلول "حزب الله" ونظام الأسد ينفذون عمليات تهدف إلى زعزعة الاستقرار انطلاقا من الأراضي اللبنانية باتجاه الداخل السوري، ولا يزال يساورها القلق من أن الأجهزة الأمنية اللبنانية لا تزال تضم عناصر موالية لـ"حزب الله" والنظام السابق، فضلا عن مطالبتها بإعادة المعتقلين السوريين– وخاصة الإسلاميين– المحتجزين في السجون اللبنانية.

وأخيرا، تظل مسألة خسارة مليارات الدولارات من الأموال السورية في الانهيار المصرفي اللبناني مصدر توتر كبير بين الجانبين.

الإصلاح الاقتصادي: معركة المحاسبة

مع أن مسألتي الأمن والسيادة تحتلان مكان الصدارة، فإن قدرة لبنان على البقاء على المدى الطويل تتوقف على قدرته على إصلاح نظامه المالي المنهار. فمنذ انهيار القطاع المصرفي عام 2019، فُقد أكثر من 70 مليار دولار من الودائع، وانهارت معه الثقة بالمؤسسات العامة بشدة. ولذا، تعتمد مصداقية الحكومة الجديدة على قدرتها على تحقيق محاسبة حقيقية، وتنفيذ إصلاحات شاملة في النظام المالي.

أ.ف.ب
متظاهرون يرفعون أعلام إيران و"حزب الله" خلال مظاهرة نظمها "حزب الله" لإغلاق الطريق إلى مطار بيروت الدولي بسبب قرار منع طائرتين إيرانيتين من الهبوط في مطار بيروت في 15 فبراير 2025

هناك ثلاثة قوانين أساسية يرتكز عليها برنامج الإصلاح:

إصلاح سرية المصارف: أقر هذا القانون بالفعل، وهو يرفع الحماية عن السرية المصرفية، التي تتمتع بها البنوك منذ عقود، ويسمح بإجراء تدقيق جنائي في حالات سوء الإدارة المالية.

قانون إعادة هيكلة البنوك: وهو قانون معروض على البرلمان الآن، وينص هذا القانون على إنشاء آليات لتقييم مدى قدرة البنوك اللبنانية على البقاء، ويفرض عمليات إغلاق بنوك أو دمجها كما يسمح بإجراءات أخرى عند الضرورة.

إطار توزيع الخسائر: سيقدم هذا التشريع المهم قريبا، وهو يحدد الطريقة التي ستوزع بها الخسائر البالغة 70 مليار دولار، ما بين الدولة والبنك المركزي والبنوك الخاصة والمودعين.

أثارت هذه الإصلاحات مقاومة شرسة. فهناك قطاعات نافذة من النخبة المالية اللبنانية، وثيقة الصلة بالأحزاب السياسية والمؤسسات الإعلامية، تضغط بشدة لتأجيل أو تخفيف هذه القوانين. وقد يتبين في نهاية المطاف أن النضال من أجل المحاسبة المالية أصعب من حملة نزع سلاح "حزب الله"، إلا أنه لا يقل عنها أهمية لمستقبل البلاد.

الدعم الإقليمي والدولي

رحب المجتمعان الإقليمي والدولي على نحو إيجابي بالمسار الجديد للبنان. فبعد عقود من النفوذ السوري والإيراني اللذين استثمرا في الإبقاء على دولة لبنانية متهالكة والحفاظ على "حزب الله" كوكيل قوي، أصبح للبنان الآن أصدقاء في الخليج العربي وأوروبا والولايات المتحدة. وتشترك هذه الأطراف في أن من مصلحتها أن ترى لبنان ينهض كدولة ذات سيادة ومستقرة وقابلة للاستمرار اقتصاديا.

مع ذلك، يبقى هذا الدعم مشروطا. فعلى لبنان أن يُنجز واجباته الداخلية، سواء على صعيد استعادة السيادة أو الإصلاح الاقتصادي، قبل أن يتمكن من الانضمام ثانية إلى المجتمع الدولي على نحو كامل. وفي حال نجاح هذا التوافق الجديد، فقد ينفتح الباب أمام مساعدات واستثمارات كبيرة في مجال إعادة الإعمار، مما قد يضع الأساس لعصر جديد من النمو. 

يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق حاسم. فمع تراجع القيود الإقليمية، وتوافر قيادة محلية مؤهلة ووجود دعم دولي، تُتاح للبلاد فرصة نادرة لإعادة بناء نفسها كدولة ذات سيادة وفاعلة

كما يرتبط مستقبل لبنان أيضا بنتائج الأحداث في سوريا. فوجود دولة مستقرة فاعلة في سوريا، سيوفر شريكا أساسيا يساهم في تعافي لبنان. أما إذا تجدد عدم الاستقرار في سوريا فسيمثل انتكاسة كبيرة. وسيكون التنسيق الثنائي، والعلاقة البرغماتية بين بيروت ودمشق، أمرا بالغ الأهمية في السنوات المقبلة.

في الجنوب، ستتطلب جهود لبنان الهادفة إلى نزع سلاح "حزب الله" وفرض سيادة الدولة تدخلا دبلوماسيا أميركيا لضمان التزام إسرائيل باتفاق وقف إطلاق النار. لقد أعرب لبنان عن انفتاحه على خيار السلام مع إسرائيل، استنادا إلى موقفه ضمن الدول المؤيدة لمبادرة السلام العربية لعام 2002 ومعاييرها. ويعني هذا في الواقع أنه إذا تحققت الشروط التي وضعتها السعودية للتطبيع مع إسرائيل، وعلى رأسها إنهاء الحرب في غزة ورسم مسار واضح نحو إقامة الدولة الفلسطينية، فإن لبنان سيكون قادرا على أن يحذو حذوها.

الخلاصة: نافذة ضيقة ولكنها تاريخية

يقف لبنان اليوم عند مفترق طرق حاسم. فمع تراجع القيود الإقليمية، وتوافر قيادة محلية مؤهلة ووجود دعم دولي، تُتاح للبلاد فرصة نادرة لإعادة بناء نفسها كدولة ذات سيادة وفاعلة. ولكن هذه الفرصة لن تدوم إلى الأبد.

أ.ف.ب
جندي لبناني على برج مراقبة في منطقة وادي خالد في لبنان، عند الحدود اللبنانية - السورية شمال لبنان في 5 أكتوبر 2023

التحديات جسيمة: من نزع سلاح الميليشيات النافذة، إلى مواجهة المصالح المالية المتجذرة، واستعادة ثقة الجمهور، والتعامل مع بيئة إقليمية شديدة التقلب. ومع ذلك، فإن المكاسب المحتملة، أي السيادة والاستقرار والازدهار، لا تقل أهمية عن التحديات ذاتها.

إنها الفرصة الثانية للبنان لبناء دولته. وسيُبنى نجاحها على عزيمة قادته، ووعي مواطنيه، واستمرار دعم شركائه الإقليميين والدوليين. فإذا فشلت هذه الفرصة، فقد لا تُتاح للبنان فرصة ثالثة.

font change